وأدى صدور هذا المعجم الرائع إلى تنشيط الحركة المعجمية تمثل في الكتابات النقدية التي تناولته والأعمال المعجمية التي انبثقت عنه تعليقا، وتكملة، وتحشية، وتلخيصا. ويكفي الجوهري فخرا أن أعظم معاجم التراث العربي بعده سارت على نهجه وأفادت منه، ومنها (القاموس) للفيروزبادي و(لسان العرب) لابن منظور ومعجما الصاغاني.
وقد أحصى الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار، محقق الصحاح، تسعة تعليقات، وسبع حواش، وتسعة كتب جمعت الصحاح مع غيره من المعاجم، وسبع تكملات ومستدركات، وعشرة كتب تناولت الصحاح بالنقد، وستة عشر كتابا أُلفت في الدفاع عن الصحاح، وسبعة عشر مختصرا، وثمان ترجمات إلى اللغتين الفارسية والتركية، وعشرة كتب اقتبست اسم الصحاح أو سارت على منهجيته. (6)
500ـ الرازي ومختار الصحاح:
لا يقل محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي (ت بعد سنة 691هـ) عن الجوهري عبقرية وطول باع في المعارف. فالرازي لغوي، مفسر، فقيه، صوفي، أديب له نظم ونثر. ولكن أخباره قليلة ولا نعرف تاريخ ولادته ولا تاريخ وفاته على وجه التحديد، فقد اتسم العصر الذي عاش فيه بالاضطراب السياسي والحروب الطاحنة، إذ كان الصليبيون قد شنوا حملاتهم المتتالية على العالم الإسلامي من الغرب واستولوا على بيت المقدس سنة 493 هـ واجتاح المغول العالم الإسلامي من الشرق فسيطروا على إيران كلها عام 628 هـ . ثم زحف هولاكو بجحافله إلى عاصمة الخلافة الإسلامية، بغداد، سنة 656 هـ واستباحها ودمّرها وأحرق معاهد العلم والمكتبات فيها وقتل الخليفة وأهله.
ولهذا كله اضطربت في ذلك العصر الاتجاهات الفكرية المتباينة والنزعات الدينية المختلفة، وانتعش التصوف. وكان الرازي، وأصله من الري، من كبار الصوفية الذين ولعوا بالأسفار والرحلة في طلب العلم فزار مصر والشام والأناضول، واتصل بالعلماء وطلاب العلم في هذه الأقطار.
وللرازي مؤلفات عديدة في تفسير القران، واللغة، والبلاغة، والتصوف. وله خبرة في إيجاز المعلومات واختصارها تجلت في تفسيره الموجز المعروف بـ ( إنموذج جليل في أسئلة وأجوبة من آي التنزيل) (7)، وفي مصنفه (كتاب الأمثال والحكم) الذي قال عنه في مقدمته إنه مختصر جمع فيه ما تفرق من الأبيات المفردة وأنصاف الأبيات التي ما زال الفضلاء يتمسكون بها في مكاتباتهم ومخاطباتهم...(
هذا اللغوي المتمرس في الإيجاز، المولع في ما قلّ ودلّ، تصدى لاختصار (الصحاح) الذي يقع حاليا في ستة مجلدات مطبوعة يربو عدد صفحاتها على 2560 صفحة من الحجم الكبير، ولخّصه في كتاب صغير عنوانه (مختار الصحاح) لا يتجاوز عدد صفحاته 590 صفحة من القطع الصغير.
600 ـ اختصار المعاجم:
لا يعني اختصار المعجم مجرد حذف ما زاد على كلمات المداخل ومعانيها الأولى من معلومات نحوية، ومعان ثانوية ومجازية، وتعبيرات اصطلاحية وسياقية، وشواهد، وغيرها.(9) فعملية الاختصار مقيدة بالهدف منها وجمهور القراء المستهدفين. فإذا كان هذا الجمهور يتألف من المتعلمين وغير المتخصصين فقد يقتضي الاختصار إضافة معلومات لا يتضمنها المعجم الأصلي، وهذا ما فعله الرازي في (مختار الصحاح)، فقد أضاف أحيانا إلى مداخل الصحاح ما يحتاج إليه الجمهور الذي يسعى الرازي إلى إفادته. ومن الأمثلة على ذلك ما أضافه الرازي من مصادر الأفعال الثلاثية التي أهملها الجوهري. ومن الأمثلة الأخرى على ذلك مقدمة المعجم. ففي حين تتألف مقدمة الجوهري لمعجمه (الصحاح) من فقرة واحدة لا تتعدى نصف صفحة، نجد أن مقدمة الرازي لمعجمه ( مختار الصحاح) تناهز ست صفحات ضمنها معلومات صرفية ونحوية تساعد القارئ على استيعاب مواد المعجم وفهم سلوكها اللغوي بصورة أفضل.
610ـ أهداف الاختصار ونطاقه:
في مقدمته لـ (مختار الصحاح) يبين الرازي، أولا، سبب اختياره لمعجم الصحاح دون غيره من المعاجم المطولة الأخرى فيقول:
" هذا مختصر في علم اللغة جمعته من (كتاب الصحاح) للإمام العالم العلامة أبي نصر إسماعيل بن حماّد الجوهري رحمه الله تعالى، لما رأيته أحسن أصول اللغة ترتيبا، وأوفرها تهذيبا، وأسهلها تناولا، وأكثرها تداولا، وسميته (مختار الصحاح). ( 10)
فهو هنا لا يُغفل عنوان المعجم الأصلي ولا يهمل اسم مؤلِّفه بل يذكره بتقدير واحترام ويترحم عليه، وهذا ما تقتضيه آداب التأليف والأمانة العلمية وتواضع الأدباء.
ويوضح الرازي في مقدمته أهداف الاختصار فيذكر أنه أعدّ (مختار الصحاح) ليكون معجما أساسيا ميسرا " لكل عالم فقيه أو حافظ، أو محدّث، أو أديب"(11) . فهو ليس للمتخصصين في علوم اللغة كما هو حال المعجم الأصلي، الصحاح، وإنما توخى الرازي أن يجعل (الصحاح) في متناول عامة المثقفين، حجما ومادة، دون أن يجرده من مزاياه المفيدة وخصائصه المجيدة.
ولا يعني الاختصارُ الاقتصارَ على ما ورد في المعجم الأصلي فقط وإنما قد يرجع المعجمي إلى معاجم أخرى فيفيد منها، أو يضيف من معلوماته الخاصة استكمالا للفائدة. وهذا ما فعله الرازي وأشار إليه في مقدمته بقوله:
" وضممت إليه (أي إلى الصحاح) فوائد كثيرة من تهذيب الأزهري وغيره من أصول اللغة الموثوق بها ومما فتح الله تعالى به عليّ فكل موضع مكتوب فيه (قلت) فإنه من الفوائد التي زدتها على الإصل." (12)
620ـ طرائق الاختصار وقواعده:
إذن، ما هي المنهجية التي اتبعها الرازي في الاختصار؟ أو ما هي الوسائل التي استخدمها لتحقيق أهدافه؟
يلخص لنا الرازي منهجيته حينما يذكر في المقدمة أنه اقتصر على ما لا بدّ من معرفته وحفظه لكثرة استعماله وجريانه على الألسن مما هو الأهم فالأهم، واجتنب فيه عويص اللغة وغريبها طلبا للاختصار وتسهيلا للحفظ .(13)
وبعد إمعان النظر في مواد (مختار الصحاح) ومقارنتها بالمواد الأصلية في (الصحاح)، يمكننا أن نستخلص وسائل الاختصار التي استخدمها الرازي ونلخصها في ما يلي:
621 ـ اختصار المعلومات النحوية:
يقدّم المعجم الجيد لمستعمليه معلومات صرفيه ونحوية تعينهم على تصريف الأفعال ونطق مشتقاتها بصورة صحيحة. ويحتاج مستعمل المعجم العربي الذي تتألف مداخله عادة من الأفعال في صيغة الماضي إلى معرفة الأفعال المضارعة وحركة عين الفعل فيها ومصدرها، وأحيانا اسم الفاعل واسم المفعول إذا كانا شاذين، لأن هذه الأمور سماعية وليست قياسية لا يستطيع القارئ معرفتها بنفسه.
وهذا النوع من المعلومات الصرفية يتطلب استعمال الشكل التام (الحركات) ما يؤدي إلى كثير من التصحيف والتحريف حتى في وقتنا الحاضر التي تطورت فيه الطباعة بالحاسوب بله في ذلك العصر الذي كان يعتمد فيه النشر على النسخ اليدوي والنسّاخ الذين قد تعوزهم المعرفة المتخصصة ويرهقهم العمل ما يؤدي إلى اقترافهم الأخطاء الكثيرة.
وقد استخدم الرازي طريقة ذكية لاختصار المعلومات النحوية في صلب معجمه (مختار الصحاح)، وتساعد، في الوقت نفسه، على تجنب التصحيف والتحريف. وهي طريقة تستخدمها اليوم أحدث المعاجم الإنكليزية مثل معجم كمبرج ومعجم أكسفورد للمتعلمين، مع العلم أن الجوهري لم يستعمل تلك الطريقة في معجمه (الصحاح).
تابع