أرسل الحق تبارك وتعالى رسله للناس بالهدى والبيان، مخاطبين العقول بالحجج والبينات وأحيانا بالمعجزات، حتى يعلم الناس الحق من الباطل، والخير من الشر، والحلال من الحرام كما حددها الخالق وحده وأرادها لهم وطالبهم باتباع منهجه وحده وصراطه المستقيم الذي فيه رضاه عنهم وبالتالي نجاحهم وفوزهم يوم الحساب.
طريق الإيمان
يخاطب الرسل عقول الناس، ويدعوهم الى التفكر والتدبر في خلق الله فهو الطريق الى الايمان، فالايمان بوحدانية الله وسرمديته وقيوميته اختيار مبني على العقل ولا اكراه فيه اذ “لا اكراه في الدين” فالرشد واضح والغي واضح، ولا يكره الرسل الناس على الايمان “إنك لا تهدي من احببت”.
ولذلك اندفع المسلمون في جهادهم لرفع القوى المسيطرة على عقول الناس وحرياتهم حتى يستطيع الناس التفكير بحرية ورؤية ما عليه المسلمون من حق وصواب، وكانت النتائج انتشار دين الله بصورة لا يتخيلها انسان.
فالعقل البشري المتجرد من الشهوات والهوى وتأثير قوى الشر يدرك الحق بسهولة ويفرق بينه وبين الباطل ببساطة، إلا ان كان وراء تكذيبه مصلحة مادية دنيوية أو نوع من الحقد والحسد للرسول أو للداعية. يقول الحق تبارك وتعالى: “ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز الحكيم” وقال تعالى “ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله” (الزخرف: 87)، وكما يقول الملعون أبو جهل عندما برد عدم اسلامه بأنها منافسة بينهم وبين بني عبدالمطلب، وكان هو وغيره من مشركي قريش يدركون ان القرآن منزل من عند الله ولكنهم لأغراض في انفسهم لا يؤمنون “وقالوا لولا انزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم” (الزخرف) وكما يقرر الحق سبحانه وتعالى في موضع آخر “فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يحجدون”. وكما يصف فرعون وقومه عندما جاءتهم الآيات مبصرة “وجحدوا بها واستيقنتها انفسهم ظلما وعلوا” (النمل: 14).
الإدراك المعطل
ان استقراء واقع الكفار ليجد لديهم وسائل الادراك والعقل حقيقة ولكنها معطلة وظيفيا، فعيونهم آلات استقبال للصور مثل آلات التصوير، بصر بلا بصيرة، والأذن آلة لاستقبال الاصوات وليست للاستماع، ولا اتصال بينها وبين العقل المعطل بدوره فلا يفهم ولا يقفه ولا يتدبر وانما يتبع هواه وشهواته وغرائزه بشكل آلي، فهم كالانعام بل اضل من الانعام كما جاء وصفهم في سورة الاعراف “ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها. أولئك كالأنعام بل هم أضل، أولئك هم الغافلون” فالآلات موجودة والقلوب والافئدة ولكنها تسير حسب الغرائز والشهوات وكأن العقل مغلق بأغلاق واختام فلا يعقل ولا يفقه.
ويضرب لنا الحق تبارك وتعالى مثلا آخر في سورة النور لغياب العملية والعقلية عند من اذاعوا حديث الافك من دون عقل أو تفكير، فكأنهم وهم يذيعون هذا الحديث المفترى قد غابت عقولهم فقد قاموا باستقبال الحديث وترديده دون تفكير، وكأن عملية الاستقبال ثم الارسال لم تتجاوز ألسنتهم وافواههم وكأن عقلهم انتقل الى السنتهم وافواههم، وانظر الى دقة التعبير القرآني في سورة النور وصفا لهؤلاء “اذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم” سرعة التلقي وسرعة اذاعة الحديث من دون تفكير، ولو انهم عرضوا الأمر على عقولهم وتدبروه لتغير موقفهم تماما كما حدث مع بعض المسلمين ومنهم ابو ايوب الانصاري وزوجه “.. ولولا اذا سمعتموه قلتم ما يكون لنا ان نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم” (النور: 16) فالمؤمن لا يظن بالمؤمن إلا خيرا كما علمه الله ورسوله ذلك. “لولا اذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين” (النور) فهذا حال المؤمن والمؤمنة حين يعرض عليهما أمر مثل هذا فيه بهتان وافك مبين، ولا مجال للاسراع بالاعلان عن الفواحش عند سماعها وذلك من هدي الاسلام “ان جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بحهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين” (الجرات).
ونظرا لما يلاقيه العقل من تحديات وضغوط ووساوس شيطانية فقد ينحرف عقل المؤمن عن الصواب ولكن ذلك لا يجعله مستمرا في خطئه أو متماديا فيه بل انه يعود الى الصراط المستقيم بسرعة تائبا الى الله راجعا اليه رافضا ما عداه ومنيبا اليه “ان الذين اتقوا اذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون” (الاعراف) فهو مجرد نسيان مؤقت يتوب منه المؤمن، والله يحب التوابين ويحب المتطهرين، وان الله يغفر الذنوب جميعا، وكلها معلومات يعرفها العقل ويدرك حقيقتها تماما.
عقول لا تفقه
ويعطي القرآن الكريم مثلا آخر معبرا عن حال الذين كفروا في سورة البقرة “ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون”، فالذي ينعق وينادي الاغنام والانعام، انما ينادي على من لا يفهم شيئا مما يقول ما يرمز اليه النداء من تحذير أو استدعاء أو غير ذلك من اشارات ونداءات تحكمها العادة والاستجابة الغريزية وليست عقلية بالمعنى المفهوم، بل ان تلك الحيوانات وغيرها مما يعلمها الانسان القيام بحركات وأعمال معينة استجابة لحركات من يديه أو اصوات يصدرها بأي لغة من اللغات تمثل اجزاء بدائية غير متكاملة للعملية العقلية، فما من حيوان من تلك الحيوانات يستطيع بأي حال من الأحوال ان ينقل ما تعلمه الى غيره من الحيوانات، فهم جميعا صم عن معاني ما يسمعونه، بكم لا يستطيعون ترديد ما يلقى على مسامعهم، عمي عن رؤية ما تعنيه آيات الله في كل ما يحيط بهم من مخلوقات الله في الارض ومن الكون وفي انفسهم، أولئك هم الكفار عيون لا ترى وآذان لا تسمع وعقول لا تفقه. ويحكى ان معاوية بن ابي سفيان قال يوما لابن عباس رضي الله عنه: انتم بنو هاشم تصابون في ابصاركم، فرد عليه ابن عباس قائلا: وأنتم بنو أمية تصابون في بصائركم. وشتان بين البصر والبصيرة، فالعقل يفرق بينهما.
لقد اعطى الخالق عز وجل العقل للناس جميعا، رجالا ونساء، يستوي في ذلك الأولون والآخرون، لا فرق بين الاصفر والأحمر والأسود والأبيض، كلهم يمتلكون العقل بالامكانات والقدرات نفسها وكلهم لديه وسائل الاستقبال من سمع وبصر واعصاب ودماغ، ومع ذلك آثر كثير منهم ان يعطل عقله ويغلق قلبه أمام انوار الهدى ورسالات الانبياء واستحبوا العمى على الهدى واتبعوا أهواءهم وساروا في طريق الضلال فزادهم الله ضلالا وعمى “ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة. ولهم عذاب عظيم” (البقرة).