لايكاد يمر يوم إلا ونرى أو نسمع عن جريمة قتل أو سرقة أو ظلم أو حرب أو ضرب أو ما شابه ذلك من السلوكيات التي تتنافى مع سعادة الإنسان وأمنه واستقراره ومع نمو وازدهار المجتمع بأكمله بل وحتى مع استقرار الكون كله .
وعلى الرغم من ذلك فان هذه الجرائم تتكرر وتتنوع وتتفاقم فما هو السبب يا ترى ؟ الإجابة تكمن في فهمنا للطبيعة البشرية والقوى المحركة لها وكيفية التعامل معها فالحق سبحانه وتعالى يوضح لنا تركيبتنا النفسية بقوله " ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها" أي أن النفس لديها الاستعداد للفجور اي ارتكاب كل المعاصي من ظلم حاكم عربي أو مسلم لشعبة وسرقة أمواله إلى تلاعب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية بالمعلومات الاستخبارية لإعلان الحرب على العراق وتدميره إلى تزوير رئيس مؤسسة انرون المالية لحسابات الشركة ليسرق أموال المستثمرين إلى تسريب أحد منظمي أسواق المال معلومات إلى صديقته مارتا ستيورت المليونيره الأمريكية حتى تبيع أسهمها المتوقع انخافض أسعارها إلى أم امريكية تلقي بأطفالها الثلاثة في النهر ليموتوا غرقا الى آخر القائمة الطويلة من صور الفجور التي يشهدها عالم اليوم .
وكما أن لدى هذه النفس الاستعداد للفجور فان لديها كذلك الاستعداد للتقوى أي القيام بالأعمال الفاضلة والراقية .
فالسلطان عبد الحميد رفض أن يببع شبرا من أرض فلسطين على الرغم من كل إغراءات هرتزل واليهود وضغوط الدول الإستعمارية وذلك لأنها كما قال هي أرض المسلمين والشهيد الشيخ احمد ياسين، رحمه الله رحمة واسعة ، كان ضعيفا في جسده وفقيرا في امكانياته وقد لايكون زاده العلمي بغزر بعض علماء السلاطين في يومنا هذا ، إلا أنه لم يقبل أن يساوم على حقوق العرب والمسلمين في فلسطين وأعلن هو وإخوته في المقاومة الإسلامية الحرب على المحتل وضحوا بالغالي والرخيص حتى اغتالته قوات الغدر الإسرائلية بضربة من الجو وهو معوق على كرسيه وذاهبا لصلاة الفجر.
وقبل هذا نرى الخليفة عثمان بن عفان ، رضي الله عنه ، يمول جيشا كاملا لنشر الإسلام بينما تتقاعس اليوم حكومات عربية مداخيلها مئات المليارات عن مساعدة الشعب الفلسطيني المرابط بقيادة حماس بمليارين من الدولارات في الوقت الذي نرى فيه بعض اغنياء العرب يبذرون مئات الملايين في صالات القمار والإعلام الهابط والملاهي الليلية وحتى الفيضانات في الولايات المتحدة الأمريكية وكأن الولايات المتحدة اكثر حاجة من الشعب الفلسطيني أو غيره من الشعوب الإسلامية .
فالنفس الفاجرة إذن هي النفس التي تصدر عنها الرذائل بينما النفس التقية هي التي تنبع منها الفضائل . وكما أن النفس التقية لها درجات فإن النفس الفاجرة لها درجات ودوام الحال من المحال .
فالتقوى تزداد وتنقص بزيادة ونقصان قوة محركاتها وهذا يتلمسه الإنسان في تصنيفات النفس كما وردت في القرآن الكريم .
فهناك النفس الأمارة بالسوء التي تنهك صاحبها بالمعاصي وتعمي بصره وبصيرته عن الخير والسعي له ولكن هذه النفس الأمارة بالسوء والراكدة كالطين الذي خلق منه الإنسان تهب فجأة إذا تحركت فيها النفخة الروحية الربانية ودفعتها إلى المعالي وحولتها من نفس أمارة بالسوء إلى نفس لوامة تنكر الرذيلة وتبتعد عنها وتتوق إلى الفضيلة وتقترب منها ومع زيادة جرعة النفخة الروحية وانتصارها على تثاقل القبضة الطينية ترنوا هذه النفس إلى درجة أعلى ألا وهي النفس المطمئنة فيحقق الله لهذه النفس وصاحبها حسن الخاتمة بقوله تعالى " يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي " (الفجر، 27 – 30) جنبنا الله وإياكم النفس الأمارة بالسوء وجعل نفوسنا نفوسا مطمئنة .
واذا اتفقنا على أن صور الفجور التي ذكرنا بعضا منها تنفر منها النفس ولاتتناسب مع أمن المجتمع وتطوره وأن صور التقوى التي عرجنا على بعضها هي من السوكيات التي تسكن بها النفس ويؤيدها العقل فإن الخطوة التالية في بناء المجتمع الذي لايشقى فيه الإنسان هي تضييق دائرة الفجور ولاأقول إنهاءه لآن ذلك غير ممكن وتوسيع دائرة التقوى مصداقا لقوله تعالى " قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها" (الضحى، 9-10).
إن هذه التقوى هي حارس داخلي يقوم بدور السائق الذي يوجه النفس البشرية وكلما كان هذا الحارس قويا وواعيا ومستعدا كلما استقامت النفس البشرية وارتقت في سلوكياتها في كل الأدوار التي يقوم بها الفرد سواء كان أبا أو أما او طالبا او قائدا أو رجل اعمال او أستاذا او شرطيا او اي دور آخر والاستقامة هنا تعني أن يقوم الفرد بهذه الأدوار بأعلى درجة من الكفاءة والأمانة مصداقا لقوله تعالى على لسان ابنة شعيب " قالت إحداهما ياأبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين " (القصص ، 26).
وعلى الرغم من أن الحضارة العلمانية المعاصرة أوجدت رقابة خارجية على الإنسان مثل المؤسسات الرقابية والمحاسبية والقانوينة إلا ان هذه الرقابة لايمكن ان تكون بديلا للرقابة الداخلية وانما مكملة لها .
وهناك كثير من الشواهد على ان الأصل هي الرقابة الداخلية لأنها اكثر فعالية واكثر ديمومة ويمكننا توضيح ذلك بمثال صغير ولكنه معبر.
فعندما يتشبع الإنسان بعقيدة نابعة من الخوف من الله ورجاء ثوابه في الدنيا والآخره وهو ذو مال فاننا نراه مثلا يبحث عن مستحقي الزكاة حتى يطهر أمواله ويزكي نفسه وينال رضى الله من غير أن يتابعه أحد لأن عقيدته الصحيحه اثمرت حارسا داخليا يأمره بتفيذ التزاماته التي تمليها عقيدته.
في المقابل نرى في المجتمعات الغربية تأتي الحكومات بإجماع شعبي ولكن عندما تفرض هذه الحكومة أو تلك ضريبة فان كثيرا من أفراد المجتمع يبحث عن كل وسيلة ممكنه للتهرب من هذه الضريبة لذلك نرى أن كثيرا من الحكومات المعاصرة في الدول الصناعية والنامية تصرف مبالغا طائلة لملاحقة المتهربين .
ولكن لماذا يحاول دافع الضريبة التهرب من دفع ضريبته بينما يدفع صاحب الزكاة زكاته من تلقاء نفسه ؟
والإجابه تتلخص في أن دافع الضريبة يخضع لرقابة القانون الخارجية وهي رقابة يمكن التهرب منها ولايمكن أن ترافق الفرد في كل لحظة وفي كل سلوكية بينما دافع الزكاة تكونت لديه رقابة داخلية لاتفارقه مصداقا لقول رسولنا الكريم عندما سأله جبريل عليه السلام عن معنى الإحسان فكان رده " أن تعبد الله كأنك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك " .
هذه الرقابة الداخلية وكيفية تنميتها والحفاظ عليها وآثارها على ازدهار المجتمعات بكل شرائحها هو موضوع هذا الباب من الموقع الذي يهدف الى تشجيع الفرد المسلم الى ايجاد الإنسجام بين قوله وفعله حتى يرتقي ايمانه ويكون لبنة صالحة في نهضة هذه الأمة ويتجنب مقت الله الذي يحذرنا منه بقول " ياايها الذين آمنوا لم تقولون مالاتفعلون . كبر مقتا عند الله ان تقولوا مالاتفعلون"(الصف، 2-3).
محاولة لفهم النفس البشرية