الشعر والتلقي في الجاهلية
٢٧ تموز (يوليو) ٢٠٠٧ ، بقلم
الدكتور محمد بنلحسن 1-منزلة الشعر والشاعر:كانت للشعر في الجاهلية عند العرب مكانة مرموقة، لذا قال ابن سلام الجمحي: "وكان الشعر في الجاهلية عند العرب ديوان علمهم ومنتهى حكمهم به، به يأخذون وإليه يصيرون"(1). وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه"(2).
وبسبب هذه القيمة السامية جعلوه أعلى درجة من الخطابة هذا على الرغم من خطورة وجلال الخطيب، ولكن سلطان الشعر جعل الخطابة تتوارى، يقول أبو عمر بن العلاء: "كان الشاعر في الجاهلية يقدم على الخطيب، لفرط حاجتهم إلى الشعر الذي يقيد عليهم مآثرهم ويفخم شأنهم، ويهول على عدوهم ومن غزاهم، ويهيب من فرسانهم، ويخوف من كثرة عددهم، ويهابهم شاعر غيرهم فيراقب شاعرهم"(3).
تتجلى مظاهر التلقي في هذه النصوص، من خلال المكانة الرفيعة التي أعطاها الإنسان العربي للشعر، وذلك باتفاق الجميع، لقد كان الشعر لديهم مصدرا معتمدا، وحكما مقدما، وهذه المنزلة السامية التي تبوأها الشعر تكشف أثر الشعر في نفوسهم وانقيادهم لسلطانه.
إن المهام المتعددة التي اضطلع بها الشعر تفسر أحوال التلقي في هذا العصر، فما دامت العرب ترهبه وتهابه وتسمق به فإن أثره فيها جلي. لقد "كان الناس يحرصون عليه حرصهم على أعز الأشياء لديهم، وأثمنها في حياتهم، لأن في الشعر تنفيسا عن المكروب وغناء للواله"(4). لذا، كـان الشعر والشاعر كلاهما من وحي تلك البيئة الجاهلية ينقلان ما تمـور به مـن ألوان الشقاء والسعادة، والحروب والسـلام، إذا "فالشعر.. صـورة فنية موازيـة لحيـاة أصحـابه وأفكارهم وبيئتهم"(5).
إن هذه الوظيفة الجليلة، وتلك القيمة الرفيعة هما اللتان جعلتا الجاهلي يصغي لهذا الشعر ويرهبه ويحس في نفسه أحاسيس الافتخار والقوة خلال تلقيه واستقباله. و "الشعر الجاهلي في إطار ذلك صورة للبيئة التي صدر عنها أبناؤها بخصائصها وأشكالها، وقد نقلوها بعفوية مستمدة منها "(6)إنها بيئة جعلت الشعر سلاحها في الداخل والخارج، وهذا ما جعل التلقي يشغل مساحة واسعة، حيث ينتقل الأثر من أفراد القبيلة إلى أعدائها. ولهذه الأسباب "كانت القبيلة من العرب إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنأتها بذلك.."(7). بوأت القبيلة الشاعر المرتبة الأسمى، وقد يفوق زعيمها أحيانا، نظرا لحجم وجسامة المهام التي أناطه بها ميثاق القبيلة، وكل هذا يبرز لنا من جهة أخرى منزلة التلقي. فما سر تمجيد الشاعر؟ لأنه "حماية لأعراضهم وذب عن أحسابهم، وتخليد لمآثرهم، وإشادة بذكرهم"(
.
لقد سحب البساط ههنا من فارس الحسام ودانت الرقاب لفارس الكلمة الذي يردي خصومه صرعى بسحر ونفوذ منظوم فاخر، وليس بضربة سيف باتر. ومع هذه المكانة الجليلة للشعر والشاعر، ازدهر التلقي وتوسعت دائرته، لأنه محرك النفوس وباعث انفعالها وحاضها على الخير أو الشر. ووسط هذه الحظوة التي نالها الشعر والشاعر أمست مهمة الشاعر "في المجتمع العربي أخطر من دور العراف والساحر والكاهن.. وتأثير الساحر والكاهن محدود بعالمها.. أما تأثير الشاعر أوسع وأبعد بكثير، فإن كلمته يتسع تأثيرها ليشمل المجتمع كله"(9) ،حسب أحوالهم وأزمانهم.
2-المفاضلة بين الشعراء والتلقي:انتهى الأمر بالعرب في الجاهلية لفرط عنايتهم بالشعر وتنافسهم في إجادة نظمه، وسعيهم لحيازة قصب السبق في إبداع قصائده، إلى عرضه في الأسواق المشهورة على نظر شعراء فحول اتخذوهم حكاما على قصائدهم.
أتى في الموشح، أن النابغة الذبيـاني كانت "تضرب له قبة حمراء من أدم بسوق عكاظ فتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها"(10). هذا الأسلوب الذي نهجته العرب أمام الملإ، زيادة على دلالته على عنايتها الفائقة بالشعر إبداعا، فإنه أبلغ في التعبير عن إيلائها التلقي اهتماما مضاعفا. وهذا برهان على وعي العرب العميق والشديد بعناصر وأبعاد الظاهرة الشعرية. وقد أفضى هذا النهج ولاشك إلى توسيع قاعدة المتلقين، كما أفضى إلى إعلاء شأن الشعر وقائليه، كما شجع على الاحتفاء بالشعر تلقيا وحفظا في الصدور وما ينتج عن ذلك من أثر في النفوس. وقد ذاع تحكيم الفحول للفصل في شعر الشعراء، وصار تقليدا يلجأ إليه عند عسر القراء والاختيار، مما فسح دائرة التلقي أمام عدد كبير من المتلقين. ومما يروى في هذا الباب، تنازع امرئ القيس وعلقمة الفحل في الشعر، أيهما أشعر؟ فادعى كل واحد للآخر بأنه أشعر منه، فقال علقمة: "قد رضيت بامرأتك أم جندب حكما بيني وبينك. فحكماها، فقالت أم جندب لهما: قولا شعرا تصفان فيه فرسيكما على قافية واحدة، وروى واحد فقال امرؤ القيس: خليـلي مرا بي علـى أم جنـدب نقـض لبانـات الفـؤاد المعـذب (11)