الأمر بالمعروف وفعله

عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يُؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلقُ أقتابُ بطنه فيتدور بها كما يدور الحمارُ في الرحى، فيجتمع اليه أهل النار فيقولون: ما لك يا فلان؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه” صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه مسلم.

العلم حياة النفوس، وغذاء القلوب، ونور العقول والأبصار، ولكن ما أتعس الانسان وما أشقاه حين يصبح العلم وبالاً عليه، ويكون سبباً لهلاكه ودماره؟ فالرسول الكريم يخبر عن ذلك العالم الذي أعطاه الله العلم ورزقه الفهم والإدراك فكان يعلم الناس ويرشدهم ويعظهم ويذكرهم ويأمرهم بالخير وينهاهم عن الشر ولكنه ما كان يفعل الخير ولا يجتنب السوء والشر فكان فعله غير قوله ومظهره غير مخبره، ولذلك لم ينفعه علمه بل كان سبباً لدخوله جهنم، أفليس عجيباً أن يكون العلم وبالاً على الانسانية؟ وحقاً انها لصورة رهيبة تقشعر لها الأبدان وترتعد لها الفرائص صورة ذلك الرجل وقد اندلقت أمعاؤه من بطنه فأصبح يدور بها كما يدور الحمار بالرحى وأين ذلك يكون؟ في جهنم المتأججة بنيرانها الملتهبة بسعيرها والناس قد اجتمعوا عليه يسألونه مستغربين عن سبب هذا العذاب وعن سبب ذلك المصير المشؤوم؟ يقولون له: ألست أنت فلان الذي كنت تأمرنا في الدنيا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟

لو كان في العلم من دون التقى شرف

لكان أشرف خلق الله ابليس

أيها الأخ المسلم الكريم: تعال لنرى بلاغة الرسول في هذا الهدي النبوي الشريف:

قول الرسول الهادي “يؤتى بالرجل”: جملة خبرية من النوع الابتدائي والغرض افادة المخاطب الحكم الذي تضمنته الجملة ويسمى هذا النوع (فائدة الخبر). وفي قوله (كما يدور) تشبيه يسمى مرسلاً مفصلاً لأنه تام الأركان فالرجل يدور بأمعائه في جهنم، كما يدور الحمار برحى الطاحونة.

وفي قوله: “تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر” فيه من المحسنات البديعية ما يسمى بالمقابلة فلفظ تأمر مقابلها تنهى ولفظ المعروف يقابلها المنكر فهو يزيد التعبير جمالاً وبهاء ورفعه.

وفي قوله “بلى” تفيد معنى التحقيق وهي توجب ما يقال فإذا قيل ألست عالماً؟ فقلت: بلى فمعناه أنا عالم، وإذا قلت في الجواب: نعم معناه لست عالماً قال عبدالله بن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: “ألست بربكم قالوا بلى” قال لو قالوا: نعم لكفروا لأن المعنى يصبح لست ربنا وهذه تعبيرات دقيقة صدرت من أصدق فم عرفته البشرية من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحب الفصاحة والبلاغة.

وفي قوله: “ألم تكن تأمر” استفهام إنكاري الغرض منه التوبيخ واللوم لأن الإنكار اذا وقع في الاثبات يجعله نفياً واذا وقع في النفي يجعله اثباتاً لأن نفي النفي إثبات ونفي الإثبات نفي.

قال تعالى: “ألم يجدك يتيماً فأوى”: هنا دخل الاستفهام على النفي “لم” فصار المعنى إثباتاً اي قد وجدتك يتيما فآويتك.

أيها الأخ المسلم الكريم تأمل معي: خمسة مشاهد متوالية متعاقبة في هذه اللوحة الفنية بفعل الزمان: الالقاء في النار، اندلاق الامعاء، الدوران، اجتماع اهل النار، جواب المرائي في وعظه.

والمشهدان الأخيران عبارة عن حوار في احشاء النار، وقد كان ممكنا مع هول العذاب الشديد وذلك لعدم وجود الموت في عذاب الآخرة، ولتعدد أحوال أهل النار، وهكذا يترافق الرعب الشديد والقبح وفظاعته في المشاهد التي جاءت صورا حقيقية غير قائمة على المجاز، لكن مضمونها المتفرد الجديد يثير الخيال.

ويتجلى الرعب في مشهد لا يعهد في الدنيا، إذ يدور المرء بأمعائه وكأنه أصيب بصرع اذ يحار الى اين يذهب بما رأى من أمعائه، والدوران حركة متكررة في غاية اليأس والشديد بالاختناق بإطار الحركة الدائرية. ومما يزيد في تصوير العنف بروزا الجمالية الصوتية اذا انتفيت اصوات شديدة للتعبير “تندلق، أقتاب بطنه” وكأنما يصور الكسر بعد الفتح في تندلق خروج الامعاء بعد تجمعها في الجوف وهو خروج الى الاسفل، كما نجد صفة الاكراه في صيغة الفعلين “يُؤتى ويُلقى”، والبناء للمجهول له ميزتان: إيماء الى القوة الخارجية العظيمة التي تصنع ما تصنع، ولفت نظر المتلقي الى الحدث نفسه لأهميته التصورية ويتبدى القبح في مغايرة المشهد للمعهود، وفي تشبيه الدوران بدوران الحمار حول الرحى، مما يزيد في تصوير بهيمية المرأى وحياته الغريزية اذ يغدو عبداً لغرائزه، فضلاً عن اندلاق الامعاء المثيرة للتقزز مع الرعب.