وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ خص الله -جل وعلا- هاتين العبادتين؛ لأنهما الركنان الثاني والثالث بعد الشهادتين؛ ولهذا كان بعض العلماء من أهل السنة والجماعة يرى أن مَن ترك الصلاة أو الزكاة فهو كافر؛ لأن الله -جل وعلا- قرنهما كثيرًا، ورتَّب جل وعلا عدم قتال الكفار على فعلهما، وجعل الأخوة مرتبطة بفعلهما: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ . وفي الآية الأخرى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ فخَصَّ الله -جل وعلا- هاتين الآيتين بالذكر مع دخولهما في الدين؛ لأنهما من أعظم أركان الدين، قال جل وعلا: وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ أي: وذلك دين الملة القيمة المستقيمة التي تَعَبَّدَ الله -جل وعلا- خلقَه بها.
ثم قال جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ يعني: أن المشركين في نار جهنم، وقد بَيَّنَا ذلك فيما سبق، وأنهم خالدين فيها لا يخرجون منها أبدًا، وقد تقدم بيان ذلك.
وزاد الله -جل وعلا- في هذه الآية أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ البرية بمعنى الخليقة، يعني: أن الكفار هم شر الخلق، فهم أشر من البهائم والدواب؛ لأن هذه البهائم والدواب إذا كان يوم القيامة يجري بينها القصاص، لكن ليس عليها حساب، ولا عذاب، يقتص الله -جل وعلا- لكل واحدة من الأخرى، ثم يقال لها: كوني ترابًا، فتكون ترابًا؛ لأن الله -جل وعلا- لم يخلق فيها عقولًا لتدرك شرعه وحكمه.
وأما بنو آدم فخلق الله -جل وعلا- لهم عقولًا؛ ليدركوا بها هذا الشرع، وما بعثت به الأنبياء والمرسلون، فوقع الحساب عليهم جزاء على أعمالهم وعدلًا منه جل وعلا؛ ولهذا كان بنو آدم هم الذين كلفهم الله -جل وعلا- بأن يحملوا تكاليف الشرع: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا فلما حملها فإنه يحاسب عليها يوم القيامة.
وأما تلك البهائم فليس لها عقول؛ فلهذا لم تحمل هذا الشرع؛ ولهذا وصف الله -جل وعلا- هؤلاء الكفار بأنهم شر من الدواب: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ وقال جل وعلا: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ فلهذا يكونون هم شر الخليقة.
ثم قال جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ قد صدق لنا أن الله -جل وعلا- دائمًا في كتابه الكريم يقرن ببن الجزاءين ويبين حال الفريقين، وهنا لما ذكر الله -جل وعلا- حال الكفار والمشركين، وما أعده لهم ذكر جل وعلا بعد ذلك حال عباده المؤمنين في الآخرة: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ .
والبرية عند أكثر العلماء معناها الخليقة، وبعض العلماء يقول: إن البرية تحتمل أن تكون من البراء، وهو التراب، ويكون على ذلك أولئك هم خير من خلق من تراب، والمخلوق من التراب إما مؤمن وإما كافر، لكن أكثر أهل العلم على أن قوله جل وعلا: أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ أي: أولئك هم خير الخليقة.
ومن هذه الآية استنبط بعض العلماء أن صالح البشر أفضل من الملائكة؛ لأن الله -جل وعلا- قال: أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ يعني: خير الخليقة فدل على أن صالح البشر أفضل من الملائكة، وهذه المسألة قد تكلم فيها العلماء كثيرًا: فمنهم من يرى أن الملائكة أفضل، ومنهم من يرى أن صالح البشر أفضل، مع اتفاق العلماء على أن نبينا -صلى الله عليه وسلم- هو أفضل الخلق: من البشر، والملائكة، والجن وغيرهم.
قال الله -جل وعلا-: أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ يعني: أن هؤلاء يكونون في جنة عدن، وجنة عدن هي جنة الإقامة؛ لأن كلمة عدن معناها مقيم، فهم في دار الإقامة، لا يخرجون عنها أبدًا.
كما قال الله -جل وعلا- عنهم إذا دخلوا الجنة: إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ وقال الله -جل وعلا- في الآية الأخرى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا .
وقال جل وعلا: لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا يعني: لا يبغون عنها منقلبًا، ولا تحولا، وقوله: خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا تأكيد للإقامة في جنات عدن، وأنهم لا يخرجون منها أبدًا.
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أي: أن الله -جل وعلا- قد رضي عنهم، وهم قد رضوا عن الله -جل وعلا- لأن الله -جل وعلا- أعطاهم ما وعدهم؛ ولأن الله -جل وعلا- هداهم، ووفقهم للطاعة، ويوم القيامة يرضون ويرضيهم الله جل وعلا. وقد قدمنا أن الله -جل وعلا- لا يرضى إلا عن القوم المؤمنين، وإذا رضي عنهم ربهم -جل وعلا- فإنه جل وعلا يكرمهم وينعمهم.
ثم قال جل وعلا: ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ أي أن هذا الأجر لمن خشي الله -جل وعلا- ووجل قلبه من ربه، خشي الله -جل وعلا- خشية في قلبه، ظهرت آثارها على جوارحه، فعمل بطاعة الله -جل وعلا- والعبد إذا خشي ربه -جل وعلا- بلقبه ظهر آثار ذلك على جوارحه، كما قال تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ