خلال دراستنا للأدب العربي يلفت انتباهنا الاستعمال الخاص للضمائر والأفعال بما يخالف قواعدها الأصولية. وقد أصبح مقرراً لدى نقاد الأدب وعلماء الألسنة المعاصرين، أن الضمائر والأفعال لا تستعمل دائماً لما وضعت له في أصولها اللغوية:
" إن استخدام أزمنة الأفعال بعلاقتها مع الضمائر يقدم للكاتب لعبة تحولات بالغة الغنى في المستويات اللغوية، تسمح له بتبديل الإضاءة حول الرسالة وهذا أحد المصادر الكبرى للتنوعات الأسلوبية " (جيرو-ص70)
ولا نبالغ إذا قلنا إن أهم التقنيات الروائية والقصصية هو العدول في استعمال الضمائر، وانتقال بؤرة الرؤية من المتكلم إلى الغائب، والتوسع في استعمال أزمنة الافعال بين المضارع والأمر والماضي. كذلك التداخل بين الأشخاص والأزمنة مما هو شائع في النصوص الادبية.
وقد يخيل إلى الدارس أنها صفة أسلوبية منقولة عن الآداب الأجنبية، وفدت مع الأنواع الأدبية التي دخلت أدبنا، كالقصة والرواية والمسرحية. لكن مراجعة سريعة لتراثنا البلاغي تثبت أنها صفة أسلوبية راسخة الأصول في اللغة العربية. بل لقد اعتقد البلاغيون العرب أنها سمة بلاغية مقصورة على العربية دون غيرها من اللغات.
الحقيقي والمجازي :
الأصل في المفردات اللغوية أن تدل على أشياء محددة في الواقع، أو معان متصورة في النفس، أو مدركة بالفكر، ويكاد معظم البلاغيين القدماء يتفقون مع ابن الاثير في قوله: " الحقيقة اللغوية هي حقيقة الألفاظ في دلالتها على المعاني، وليست بالحقيقة التى هي ذات الشيء أي نفسه وعينه. فالحقيقة اللفظية إذن هي دلالة اللفظ على المعنى الموضوع له في أصل اللغة . والمجاز هو نقل المعنى عن اللفظ الموضوع له الى لفظ آخر غيره " ( عتيق – ص 13 ).
لقد اتخذ " المجاز " معنى أشمل في اصطلاح الأسلوبية الحديثة. ويعبر عنه بكلمة Ecart الفرنسية، ويترجم بكلمة الانزياح أو الفارق، ولم يتبلور تماما في الدراسات الاسلوبية لاختلاف نظرة الدارسين إلى حقيقة العملية اللغوية. ويدور خلافهم حول الأسئلة التالية:
1 هل الانزياح أسلوب قائم بذاته يتوازى مع لغة وضعية خالية منه ؟
2 هل هو الأسلوب نفسه، أو أنه جزئية من مكونات الأسلوب ؟
3 هل يمكن تصور لغة طبيعية ( اللغة الأم ) خالية من الانزياح ؟
ويمتد خلافهم هذا إلى حقله الإجرائي. فهل يدرس الانزياح على أنه جزء من اللغة الطبيعية ويعتبر بذلك من ميدان الألسنة ؟ أم أنه استعمال مؤقت يدخل في علم المعاني Semantique ؟
ويتساءل " ريتشارد " ساخراً " هل ينبغي اعتبار الماء انزياحاً عن الجليد ؟"
لن نهتم حالياً بهذا الخلاف المتشعب إلى عدد من المذاهب، ونحاول محاورة اللغة في واقعها الحالي أي كما وصلت الينا بعد قرون من الممارسة والإبداع، وبما استقرت عليه من السنن والمعايير. وسوف نقصر بحثنا على الضمائر في اللغة العربية كما حدد النحاة والبلاغيون وظيفتها، ثم نقارنها بواقعها الإجرائي الذي فجر طاقته التعبيرية الاستعمال الفني. ونختم هذا البحث بنقاش أوحت به هذه المقارنة بين الضمائر في إطارها التنظيري واستخدامها الفني.
1 الضمائر:
الضمائر والنحو: الاسم في العربية يكون ظاهراً مثل: زيد، عمرو. ويكون مضمراً أو مكنياً مثل: هو، هي ، نحن. ويصفه النحاة بأنه: اسم جامد يدل على متكلم أو مخاطب أو غائب. وبالنظر الى جنسه يكون مذكراً أو مؤنثاً وبالنظر إلى عدده يكون مفرداً، أو مثنى أو جمعاً.
الضمير إذن " كناية" عن اسم العلم. فكانه معدول عن الاسم الظاهر. أي أن الاستعمال الأصلي هو إطلاق اسم علم على الموجودات، ثم عدل هذا الاستعمال إلى الضمائر.
مرجع الضمير: " وهذه الضمائر كلها لا تخلو من إبهام وغموض.. فلابد من شيء يزيل ابهامها ويفسر غموضها. فأما ضمير المتكلم والمخاطب فيفسرهما وجود صاحبهما وقت الكلام .. وأما ضمير الغائب فصاحبه غير معروف لأنه غير حاضر ولا مشاهد، فلابد لهذا الضمير من شيء يفسره ويوضح المراد منه. والأصل في هذا الشيء المفسر الموضح أن يكون مقدماً على الضمير ومذكوراً قبله، ليبين معناه .. ثم يجيء بعده الضمير فيكون خالياً من الإبهام والغموض. ويسمى ذلك المفسر الموضح: مرجع الضمير " ( حسن. ص 181 – 182 ).
الغائب المعلوم: أن ضمير الغائب كبقية الضمائر، لابد له من مرجع لفظي أو معنوي. وإذا كان المرجع معنوياً أي مفهوماً من المناسبة أو السياق في غير ألفاظ سمي "القرينة المعنوية " أو "الغائب المعلوم" أو " المقام " ومثلوا له بقول الشاعر:
وقولي لها وقد جشأت وجاشت مكانك تحمدي أو تستريحي
يعني: النفس.
ضمير القصة: يبقى بين الضمائر ضمير يطرح على النحاة. يدعونه ضمير الشأن أو ضمير القصة أو ضمير الأمر أو ضمير الحال.
" وبيانه: أن العرب الفصحاء ومن يحاكيهم اليوم، إذا أرادوا أن يذكروا جملة أسمية أو فعلية تشتمل على معنى هام أو غرض فخم .. لم يذكروها مباشرة خالية، مما يدل على تلك الأهمية والمكانة، وإنما يقدمون لها بضمير يسبقها .. فتجئ الجملة بعده والنفس متلهفة لها، مقبلة عليها في حرص ورغبة. فتقديم الضمير ليس إلا تمهيداً لهذه الجملة الهامة .. "
( عباس حسن ، ص 177 ) ومن أمثلته: قوله تعالى " فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا "، وقوله : " انها لا تعمى الأبصار .. ) وقول الشريف الراضي:
هي الأيام جائرة القضايا وملحقة الأواخر بالأوالي
والوصف السابق الذي قدمه " عباس حسن " تذوق جمالي يعتمد على الحس الفني، مما يؤكد أن ضمير القصة يتجاوز " التخريج " النحوي بالمعنى الدقيق إلى مجال دلالي، كما سنرى.
الضمائر والبلاغة: وصف " ابن الاثير " هذه الميزة الأسلوبية بقوله : " وحقيقته البلاغية على عدد من فروع البديع: الالتفات – التجرد – التضمين – التوسع .
الالتفات: وصف " ابن الاثير " هذه الميزة الأسلوبية بقوله: " وحقيقته مأخوذة من التفات الإنسان عن يمينه وشماله .. لأنه ينتقل فيه عن صيغة إلى صيغة كالانتقالات من خطاب حاضر إلى غائب، أو من خطاب غائب الى حاضر، أو من فعل ماض إلى مستقبل، أو من مستقبل إلى ماضٍ. ويسمى أيضاً: شجاعة العربية. وانما يسمى كذلك لأن الشجاعة هي الإقدام. وذاك أن الرجل الشجاع يركب ما لا يستطيعه غيره. ويتورد ما لا يتورده سواه. وكذلك الالتفات في الكلام. فإن اللغة العربية تختص به دون غيرها من اللغات " (عتيق ، ص 139) ومن أمثلته، قوله تعالى " هو الذي يسيركم في البر والبحر، حتى اذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف، وجاءهم الموت من كل مكان .. "
التجرد: ويصفه البلاغيون بأن تأتي بكلام هو خطاب لغيرك وأنت تريد به نفسك وهو نوعان:
1 ( التجرد المحض ) كقول الصمة بن عبد الله:
حننت إلى ريا ونفسك باعدت مزارك من ريا وشعباكما معا
ب- ( التجرد غير المحض ) كقول سلمة الجعفي:
أقول لنفسي في الخلاء ألومها " لك الويل ما هذا التجلد والصبر ؟ "
ويمكن اعتباره نوعاً من المناجاة الداخلية أو المونولوغ المسرحي.
التضمين: أشار " ابن جني " إلى هذا الاستعمال بقوله:
" أعلم أن الفعل إذا كان بمعنى فعل آخر، وكان أحدهما يتعدى بحرف والآخر بآخر، فأن العرب قد تتسع فتوقع أحد الحرفين موقع صاحبة إيذانا بأن هذا الفعل في معنى الآخر. فلذلك جيء مع الحرف المعتاد ما هو معتاد في معناه. وذلك كقول الله عز اسمه: " أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم " وانت لا تقول رفثت إلى المرأة وإنما تقول: رفثت بها أو معها ".
التوسع: من الكلام السابق يمكن اعتبار التوسع مصطلحاً شاملاً لعدد من السمات الأسلوبية المعدولة عن أصلها الوضعي إلى استعمال جديد لغاية إنشائية. فهو يشمل الانتقال من الحقيقي الى المجازي، كما يشمل العدول في استعمال الأفعال والحروف والضمائر.
وسيكون هدف الصفحات التالية الاقتصار على دراسة: التبادل في استعمال الضمائر، محاولة منا لوصف هذا التبادل أولاً، والوصول إلى الغاية الأسلوبية منه ثانيا. وقد نخفق في تحقيق أحد هذين الهدفين فلا نملك إلا أن نردد مع البلاغيين " وهكذا كانت عادة العرب في أساليب كلامهم " وتلك " عصا العميان " كما يدعوها ابن الأثير.