السلام ليكم ورحمة الله وبركاته
البحوث والدراسات الشعريةمياسم ديوان الربيع الأسود ومواسمه
على بطاح درعا الفيح ، وعلى امتداد سهولها التي تُغريك بحبِّها والإقامة فيها؛ التقيتُهُ في الزَّمن السحيق من هذا القرن الكسيح، يقرضُ الشعر، ويردّدُ أبياتاً ضخمة المعاني لشعراءَ فحول في زمنِ الجاهلية وما تلاهُ من عصور، ويترنَّمُ في إنشادها وتفخيم حروفها؛ إنَّه الأديبُ الشاعر عبد الرحمن الحوراني؟
شبَّ ، وشبَبْنا، وتقاذَفَتْنا رياحُ هُوج بحثاً عن بُلِغ العيش المغمَّس بالآمال الكبار، فلا بُلْغَةُ العيشِ ائْتَدَمتْ، ولا الآمال الكبارُ تحقَّقتْ، ووجدْنا أنفسنا تخبُّ بأوْزارٍ ثِقال، وآثامٍ اقَتَرفْناها، كنَّا نظنُّ أنَّ الأجيالَ لن تغتفرها لنا، ومع ذلك رَضينا، ولكنَّ البين لم يرضَ بنا!
التقيتُهُ بعد أكثر من ربع قرن، ضابطاً متقاعداً من قوى الأمن الداخلي، في قريته النائية "طفس" من أعمال درعا بين كتُبِه ودفاتره. أطرحُ عليه أسئلة كثيرة، ويجيبُ عليها بسُخريته المعهودة التي تُنبيكَ عنْ ذكاءٍ متوقِّد، وخبرةٍ بالناس والزمان، وكأن الماضي المشرق اختفى من آفاقه، وخيَّمَ الشؤمُ والقتامُ على مستقبل الأيام..أُذَكَّرهُ بمقطَّعاته الشعرية التي ما زالت ترِنُّ بذاكرتي، فيجيب مُتلهِّفاً وقد أشرق فكرُهُ، وتهلَّلتْ أساريره، بجملٍ سحريةٍ راحتْ تتدفق من لسانه الذرب، ومد يده إلى مكتبته، ليفتح دفتراً أنيقاً راح يُنشدني مِزَقاً من روحه التي نثرها على صفحات الورق، فأشجاني...أسألُهُ المزِيدَ ، فيقولُ: إِلَيْكَ دِيواني "الربيع الأسود" فأقرأ به ما شِئْتَ.
-لِمَ لم تنشرْه؟
-لأنِّي ضنينُ بفضيحة بنات أفكاري!
-ما دارً في خلدي يوما أنَّكَ تبخلُ بعطاءٍ يا أبا أَيهم؟
- أخي علي: بناتُ أفكاري ثكالَى مُسَرْبلاتُ بالسَّواد من أيَّام كربَلاَء!
- ومَا العيبُ في ذلك إذا كانتْ هي هكذا؟ إنَّ مَنْ لا ينشر ما كتب، كَمَنْ ينتحرُ بمدادِ دَواته.
- لا بأس، اقرأهُ. واكتُبْ عَنْهُ، فإنْ أَعْجبني ما تكتُبُ ، فَلرُبَّما أتحمّس وأدفعه للنشر.
حملتُ مخطوطة الديوان وعدتُ إلى محترفي، ورحت أتجوَّلُ عَبرَ الربيع الأسود فلم أتركْ شوكةً من أشواكه إلاَّ واستنطقْتُها، أو وردةً ذاويةً إلا استفسَرْتُها عن سبب ذُبولها، وعند ما استويتُ على بُركانِ التَّلقِّي المبدع للتجربة الفنية الحورانية ،تناولتُ ريشتي لأدوِّنَ بصورة واعيةٍ ما عاشه الحوراني بصورةٍ غير واعية، ووجدتني أنزفُ فأقول: الربيعُ الأسودُ ؛باقة من الأوراد الحزينة الذاوية، وسط حقول الشتاتِ والضياع. وصورةُ من صورِ التمزُّقِ الإنساني حينما تعصفُ بالمرءِ رياحُ الغُربة والشقاءِ، لتقذفهُ فريسةً لبراثنِ الوجع البشري والمعاناة السرمدية.
ووجدتُ في الربيع الأسود؛ ملحمةً للضياع البشري في وهادِ الانسحاق على أشواك المسؤولية القاسية، حينما يجدُ الإنسان أنَّهُ يمتلكُ شيئاً واحداً هو ألاّ يملك ، في زمن تدهورت فيه القيمُ، وتحطمتْ المبادئُ ، وانتصبتْ صواري الزِّيف والبهتان مارداً يُدمِّر كلَّ دوافع الخير والكرامة في الإنسان على أرضه وفي وطنه بين أهله وذَويه.
ورأيتُ في الربيع الأسود صورةً من صور الانسحاق البشري تحتَ عجلاتِ الغُربةِ بين الأهلِ والأصدقاء الذين أعمتْهم شهوةُ السُّلطة والتحكُّم في العباد، وتفسخت أخلاقُهم تحتَ وطأه لهيب سياط الجاه والسلطان والفسادِ، وكلِّ أتعاب المشيخة والسيادة والإمارة، وجميع أسماء التعجب والإشارة.
وتمثَّلتْ أمامَ ناظريَّ خلال قصائدِ الربيع الأسود؛ معركةُ النَّقاءِ الإنساني البَكْر، حينما تقذِفُ به، إلى أو حال الرقِّ والعبودية، قوى عمياء شرسة ، فتجعلَ تنفُّسهُ مُستحيلاً، وتحرمُه حتى من صَفاء أحلامه، وتطرحهُ على عفنِ الأرصفة وأقذارِ الساحات خرقةً باليةً، وممسحةً لأحذية كِلاب السلطان، وتحرِّم عليه حتى شعورهُ بتفاهته ومهانته ، إلاّ بسلطان.
وتتفجر في الربيع الأسود مأساةُ الإنسان العربيّ المعاصرِ الَّذي تطحنه أجهزة إعلام الخلافة الشرسة، فتلوكهُ بين أشداقِها وتبصقُهُ علقةً مسطحة، تكتبُ عليها اليوم ما تنقضُه في الغدِ ، وما تكون قد مسحتهُ بالأمس ، فتجردهُ من عقله وحواسه وقيمهِ البشرية المشروعة، لتزرع فيه الكفر بالماضي، والهلَعَ من الحاضر، والخوف من المستقبل، إذا بقي مستقبل ! وتُّفجرُ فيه الحقدَ والقرفَ، وتبذُرُ في أعماقه الكُرهَ لنفسه ولمن حوله وللعالم أجمع...وتسلِّطُ عليه جرافاتِ الدعاية الجبنة أبي الولد الطَّيَّبة) ومعجون الحلاقة الناعم) وخيّال مارلبوروالمِقْدام) وتصفُعُه صَحُفُ الصباح لتبصقَ في وجههِ وتقنعَهُ بغبائه وسذاجته، بمفرداتها المثقوبة كالأحذية القديمة، مفردات العهر والهجاء والشتيمة، فينبطحُ جيفةً نتنةً، تنبعثُ منه روائح التفسُّخ والغربة، والانحلال والشقاء والإفلاس.
والربيع الأسودُ "منشيت" عريض بجيل النكْسة بعد النكْسة ، والهزيمة بعد الهزيمة، لأجيال العَبَثِ والاغتراب والضَّياع ، تنفيذاً لمرسوم من الباب العالي والبلاط السامي؛ بإقالة فكره، وقلبه، وحواسه الستْ،. وتوظيفه بمرسومٍ آخر في جوقة النباح من المساء حتى الصباح على أن تتوفر فيه مواصفات فنية وتعبوية أهمها:
-ألاّ يرى إلاِّ بمنظارها.
- وألاِّ يسمعَ إلاّ كِذبها.
-وألا يتنفس إلا من زكامها.
-وألا يقتاتَ إلاَّ على علفها.
- وألاَّ يشربَ إلاَّ من أوحالها.
- وألاَّ يحسَّ إلاَّ بقرون استشعارها.
- وألا يحلمَ إلاَّ بأضغاثها.