التصوف الإسلامي ومراحله آب (أغسطس) ٢٠٠٧ ، بقلم الدكتور جميل حمداوي تمهيـــد:يعد مبحث التصوف من أهم المباحث التي يستند إليها الفكر الإسلامي إلى جانب علم الكلام والفلسفة. وقد أثار التصوف الإسلامي جدلا كبيرا بين المستشرقين والباحثين العرب والمسلمين حول مفهومه ومواضيعه ومصطلحاته ومصادره وأبعاده المنهجية والمرجعية.
ويرتكز التصوف الإسلامي على ثلاث مكونات أساسية وهي: الكتابة الصوفية، والممارسة الروحية، والاصطلاح الصوفي.
وعليه، فبعد أن هيمنت المادة على الإنسان المعاصر وانحطت القيم الأخلاقية في هذا العالم المنحط وانتشرت الأهواء والنحل والصراعات الإيديولوجية حول السلطة وتهافت الناس حول المكاسب الدنيوية بشكل غريب، لم يجد الإنسان اليوم أمامه من حل سوى الارتماء في أحضان التصوف والدخول في الممارسة العرفانية قصد الحصول على السعادة الوجدانية والراحة النفسية والاستمتاع بالصفاء النوارني والاحتماء بالحضرة الربانية وصالا ولقاء.
إذا، ما هو التصوف لغة واصطلاحا؟ وما هي المواضيع التي يتمحور حولها التصوف الإسلامي؟ وما مراحل هذا التصوف؟ وما هي مصادره الداخلية والخارجية؟ وما هي أبعاده المنهجية ؟ هذه هي الأسئلة التي سوف نحاول الإجابة عنها في دراستنا المتواضعة.
1. مفهوم التصوف: أ- لغـــــة:تشتق كلمة التصوف من فعل صوّف جعله صوفيا، وتصوّف صار صوفيا، أي تخلق بأخلاق الصوفية. والصوفية فئة من المتعبدين، واحدهم الصوفي. [1] وقال ابن خلدون في كتابه (المقدمة): "قال القشيري رحمه الله ولا يشهد لهذا الاسم اشتقاق من جهة العربية ولا قياس والظاهر أنه لقب ومن قال اشتقاقه من الصفا أو من الصفة فبعيد من جهة القياس اللغوي. قال: وكذلك من الصوف… قلت: والأظهر إن قيل بالاشتقاق إنه من الصوف وهم في الغالب مختصون بلبسه لما كانوا عليه من مخالفة الناس في لبس فاخر الثياب إلى لبس الصوف.". [2]
وتحيل الدلالات الاشتقاقية لكلمة التصوف على صوفيا، والصوفة، وأهل الصفة، والصوف، والصفاء أو الصفو.
فكلمة صوفيا الدالة على الحكمة مستبعدة في هذا النطاق المعجمي، لأن كلمة صوفيا التي تحيل على العقل والمنطق تتناقض مع العرفان الروحاني والذوق الوجداني، كما أن التصوف بعيد عن كل اشتغال حسي وعقلي وذهني وأميل إلى الحدس العرفاني والتجربة الباطنية.
وهناك من يربط التصوف بصوفة كابن الجوزي، إذ كان هناك قوم من الجاهلية انقطعوا إلى العبادة والطواف حول الكعبة، ويعود نسبهم إلى الغوث بن مر الذي كان يعرف باسم صوفة أطلقته أمه عليه، لأنها لم يكن يعيش لها أولاد، فنذرت لئن رزقت بولد لتجعلن برأسه صوفة وتهبه للكعبة فولدت الغوث، وعرف باسم صوفة وظلت الصفة عالقة بأولاده من بعده. وهذا الرأي فيه تكلف وتمحل وتصنع، و لا يمكن الأخذ به دليلا على اشتقاق التصوف من الصوفة.
وهناك من ربط التسمية بزهد الرسول (صلعم) وورع أصحابه رضوان الله عليهم، إذ كان النبي يلبس الصوف كما ورد في قول أنس فيما رواه ابن ماجة أن الرسول (صلعم): "أكل خشنا ولبس خشنا، لبس الصوف واحتذى المخصوف". بيد أن هذا ليس دليلا قاطعا على ارتباط التصوف بحياة النبي (صلعم) وتقشفه في الحياة وزهد صحابته، لأن الرسول (صلعم) كان يلبس الصوف وغير الصوف، وكان يدعو كذلك إلى الإقبال على الحياة والتزين بكل ما يحقق الجمال للإنسان ويريحه نفسانيا وعضويا ويوفر له السعادة الدنيوية والأخروية، ويحث الناس كذلك على التمتع بالدنيا والتلذذ بمباهجها والتنعم بنعمها ولكن بدون إسراف ولا تبذير ولا خيلاء، وهذا الحكم ينطبق على حياة صحابته العدول على حد سواء.
وقيل: إن كلمة التصوف تشير إلى أهل الصفة من الفقراء الزهاد المهاجرين الذين كانوا يسكنون صفة المسجد في المدينة، وكانوا يقلون تارة ويكثرون تارة أخرى، فمن استغنى منهم ترك المسجد وذهب لحال سبيله ليكد في الحياة، ومن لم يجد التزم بالصفة حتى تتحسن أحواله المادية.
والذين يربطون التصوف بأهل الصفة فإنهم يقرنون التصوف بالمهاجرين الأنصار، فهذا رأي غير صحيح لا منطقيا ولا واقعيا ولا لغويا، لأن المنسوب إلى الصفة في علم الصرف "صفيّ" وليس "صوفيّ".
وهناك من يقرن التصوف بلبس الصوف الذي كان علامة أيقونية بصرية تحيل على الممارسة العرفانية والتزهد في الحياة والتقشف في الدنيا والاعتكاف على العبادة والصلاة والدعاء.
وكثير من الصحابة كانوا يلبسون الصوف، فالحسن البصري يقول:"أدركت سبعين بدريا كان لباسهم الصوف"، والبدريون هم الذين شاركوا مع الرسول (صلعم) في معركة بدر. ولكن ليس الصوف دائما يدل على التقوى والصلاح في الثقافة العربية الإسلامية، فقد كان الكثير من الناس يلبسون الصوف ليقال لهم بأنهم أتقياء ورعون، ولكنهم في الجوهر لا علاقة لهم بذلك. ويورد ابن عبد ربه صاحب "العقد الفريد" بيتين قالهما الشاعر محمود الوراق في هؤلاء المتصوفة:
تصوف كي يقال له أمين وما يعني التصوف والأمانـــة