المستشرقون وعلماء التوراة يفسرون كلمة عرب
أما المستشرقون وعلماء التوراة المحدثون، فقد تتبعوا تأريخ الكلمة، وتتبعوا معناها في اللغات السامية،وبحثوا عنها في الكتابات الجاهلية وفي كتابات الآشوريين والبابليين واليونان والرومان والعبرانيين وغيرهم، فوجدوا إن أقدم نصّ وردت فيه لفظة "عرب" هو نص آشوري من أيام الملك "شلمنصر الثالث" "الثاني?" ملك آشور. وقد تبين لهم إن لفظة "عرب" لم تكن تعني عند الآشوريين ما تعنيه عندنا من معنى، بل كانوا يقصدون بها بداوة وإمارة "مشيخة" كانا تحكم في البادية المتاخمة للحدود الآشورية، كان حكمها يتوسع ويتقلص في البادية تبعاً للظروف السياسية ولقوة شخصية الأمير، وكان يحكمها أمير يلقب نفسه بلقب "ملك" يقال له "جنديبو" أي "جندب" وكانت صلاته سيئة بالآشوريين. ولما كانت الكتابة الآشورية لا تحرك المقاطع، صعُب على العلماء ضبط الكلمة، فاختلفوا في كيفية المنطق بها، فقرئت: "Aribi" و "Arubu" و "Aribu" و "Arub" و "Arai" و "Urbi" و "Arbi" إلى غير ذلك من قراءات. والظاهر إن صيغة "Urabi" كانا من الصيغ القليلة الاستعمال، ويغلب على الظن إنها استعملت في زمن متأخر، وأنها كانت بمعنى "أعراب" على نحو ما يقصد من كلمي "عُربي" و "أعربي" في لهجة أهل العراق لهذا العهد. وهي تقابل كلمة "عرب" التي هي من الكلمات المتأخرة كذلك على رأي بعض المستشرقين. وعلى كل حال فإن الآشوريين كانوا يقصدون بكلمة "عربي" على اختلاف أشكالها بداوة ومشيخة كانت تحكم في أيامهم البادية تمييزاً لها عن قبائل أخرى كانت مستقرة في تخوم البادية.
و وردت في الكتابات البابلية جملة "ماتواربي" "Matu A-Ra-bi" ، "Matu Arabaai" و معنى "ماتو" "متو" أرض، فيكون المعنى "أرض عربي" ، أي "أرض العرب" ، أو "بلاد العرب" ، أو "العربية" ، أو " بلاد الأعراب" بتعبير اصدق و أصح. إذ قصد بها البادية، و كانت تحفل بالأعراب.
وجاءت في كتابة "بهستون" "بيستون" "Behistun" لدارا الكبير "داريوس" لفظة "ارباية" "عرباية" "Arabaya" و ذلك في النص الفارسي المكتوب باللغة "الأخمينية" ، و لفظة "Arpaya" "M Ar payah" في النص المكتوب بلهجة أهل السوس "Susian" "Susiana" و هي اللهجة العيلامية لغة عيلام.
ومراد البابليين أو الآشوريين أو الفرس من "العربية" أو "بلاد العرب"، البادية التي في غرب نهر الفرات الممتدة إلى تخوم بلاد الشام.
وقد ذكرت "العربية" بعد آشور وبابل وقبل مصر في نص "دارا" المذكور، فحمل ذلك بعض العلماء على إدخال طور سيناء فيَ جملة هذه الأرضين. وقد عاشت قبائل عربية عديدة في منطقة سيناء قبل الميلاد.
و بهذا المعنى أي معنى البداوة والأعرابية والجفاف والقفر، وردت اللفظة في العبرانية وفي لغات سامية أخرى. ويدل ذلك عذ أن لفظة "عرب" في تلك اللغات المتقاربة هو البداوة وحياة البادية، أي بمعنى "أعراب". وإذا راجعنا المواضع التي وردت فيها كلمة "عربي" و "عرب" في التوراة، نجدها بهذا المعنى تماماً. ففي كل المواضع التي وردت فيها في سفر "أشعياء" "Isaiah" مثلاً نرى أنها استعملت بمعنى بداوة و أعرابية، كالذي جاء فيه: "ولا يخيم هناك أعرابي" و "وحي من جهة بلاد العرب في الوعر في بلاد العرب تبيتين يا قوافل الددانيين" . فقصد بلفظة "عرب" في هذه الآية الأخيرة البادية موطن العزلة والوحشة والخطر، ولم يقصد بها قومية وعلية لمجلس معين بالمعنى المعروف المفهوم.
ولم يقصد بجملة "بلاد العرب" في الآية المذكورة والتي هي ترجمة "مسا ه -عراب" " Massa ha-Arab"، المعنى المفهوم من "بلاد العرب" في الزمن الحاضر أو في صدر الإسلام، وإنما المراد بها للبادية، التي بين بلاد الشام والعراق وهي موطن الأعراب.
وبهذا المعنى أيضاً وردت في "أرميا"، ففي الاية "وكل ملوك العرب" الواردة في الإصحاح الخامس والعشرين، تعني لفظة "العرب" "الأعرابي"، أي "عرب البادية". والمراد من "وكل ملوك العرب" و " كل رؤساء العرب" و "مشايخهم"، رؤساء قبائل ومشايخ، لا ملوك مدن وحكومات. وأما الآية: "في الطرقات جلست لهم كأعرابي في البرية"، فإنها واضحة، وهي من الآيات الواردة في "أرميا". والمراد بها أعرابي من البادية،لا حضري من أهل الحاضرة. فالمفهوم اذن من لفظة "عرب" في اصحاحات "أرميا" إنما هو البداوة والبادية والأعرابية ليس غير.
ومما يؤيد هذا الرأي ورود "ها عرابة ha'Arabah " في العبر انية، ويراد: بها ما يقال له: "وادي العربة"، أي الوادي الممتد من البحر الميت أو من بحر الجليل إلى خليج العقبة. وتعتي لفظة "برابة" في العبرانية الجفاف وحافة الصحراء وأرض محروقة، أي معاني ذات صلة بالبداوة والبادية. وقد أقامت في هذا الوادي قبائل بدوية شملتها لفظة "عرب". وفي تقارب لفظة "عرب" و "عرابة"، وتقارب معناهما، دلالة على الأصل المشترك للفظتين. ويعدّ وادي "العربة" وكذلك "طور سيناء" في بلاد العرب. و قصد ب "العربية" برية سورية في "رسالة القديس بولس إلى أهل غلاطة".
علمــــــــــاء العربية وكلمة عـــــــــرب
وقد عرف علماء العربية هذه الصلة بين كلمة "عرب" و "عرابة" أو "عربة"، فقالوا: "إنهم سموا عربا باسم بلدهم العربات. وقال إسحاق بن الفرج: عربة باحة العرب، وباحة دار أبي الفصاحة إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام". وقالوا:"وأقامت قريش بعربة فتنخت بها، و أنتشر سائر العرب في جزيرتها، فنسبوا كلهم إلى عربة، لأن أباهم اسماعيل، صلى الله عليه وسلم، نشأ وربى أولاده فيها فكثروا. فلما لم تحتملهم البلاد، انتشروا، وأقامت قريش بها. وقد ذهب بعضهم إلى أن عربة من تهامة، وهذا لا يخفي على كل حال وجود الصلة بين الكلمتين.
ورواية هؤلاء العلماء مأخوذة من التوارة، أخذوها من أهل الكتاب، ولا سيما من اليهود، وذلك باتصال المسلمين بهم: واستفسارهم منهم عن أمور عديدة: وردت في التوراة، ولا سيما في الأمور التي وردت مجملاً في القرآن الكريم والأمور التي تخص تأريخ العرب وصلاتهم بأهل الكتاب.
عودة إلى علمــــــــــاء التــــــــوراة
ويرى بعض علماء التوراة أن كلمة "عرب" إنما شاعت وانتشرت عند العبرانيين بعد ضعف "الاشماعيليين" "الاسماعيليين" وتدهورهم وتغلب الأعراب عليهم حتى صارت اللفظة مرادفة ضدهم لكلمة "اشماعيليين". ثم تغلبت عليهم، فضارت تشملهم، مع أن "الاشماعيليين" كانوا أعراباً كذلك، أي قبائل بدوية تتنقل من مكان إلى مكان، طلباً للمرعى ولماء. وكانا تسكن أيضاً في المناطق التي سكنها الأعراب، أي أهل البادية. ويرى أُولئك العلماء إن كلمة "عرب" لفظة متأخرة، اقتبسها العبرانيون من الآشوريين والبابليين، بدليل ورودها في النصوص الآشورية والبابلية، وهي نصوص يعود عهدها إلى ما قبل التوراة. ولشيوعها بعد لفظة "اشماعيليين"، ولأدائها المعنى ذاته المراد من اللفظة، ربط بينها وبين لفظة "اشماعيليين" ، وصارت نسباً، فصيُر جد هؤلاء العرب "إشماعيل"، وعدّوا من أبناء إسماعيل.
هذا ما يخص التوراة، أما "التلمود"، فقد قصدت بلفظة "عرب" و "عربيم" "Arbim" "عربئيم" "Arbi'im" الأعراب كذلك، أي المعنى نفسه الذي ورد في الأسفار القديمة، وجعلت لفظة "عربي" مرادفة لكلمة "إسماعيلي" في بعض المواضع.
وقبل أن أنتقل من البحث في مدلول لفظة "عرب" ضد العبرانين إلى البحث في مدلولها عند اليونان، أود أن أشر إلى أن العبرانيين كانوا إذا تحدثوا عن أهل المدر، أي الحضر ذكروهم بأسمائهم. وفي سلاسل النسب الواردة في التوراة، أمثلة كثيرة لهذا النوع، سوف أتحدث عنها.