أول مَنْ عُرِفَ بالمغازي والسِّيَرِ جماعةٌ منهم:
1- أَبَان بن عُثمان بن عَفَّان: ابن الخليفة الراشد عُثمان بن عَفَّان – رضي الله عنه- وكان أَبَانُ والياً على المدينةِ لعبد الملك بن مروان سبع سنين، وعُرِفَ بالحديثِ والفقهِ، والظَّاهِرُ أنَّ سيرتَهُ التي جُمِعتْ لم تكنْ إلا صُحُفاً فيها أحاديثُ عن حياةِ رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-، وأيامِهِ، ومَغَازيه، وقد فُقدت فيما فُقدَ من كتبِ المسلمينَ، وكانتْ وفاتُهُ سنة خمس ومائة.
2- عُروة بن الزُّبير بن العَوَّام: أبوه الزُّبيرُ حَوَارِيُّ رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-، أسلم1 قديماً، وشَهِدَ الغزوات، والمشاهد كلها، وأمُّهُ السِّيدةُ أسماء بنت الصديق التي شهدتْ الكثيرَ من أحداثِ السِّيرةِ، وكان لها عملٌ مشهورٌ مذكورٌ في الهجرةِ، وكان عروةُ ثقةً كثيرَ الحديثِ، وقد خَرَّج له أصحابُ الصِّحاحِ، وغيرهم، وقد روى الحديثَ عن خالتِهِ السَّيِّدةِ عائشةَ – رضي الله عنها وعن غيرها من الصَّحابة-، وكان مَعْرُوفاً بتدوينِ العلمِ والحديثِ، روى ابنُهُ هشامٌ ,قال: (أحرقَ أبي يوم الحَرَّة كُتباً قد كانتْ له)، فكان يقول: (لأن تكونَ عندي أحبُّ إليَّ مِن أن يكونَ لي مثل أهلي وولدي)، ولم يصل لنا شيءٌ من كتبِهِ. ولكن وصل إلينا الكثيرُ من روايتِهِ في كتب الحديثِ والسِّيرِ وتُوفِّي سنة اثنتين أو ثلاث أو خمس وتسعين للهجرة.
3- الإمام محمد بن شهاب الزُّهري: عالم الحجاز، والشَّام، وهو من الثِّقاتِ في الرِّواية، أجمع العلماءُ على جلالتِهِ، أخرج له أصحابُ الصِّحاحِ، والسُّنن، والمسانيدِ، وهو مِن أوائلِ مَن دَوَّنوا الحديثَ بأمرِ الخليفةِ الرَّاشدِ عمرَ بن عبد العزيز – رضي الله عنه- (المُتوفَّى 101هـ) بل قيل: إنه أول من دوَّنَ الحديثَ مطلقاً، وكذلك قيل: إنه أولُ مَن دَوَّن في السِّيرةِ، وسيرتُهُ أولُ سيرةٍ أُلِّفتْ في الإسلامِ، وهي من أوثقِ السِّيرِ وأصحِّها، ويعتمدُ عليه ابنُ إسحاق كثيراً في السِّيرةِ, تُوفِّي سنة 120هـ.
طبقة ثانية:
ثم جاء بعد هؤلاء طبقةٌ أُخرى، من مشاهيرِهم:
1- عاصِمُ بن عُمر بن قَتَادة بن النُّعمان الأنصاريُّ: كان جدُّهُ قتادة من أصحابِ رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-، شهدَ بَدْراً وأُحُداً والمشاهدَ، وأُصيبتْ عينُهُ يومَ أُحُد، فسقطتْ على وجنتِهِ، فردَّها رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-، فعادتْ أحسنَ عينيهِ وأحدَّهما. وابنُهُ عمرُ روى المغازيَ والأخبارَ عن أبيه، ورواها عن عُمرَ ابنُهُ عاصمٌ، قال فيه ابنُ سعد: كان راويةً للعلم، وله عِلْمٌ بالمغازي والسِّيَرِ، أَمَرَهُ عُمرُ بنُ عبد العزيز أنْ يجلسَ في مسجدِ دمشق، ويُحدِّثَ النَّاسَ بالمغازي ومناقب الصَّحابة، ففعل، وكانَ من المصادرِ المهمةِ التي اعتمدَ عليها ابنُ إسحاق، والواقديُّ، تُوفِّي سنة عشرين ومائة، وقيل: تسع وعشرين ومائة.
2- عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري: جده الأعلى عمرو بن حزم صحابيٌّ، بعثَهُ رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- إلى اليمنِ، ليفقههم في الدِّين، ويُعلمهم القرآنَ والسُّنَّةَ، وجدُّه محمدٌ, قيل: له رؤيةٌ، ماتَ يوم الحَرَّةِ، وأبوه أبو بكر كان قاضي المدينة وواليها، وهو أول من دوَّن الحديثَ بأمر عمر بن عبد العزيز، أو من أوائلِهم، فقد نشأ عبد الله –إذاً- في بيتِ علمٍ وروايةٍ، وقد نُقلتْ عن عبدِ اللهِ أخبارٌ كثيرةٌ ذكرها ابنُ إسحاق والواقديُّ، وابنُ سعدٍ، والطَّبريّ, تُوفِّي سنة خمس وثلاثين ومائة.
طبقة ثالثة:
ثم جاء بعد هذه الطبقةِ طبقةٌ أُخرى عاشتْ في العصرِ العباسيِّ الأولِ، مِن أشهرِهم:
1- مُوسى بن عُقْبة: مولى الزُّبيريينَ، والظَّاهِرُ أنَّهُ استفادَ من هذه الصِّلةِ، قال فيه الإمامُ مالكٌ: (عليكم بمغازي ابنِ عُقْبة، فهي أصحُّ المغازي). وكانتْ سيرتُهُ التي كتبها مختصرةً مُوجزةً وصل إلينا منها بعضُ المقتطفاتِ. ينقل عنه ابنُ سعدٍ والطَّبريّ بعضَ أخبارِ السِّيرةِ، وقد رَوَى له البُخاريّ في الصَّحيحِ، وكانتْ وفاتُهُ سنة إحدى وأربعين ومائة.
2- محمد بن إسحاق بن يَسَار المُطَّلبي: وهو فارسيُّ الأصلِ ، كان جدُّه يَسار من سبي (عين التمر), سَبَاهُ خالِدُ بن الوليد، وكان ولاؤه لقيسِ بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف، فلذلك قيل له: المطَّلبي ولد نحو سنة خمس وثمانين، لقي كثيراً من علماء المدينة وأخذ عنهم، قال فيه الإمام الشافعي: (من أراد أن يتبحر في المغازي فهو عيال على محمد بن إسحاق) وهو يعتبر ثقة في المغازي، لكنه مضعَّف في رواية الحديث، وجرحه بعض المحدِّثين، وأثنى عليه آخرون، وألف ابن إسحاق كتابه المغازي، وهو أقدم كتاب وصل إلينا في السِّيرة، ألَّفه للمهدي بأمر أبيه المنصور، جمع فيه تاريخ العالم منذ خلق الله آدم إلى زمنه،وقد طوَّل فيه فلم يرضه المنصور، وأمره باختصاره فاختصره، توفي ببغداد سنة إحدى وخمسين ومائة، وقيل اثنتين وخمسين.
3- الواقديُّ, محمد بن عمر بن واقد مولى بني هاشم: كان الثاني بعد ابن إسحاق في العلم بالمغازي والسير والتواريخ، وكان معاصره مع صغر سنه عنه، وقد لقي الكثيرين من الشيوخ، وروى عنهم، وكان كثير العلم بالتَّاريخ والحديث، وقد اختلف في تقديره المحدِّثون ما بين مُعدِّلٍ ومُجرِّحٍ له، ويُروى أنه اختلطَ في آخرِ عُمرِهِ، قال فيه البُخاريّ: (منكر الحديث), ولكنهم لا يطعنون في سعة علمه بالمغازي قال فيه الإمام أحمد بن
حنبل: (إنه بصير بالمغازي) على حين قال فيه أيضاًالواقديُّ يُركِّبُ الأسانيدَ)4. عُنِيَ الواقديُّ بالمغازي والسير بخاصة، والتَّاريخ الإسلامي بعامة، وكان لا يعرف كثيراً من أمور الجاهلية.
وقد كانت كتبُهُ عُمدةً للمُؤرِّخين من بعده، ونقلوا منها واقتبسوا، وللواقديِّ كتابُ التَّاريخ (التَّاريخ الكبير) مُرتَّبٌ على السِّنين، اقتبس منه الطَّبريّ في تاريخِهِ كثيراً، وكتاب (الطبقات) ذكر فيه الصَّحابة والتَّابعين حسب طبقاتهم، ويُظنُّ أنَّ كاتبَهُ ابنَ سعدٍ قد تأثَّر به في (طبقاته), ولم يبقَ لنا من كتبِهِ إلا كتابُ (المغازي), وكان مِن أكبرِ المصادرِ التي اعتمدَ عليها الطَّبريّ في تاريخِهِ، تُوفِّي ببغداد سنة سبع ومائتين, وقيل تسع.
طبقة رابعة:
ثم جاء بعد ذلك طبقةٌ أُخرى، مِن مشاهيرِهم:
1- أبو محمد عبد الملك بن هِشام بن أيوب الحِمْيريُّ المعَافِريُّ: من مصر، وأصلُه من البصرة، وله كتابٌ في (أنساب حِمْير وملوكها), وكتاب في (شرح ما وقع في أشعارِ السِّيرةِ من الغريبِ). وله الكتابُ الذي اشتُهِر به (السِّيرة) وهو مختصرٌ لسيرةِ ابنِ إسحاق، مع بعض الزِّياداتِ، أو التعقباتِ والتصحيحاتِ، ولئن كانتْ سيرةُ ابنِ إسحاق لم تصلْنا بعينِها, فقد وصلتْنا مُهذَّبةً على يدِ ابنِ هشامٍ.
وقد تلقَّاها عن زيادِ بن عبدِ الله البكَّائيِّ (المتوفى سنة 182هـ) عن ابن إسحاق. وقد بيَّن ابنُ هشامٍ في المقدمةِ منهجَهُ حِيالَ سيرةِ ابنِ إسحاق, فقالَ: (وأنا – إنْ شاءَ اللهُ- مبتدئٌ هذا الكتابَ بذكرِ إسماعيل بن إبراهيم، ومن ولد رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- من ولده،وأولادهم لأصلابهم: الأول فالأول من إسماعيل إلى رسولِ الله، وما يعرضُ من حديثِهم, وتاركٌ ذكرَ غيرِهم من ولد إسماعيل – على هذه الجهة- للاختصار، إلى حديث سيرةِ رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-، وتارك بعض ما ذكره ابنُ إسحاق مما ليس لرسول الله فيه ذكرٌ، ولا نزلَ فيه من القُرآنِ شيءٌ، وليس سبباً لشيءٍ من هذا الكتابِ، ولا تفسيراً له، ولا شاهداً عليه – لما ذكرتُ من الاختصارِ- وأشعاراً ذكرها لم أرَ أحداً من أهلِ العلمِ بالشِّعرِ يعرفُها، وأشياءَ بعضُها يشنعُ الحديثُ به، وبعضٌ يسوءُ بعضَ النَّاسِ ذكرُهُ، وبعضُه لم يقرَّ لنا البكَّائيُّ بروايتِهِ، ومستقصٍ – إنْ شاءَ اللهُ تَعَالَى- ما سوى ذلكَ منه بملبغِ الرِّواية له، والعلمِ به).
من أجلِ هذا نُسِيَ ابنُ إسحاق، وذُكِرَ ابنُ هشامٍ، فلم يعدْ يُذكرُ هذا الكتابُ في السِّيرةِ إلا مقروناً باسمِ ابنِ هشام، لا يُكاد يُذكر ابنُ إسحاق إلى جانبِهِ، وهذا بالنِّسبةِ للمتأخِّرين، أما المتقدِّمون فلا يذكرون إلا ابنَ إسحاق، وكانتْ وفاةُ ابن هشامٍ سنة ثماني عشرة ومائتين.
وقد شرحَ هذه السِّيرةَ شَرْحاً يدلُّ على تبحُّرٍ في العلمِ، وتضلُّعٍ في علم اللُّغةِ والأدبِ والأخبارِ؛ الإمامُ أبو القاسم عبدُ الرحمن بن عبدِ الله السُّهيليُّ الأندلسيُّ، المولود سنة ثمان وخمسمائة والمُتوفَّى سنة إحدى وثمانين وخمسمائة، في كتابِهِ القيِّم (الرَّوض الأُنُف) وكان – رحمه الله- إلى جانبِ علمِهِ مَعْرُوفاً بالصَّلاحِ والتَّقوى والوَرَعِ.
2- محمدُ بن سعدٍ تلميذُ الواقديِّ وكاتبُهُ: يُدوِّنُ له كتبَهُ وأخبارَهُ، ومن أجلِ هذا لُقِّبَ (بكاتب الواقديِّ). وُلِدَ بالبصرةِ سنة ثمان وستين ومائة، وآباؤه موالٍ للحسن بن عبد الله بن عُبيد الله بن العبَّاسِ، وأجلُّ كتبه (الطبقات الكبير) في ثمانية أجزاء، وقد خَصَّصَ الجزء الأول والثاني من كتابِهِ لسيرة رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- ومغازيه، وخَصَّص الأجزاءَ السِّتَّةَ الأُخرى لأخبار الصَّحابة والتَّابعينَ مُرتِّباً لهم على حسبِ الأمصارِ، ثم رتَّب علماءَ كلِّ مصرٍ حسب شهرتِهم وزمنِهم، وقد حظي ابنُ سعدٍ بثناءِ بعضِ المحدِّثين، قال فيه الخطيبُ البغداديُّ: (محمدُ بن سعد عندنا من أهل العدالةِ ، وحديثُهُ يدلُّ على صدقِهِ، فإنَّهُ يتحرَّى في كثيرٍ من رواياتِهِ) وهو أحدُ شيوخِ المُؤرِّخ الكبيرِ البِلاذُري، وتُوفِّي ببغدادَ سنة ثلاثين ومائتين.