“مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم” (البقرة: 261).
ينفق الناس أموالهم بشتى الطرق وفي مختلف الأغراض، فتتعدد نواحي الإنفاق وتتباين أغراضه وتختلف أهدافه، فالمؤمن مثلاً لا ينفق ماله لهواً وعبثاً وابتغاء لذات محرمة، فهو يدرك أن المال مال الله وأن الله يرزق من يشاء بغير حساب وأن الله خير الوارثين، ولذلك فهو ينفق أمواله ابتغاء مرضاة الله وحسب أوامر الله وحباً لله سبحانه وتعالى وثمناً لجنة عرضها كعرض السماوات والأرض.
وشتان بين إنفاق المؤمن وإنفاق الكافر والمنافق، بين الخلود والفناء بين ضيق الدنيا وسعة الآخرة، فالمؤمن يعطي والكافر يعطي ولا فرق في الظاهر، بل قد يزيد عطاء الكافر كمّاً على عطاء المؤمن، ولكن الفرق كبير والبون شاسع بين عطاء الكافر الذي هو “كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد” (إبراهيم: 18) أو “كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب” (النور: 39) بينما عطاء المؤمن “كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم” (البقرة: 261) أو “كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها” (إبراهيم: 24-25).
وكما يكمن السر في الحبة مميزاً لها عن غيرها، فهناك أسرار كامنة في الأعمال وفي الأقوال تجعل منها مصدراً ومنبعاً للخير العميم، أو تجعلها هباء منثوراً وسراباً خادعاً لا وجود له.
فمن الحبوب ما ينبت منها الشوك ومنها ما يعطي ثماراً سامة قاتلة، ومنها ما يعطي أشجاراً ظليلة، ومنها ما يعطي فاكهة طيبة، ومنها ما يعطي طعاماً أساسياً للإنسان أو غيره من المخلوقات، وهذه الأخيرة منها حبوب القمح التي لا يستغني عنها الناس في كل زمان ومكان.
حبة صغيرة لا تتعدى الملليمترات طولاً وعرضاً، نراها لا حياة فيها، تلقيها في إناء أو مخزونة لأسابيع وشهور لا تتحرك ولا يبدو عليها أثر للحياة، ولكنها في الحقيقة مصنع كبير هائل، حاسوب ضخم مليء بما لا حصر له من المعلومات والأوامر والشيفرات، كلها مبرمجة بغاية الدقة من لدن حكيم عليم، معلومات تحدد مسار حياتها ونموها ونتاجها بمجرد استقبال إشارة البدء.
أي تجارة هذه؟
تلقى الحبة في الأرض، المخزون منها والجديد، فتظل ساكنة حتى يأتيها الماء، فتدبّ فيها الحياة وتنمو، تمتد منها جذور، وتخرج منها ساق تتجه الى أعلى نحو السماء مسبّحة بحمد ربها وعظمته، في يوم واحد تنمو جميع الحبوب وتظهر السيقان على سطح الأرض في مختلف الحقول والمزارع، كلها في وقت واحد لا يتخلف منها أحد وكأنها على موعد، فتكتسي الأرض غطاء أخضر جميلاً، وتنمو الساق وتنمو منها الأوراق الخضراء ثم تبدأ السنابل في الظهور في تتابع دقيق ونسق جميل، وتبدأ الحبوب في النمو في تلك السنابل ليتم جمعها في وقت معلوم.
تعطي الحبة شجيرة بها سبع سنابل أو أكثر، في كل سنبلة مائة حبة، أي تعطية الحبة الواحدة سبعمائة حبة أو يزيد، فتخيّل معي هل هناك تجارة تعود على صاحبها بربح يعادل سبعمائة ضعف من رأس المال أو يعادل ألفاً وأربعمائة ضعف أو أضعاف ذلك؟ فأي تجارة هذه؟ وأي مشتر غير الله يعطي هكذا من دون حساب؟
هكذا يضرب الحق تبارك وتعالى لنا المثل بتلك الحبوب ذات القدرة العجيبة على النمو والعطاء الذي لا ينتهي ولا يتخلف ولا ينقطع.
صورة مادية محسوسة نلمسها كلنا ونعرفها جيداً، من صنيع الله الخلاق الذي لا تنتهي آياته وعجائبه، ليدلنا بها على ما عنده في عالم الغيب الذي لا تستطيع عقولنا معرفة أسراره إلا بإخبار من الله وحده، العالم بالنوايا والخفايا والأسرار، والواهب في الدنيا وفي الآخرة بغير حساب.
ثواب بلا حدود
وهكذا يقرر الله سبحانه وتعالى أنه إن كان جزاء السيئة سيئة مثلها، وأن جزاء الحسنة عشرة أمثالها، إلا أن العمل الصالح إن كان خالصاً لوجه الله تعالى فإن ثوابه لا حدود له، فهو ينمو كما تنمو الحبة الى سبعمائة حبة، كل منها يعطي سبعمائة حبة وهكذا الى أن يشاء الله.
فالمؤمن حين ينفق ماله في سبيل الله وكما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنما يفعل ذلك بمحض إرادته واختياره غير منتظر أي جزاء أو شكر من البشر، وإنما ينفق ابتغاء مرضاة الله وطمعاً فيما عند الله. فما عند المخلوقات يفنى وما عند الله باق، ولذلك فإنه حين ينفق من ماله الذي تعب وكدّ في سبيل تحصيله فهو يدرك أنه مال الله وينفق كما أمره الله، ولذلك يجد في قلبه حلاوة الإيمان والأنس برضاء الله، ويأتيه الخير عاجلاً وآجلاً في نفسه وأهله، ألم يقل لنا الصادق الأمين عليه الصلاة والسلام: “داووا مرضاكم بالصدقة”، وهي حقيقة لا يعرفها إلا المؤمنون، وهو على يقين من عطاء الخالق عز وجل، وقوله تعالى: “من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة”، والله يؤمنه من مصائب الدنيا وتقلبات الأيام ويهون عليه الشدائد ويعينه عليها وييسر له كل صعب، فيشعر بالعزة ولا يخاف لقاء الله ثم هو بعد ذلك من الفائزين يوم القيامة برضوان الله والخلد في الجنة.
إن مجرد كلمة طيبة يقولها المؤمن احتساباً لوجه الله، يواسي بها أخاه المسلم، أو يشد بها أزره، أو يؤدب بها ابنه أو ابنته، أو يلاطف بها أهله، أو يرفع بها ظلماً ويحق حقاً، أو يأمر بها بمعروف أو ينهي بها عن منكر، ترفع قائلها درجات ودرجات وتظل تعطي من خيرها الى يوم القيامة ومثلها في كتاب الله: “ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها” (إبراهيم: 24-25). هذه مجرد كلمة طيبة، مثلها شجرة كبيرة ضخمة ثابتة الجذور ترتفع الى السماء ولا ينتهي عطاؤها، فما بالك بكلمات وأفعال وأموال تنفق في سبيل الله؟
هكذا يأخذنا القرآن الكريم ببساطة وإعجاز وينقلنا من ضيق الدنيا الى سعة الآخرة الخالدة التي لا تنتهي، فالإنفاق مادي محسوس ولكن يدخل فيه عنصر معنوي أساسي وهو “في سبيل الله” وهو الذي بسببه تأتي ثمار العمل (الحبة الواحدة) سبعمائة حبة أو آلافاً مؤلفة من الحبوب كما يشاء الله لمن يشاء “والله واسع عليم”.
إنفاق الرياء
وتتوالى الأمثال، فمثل الذي ينفق المال رياء وتفاخراً وتعالياً واستجداء لثناء الناس ونيل رضاهم “كمثل صفوان عليه تراب” أي صخرة مغطاة بالتراب لا تفرقها عن الأرض الزراعية، “فأصابه وابل فتركة صلداً لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين” (البقرة: 264)، وتقابلها صورة أخرى ومثل آخر للذين “ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً من أنفسهم” لا يعنيهم شيء ولا يهتمون بشيء، إلا رضاء الله عليهم وترسيخ الإيمان في قلوبهم، فهم “كمثل جنة بربوة أصابعها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير” (البقرة: 265)، فسواء هطل المطر أو جادها طل وندى فإنها تؤتي ثمارها وخيراتها بإذن الله.
ويتبع ذلك مثل حي مليء بالحركة والمفاجآت، فهذا شيخ كبير بلغ من الكبر عتياً وله ذرية ضعفاء لا يقدرون على العمل والكسب، ولديه جنة غنية فيها من كل الثمرات والماء والخير الوفير مما يكفيه ويكفي ذريته ويزيد، ومن دون سابق إنذار، يصيبها إعصار يدمرها تدميراً ويأتي على ما فيها من زروع وثمار فتصبح أثراً بعد عين، وكما يصور ذلك القرآن الكريم “أيود أحدكم أن تكون جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تتفكرون” (البقرة: 266)، فذلك مثل صاحب المال الفرح بماله الناسي أن المال مال الله، وهبة الله يعطيه من يشاء وينزعه متى يشاء، ويرى أن الدنيا دانت له وأنه نال كل ما يتمنى ناسياً نهايته ونهاية الدنيا ويوم الحساب، فإذا به يفاجأ بالساعة تأتي على كل ما يملك وتحيله حطاماً لا أثر له يوم القيامة، يذهب المال ويبقى الندم والحسرة على ما فرّط في جنب الله.. إنه مثل لما يمكن أن يحدث في الدنيا من كوارث ومصائب تحيط بالناس فجأة فتأتي على مساكنهم وجناتهم وأموالهم وأولادهم وتفرق بين المؤمن بقضاء الله وقدره، وغير المؤمن ممن لا همّ له إلا الدنيا وما فيها من متاع ومن شهوات، ولا عمل له إلا الجري وراء حطامها الفاني دون نهاية.
علم اليقين
وهكذا يضرب لنا الحق تبارك وتعالى الأمثال بالملموس في الحياة مما تدركه حواسنا وعقولنا ويخضع للتجربة والقياس حتى يقرب لنا واقع ما لا تدركه الحواس والعقول من غيبيات لا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى لنعلم وجوده (علم اليقين) حتى نبعث من موتنا خلقاً آخر في يوم يكشف فيه الغطاء وترفع في الحجب والقيود والأستار عن الحواس فنرى ونسمع ما لم نكن نراه وما لم نكن نسمعه في الدنيا رغم وجوده الحقيقي فنرى كل شيء (عين اليقين) كما يقول ربنا عز وجل: “ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد” (ق: 20-22)، “كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين ثم لتسألن يومئذ عن النعيم” (التكاثر: 5-
.
ويبحث الكافر عما قدّم من عمل وعما أنفق من أموال فلا يجد لذلك أي أثر، بل يجد كتابه وحسابه وعقابه وعذاب الله الشديد. وتدبّر معي مثل الذين كفروا في سورة النور: “والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجد شيئاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب” (النور 39) فهو اليوم أحوج ما يكون الى الشراب وما يدفع عنه حر يوم الحساب وعذابه الأليم، لقد أنفق كثيراً وتكلمت عنه الصحف والإذاعات والقنوات الفضائية وملأ الأسماع والأبصار في الدنيا فأين ذلك كله؟ “مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد” (إبراهيم: 18)، وهؤلاء موجودون في كل زمان ومكان، نسوا الله فأنساهم أنفسهم، وزين لهم الشيطان أعمالهم فحسبوا أنهم على الحق، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق، وسعوا لإطفاء نور الله بكفرهم، والله متم نوره ولو كره الكافرون.
فلا تغرنّك الدنيا يا أخي بما فيها، ولا تجعلها غايتك ونهاية طموحك، فهي زائلة فانية بكل ما فيها، ولا يغرنك الناس بأقوالهم وأفعالهم وتقربهم وتزلفهم إليك، فإنهم ميتون مثلك، ويوم القيامة تحاسبون على ما قدمتم من عمل لله، فاحرص على زاد الآخرة وتهيأ ليوم لقاء ربك فإن الموت قريب قريب، أقرب إليك مما تتصور، وإن البعث حق والحساب حق، والجنة حق، والنار حق، فتزود فإن خير الزاد التقوى، والله المستعان.