كثير هو الكلام عن الحنان، وعن العطف، وعن الرحمة، وعن الشفقة، كلام كله داخل فى بعضه. لن يزيد وضوحا إذا نحن عرّفناه من شروح المعاجم، أو الموسوعات الأكاديمية، فما بالك ونحن نتناوله بما هو شائع عنه من خلال فتاوى ونصائح المرشدين والموجهين والأطباء والإعلاميين للأمهات والآباء: بأن يحبوا أولادهم جدا، بحنان بالغ جدا جدا،!! وخلاص!! هل نعرف ما هو الحنان؟ وكيف ؟يبدو أن المسألة ليست فى أن تحب، أو أن تحنو، أو أن تشفق، أو أن ترحم، أو أن ترعى، المسألة فى أن تفعل كل ذلك، دون أن تسميه كذلك. وحتى دون أن تدرك أنه ذلك. من علّم هذه الحمامة أن تحن على هذا الكتكوت البازغ من بيضتها؟ بل حتى قبل أن يبزغ من بيضتها؟ من علّم الزرافة أو البقرة أن تطمئن رضيعها وهى تلعق جسده بلسانها الحنون؟ ثم من علّم رضيعها أن يطمئن إلى ذلك؟ من علّم القطة أن تقفز فوق الأسطح وابنها بين فكيها لا تخزه أسنانها أصلا؟
(1) الحنان والشوفان !! "الحنيّنْ، يعنى شايفْ، يعنى عارفْ: "إنى عايز منه إيه، فين وليه". مش ضرورى أقولّه عنّه، هوّا انا يعنى عرفت إنّه إنهْ ..؟، حتى لو إنى أنا ما اعرفتهوش، هوه عارف إللى انا ما قلتهوش". إن أول شرط لتكون هذه العاطفة المسماة "الحنان" حقيقية، هو أن "نرى" من ندعى أننا نحنّ عليه (أو يرانا من يدعى أنه يحن علينا)، أن نراه منفصلا عنا ككيان قائم بذاته، (الحنيّن : يعنى شايف). هذا الشوفان لا يكون كذلك إلا إذا صاحبته "درجة مناسبة من المعرفة به، ليست واعية أو تفصيلية بالضرورة، معرفة تعلن أن وعيا بشريا قد اتصل بوعى بشرى آخر، بدرجة تكفى للطمأنينة. معرفة ليست لإصدار الحكم، أو مصمصمة الشفاه، الحنان غير الشفقة، والشوفان غير الفرجة. تؤكد الأغنية على الشوفان لكنها لا تشترط إعلانه ولا تهتم بتفاصيله، وكأنّ يقينا صامتا يمكن أن نتبادله فيما بينهما لدرجة لا نعود نحتاج معه إلى ما هو "فين" و"ليه"؟ وكأنه بديهى. الحنان "تعاطف تزامنى معا" synchronous ، يجعلك تتعايش مع "كل" الآخر سلوكا وإيقاعا، دون اختزال، بيقين مطمئن (راجع "يقين العطش" لإدوار الخراط). هذا التعايش المتزامن هو الذى يحدد ما هو "فين وليه"، دون تعيين بذاته.
(2) الحنان لا يشترط عطاء جاهزا" مش ضرورى يدّهولى، ولا حتى يوعد انه يعملولى، بس أعرف إنه عارفْ: أبقى متونس بِشُوفُهْ، إن خوفى مش غريب عن شكل خوفه، إنه مش ناسى، وحاسس باللى فيّه،حتى لو ما عملشى حاجة ماللى هيّهْ" الحنان يمكن أن يوجد ويحدث أثره الطيب حتى لو لم يلحقه فعل يعلنه. لنفترض أن أما فقيرة ليس عندها عشاء أولادها وهم يتضورون جوعا، ألا يزيدها ذلك حنانا عليهم؟ صحيح أن الأولاد لن يتعشوا حنانا، وأن الأصغر منهم على الأقل سوف يواصل البكاء مهما بلغ حنان أمه عليه، ومع ذلك فالحنان موجود حتى لو لم يترتب عليه أى فعل لظروف خارجية أو داخلية. المثل العامى يقول: "زى الوز حنّية بلا بز"، وهو مثل جيد، حين ينبه إلى أهمية ترجمة الحنان إلى رعاية وعطاء، لكنه – من عمق آخر- ينسى أشكالا أخرى لوجود الحنان من حيث المبدأ، أليس الوز، الذى هو بلا بز، والطير عامة، يدفئ بيضه حنانا حتى يفقس؟ ألا يغذى صغاره منقارا لمنقار؟ الشوفان والحنان لا ينفصلان، الشوفان من فوق قد يرسل رسالة عكسية قاسية حين يصبح حكما أو فرجة كما أشرنا، يكون الشوفان طيبا ومطمِْنا حين يكون مشاركة ومعايشة، بمعنى أن أرى فى نفسى الجزءالمقابل الذى بدا لى فى الآخر، خاصة إذا كان صغيرا. يتصور أغلبنا أن علينا أن نزيل خوف الأطفال بأسرع ما يمكن، ويا حبذا إنكاره ابتداء. إن برامج الأطفال ومجلاتهم قد نحت نفس المنحى إذ تحاول تجنيب الأطفال الخوف بإنكاره ورفضه من الأساس، وكأن الخوف ليس مزروعا فينا من أيام أن كان سلاحاً للإنذار، وتهيئة للاستعداد للقتال فى الغابة. إن اعتراف الكبير لنفسه وحتى لطفله بخوفه الطبيعى، هو الذى يطمئن الصغير إلى مشروعية خوفه، ثم يأتى بعد ذلك التعامل معه. إن وجه الشبه بين خوف الكبير وخوف الصغير هو الذى، يطمئن أكثر وأكثر (إن خوفى مش غريب عن شكل خوفه).
(3) الذاكرة الوعى "إنه مش ناسى، وحاسس باللى فيّه، حتى لو ما عملشى حاجة ماللى هيّة"نحن لا نحتاج أن نرى بعضنا البعض جهارا نهارا وجها لوجه، طول الوقت حتى نتواجد "معا". ثم إن الذاكرة بالمعنى الذى ورد فى هذه الفقرة ليست مجرد استعادة لذكرى مضت بقدر ما هى "وعى جاهز" حاضر، له محتواه المتكامل بعواطفه وأحداثه وشخوصه وترابطات علاقاته، حين نحمل الآخر فى ذاكرتنا وعى الذاكرة وليس فقط فى جهاز تسجيلها لنستعيد اسمه عند الطلب ، نتواصل بدون حضور مباشر. وعى الذاكرة هو ليس مجرد تذكر وحكى ذكريات مضت، هو الذى يضمن لنا الائتناس ببعضنا البعض أثناء غيب أحدنا عن الآخر. حين تقول الأغنية: "إنه مش ناسى، وحاسس باللى فيّه"، دون أن تحدد "مش ناسى" ماذا، ولا مَن، فقط تشترط الإحساس بالحضور "الآن"، تصبح هذه "الذاكرة هى الوعى الفعال وليست شريط التسجيل. الذاكرة الوعى تحضر لتحيط، لا تسمّع قطعة محفوظات، حتى لو لم يترتب على حضورها فعل بذاته، (حتى لو ما عملشى حاجة ماللّى هيه).