الموت حق "كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام"(7).
التذكر يهيج الخنساء،وبطريقة لا شعورية تنسكب الدموع من عيونها مدرارا.
لقد ظلت الخنساء محملة بأحزانها المبطنة في أشعارها في رحيلها وترحالها،حتى في سوق" عكاظ" الشهيرة" كانت الخنساء لا تتنازل عن الموضوع الذي التزمت به وهو رثاء صخر،وهذا ما سنؤكده من خلال هذا الحوار.
"أتت الخنساء النابغة في سوق عكاظ وأنشدته:
قذى بعينك أم بالعين عوار * أم أقفرت إذا خلت من أهلها الدار
فلما بلغت قولها:
وإن صخرا لتأثم الهداة به * كأنه علم في رأسه نار
قال :
ما رأيث ذا مثانة أشعر منك"
ويروى أنه قال لها" لولا أن أبا بصير سبقك لقلت أنك أشعر من في السوق"
(
لقد ظل صخر تلك الصورة الحية التي لا تمحى من ذاكرة الخنساء،وتناسلت خيوط الحزن،وسبائك الألم،وامتزج التذكر بالبكاء،والأسى باستحضار الفاجعة.
صخر في نظر الخنساء ما مات ولن يموت،كل شيء يذكرالخنساءبه،والتذك ر أصل امتداد الفاجعة عند الخنساء.
إني تذكرته والليل معتكر * ففي الفؤاد صدع غيرمسغوب
نعم الفتى كان للأطياف إذ نزلوا * وسائل بعد النوم محروب(9)
فالخنساء تذكر صخرا بالليل الشديد الظلام،وفؤاده( أي قلبها) متصدع من شدة التعلق بصخر الذي ترك فراغا كبيرا في قلب الخنساء.
صخر المضياف الذي أعطى وأجزل العطاء،ولم تكن قسمته ضيزى.
فالتذكر هو زيادة في ألم الخنساء،والتذكر عند الخنساء،جعل السيل يبلغ الزبى،إنه الطامة الكبرى التي حلت بها،ودمرت حياتها.
ذكرتك،فاستعبرت والصدر كاظم * على غصة من الفؤاد يذوب
لعمري لقد أوهيت قلبي عن العزا * وطأطأت رأسي والفؤاد كئيب (10)
إن تكرار الفعل" ذكرتك" خصيصة جوهرية في شعر الخنساء،والغاية من توظيفه هو التأكيد على فداحة الأمر،وتعلق الشاعرة بأخيها الذي رحل إلى دار البقاء.
وارتبط التذكر عند الخنساء بذرف العبرات،فيحين يظل الصدر كاظما للحرقة الداخلية،تلك النار التي لا يطفئها أي عزاء مهما كان نوعه،وقلب الخنساء يذوب من شدة المعاناة.
لقد أقسمت الخنساء مخاطبة صخرا أنها لن تستلم لهذا الوهن والضعف الذي قصد قلبها ،وأحزن فؤادها بأنها بصيغة أخرى تبحث عن وسيلة أخرى لتجديد تعاقدها مع الحزن.
ياعيني جودي بالدموع * المستهلات السوافح
فيضا كما فاضت غروب * المترعات من النواصح
وابكي لصخر إذ ثوى * بين الضريحة والصفائح.(11)
إن علاقة العيون بالدمع علاقة قديمة،ارتبطت بذات الخنساء،وفاضت دموعها.
لا تتحدث الخنساء عن العيون دون استحضار العبرات با عتبارها الوجه الآخر للفاجعة.
الخنساء تطالب الدموع بالفيض والامتلاء كما الغروب.
اكتمل الألم عند الخنساء بالإنتقال من حدث خارجي يرتبط بها(الدموع والبكاء) الى حدث داخلي يرتبط بقبر صخر الذي أقام وسط حفرة بها حجارة رقاق تسقف بها القبور.
قبر صخر تمر عليه الرياح النوافح لا أحد سيذكره سوى الخنساء،الأخت الوحيدة التي أخلصت لذكراه،وأحيت أمجاده وخصاله الحميدة.
الغبار والرياح والحجارة ثالوث يجسد إحدى السمات الأساسية للنهاية اليقينية للإنسان،القبر نهاية كل حي،وصخر أودت به شجاعته،لفه الردى وطواه القبر وحملته المنية الى باطن الأرض.
لا تخل أنني لقيت رواحا * بعد صخر حتى أثبن نواحا
من ضميري بلوعة الحزن حتى * نكا الحزن في فؤادي فقاحا(12)
إن الخنساء في كل ديوانها تجدد ميثاقها مع القارئ كونها لم تنس صخرا ولو لحظة واحدة،إنه يسكن جوارحها،ويستوطن في قرارات نفسها،هي لا تسلوه،حتى وإن طال الزمن،بل هي متشبثة بذكراه، إنها قد نحتت له تمثالا بداخلها،هو جزء منها ولا فكاك لها من ماضيه المجيد،وأريحيته الزكية،وسيرته العطرة.
الخنساء لم يعرف قلبها الفرح،ولاطرقت ابوابه السعادة بعد موت صخر،حياتها عذاب،وتفكيرها كله مشدود الى معضلة كبرى،معضلة الفراق القاهرنالموت تلك القوة المدمرة التي نالت من الخنساء وأخيها.
لوعة الحزن سرمدية تابثة في قلب الخنساء،ذاكرتها تنكأ الجراح،وتجدد المواجع.
الحزن لا يعيد الموتى،لكن الخنساء مصممة على أن تظل أجواء الحزن والألم مخيمة على نفسها جاثمة على روحها حتى لا تخون ذكرى صخر.
ضاقت بي الأرض وانقضت محارمها* حتى تخاشعت الأعلام والبيد
وقائلين تعزي عن تذكره* فاصبرليس لأمر الله مردود(13)
إن الشاعرة التي جربت كل أنواع الأحزان،كآبة وألم ودموع وجزع،ولوعة وحرقة وصلت للطريق المسدودنوضاقت بها الأرض بعد يأس ذريع.
لقد تلقت الخنساء نصائح متعددة بنسيان صخر،ولا وسيلة لنسيانه إلا التسلح بالصبر.