كما كان لابراهيم عليه السلام الكثير من الدعاء كما مر علينا فإن لموسى عليه السلام كذلك من الدعاء ما حفل به القرآن الكريم، من ذلك دعاؤه عندما قتل الرجل القبطي الذي كان يقاتل رجلاً من بني اسرائيل واستغاث به على عدوه، قال تعالى على لسانه: “قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له انه هو الغفور الرحيم” (سورة القصص - الآية 16) ودعاء موسى عليه السلام هذا شبيه بدعاء آدم عليه السلام، قدم فيه الاعتراف بالذنب على طلب المغفرة والرحمة، وقد عاهد موسى عليه السلام ربه على عدم العودة إلى ارتكاب ذنب أو أن يكون مناصراً لمجرم، قال تعالى على لسانه: “قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيراً للمجرمين” سورة القصص الآية 17.
الخروج من مصر
ونقف معه عند خروجه من مصر، وكان ذلك بعد التحذير الذي جاءه على ما ورد في الذكر الحكيم بأن القوم يأتمرون به ليقتلوه بسبب قتله لذلك القبطي فخرج منها خائفاً يترقب ألا يكون هناك من يتبعه حتى عبر إلى مدين الى آخر القصة التي سردها القرآن الكريم في سورة القصص، وفي غمرة ترقبه وتوجسه خيفة من القوم، لم ينس موسى أن يتوجه إلى ربه بالدعاء لينجيه من القوم الذين يتربصون به، وهذا شأن النفوس المؤمنة ان تتوجه إلى ربها في أحلك الظروف، كما تتوجه إليه في سرائها، وان تنسب إليه كل فضل وكل خير تناله في حياتها، قال تعالى: “فخرج منها خائفاً يترقب، قال رب نجني من القوم الظالمين” (سورة القصص الآية 21).
وحتى عندما توجه تلقاء مدين، لم يغفل عن طلب الهداية من ربه. قال تعالى: “ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل” (القصص الآية 22)، انه العبد الصالح الذي لا ينسى أو يغفل عن خالقه لحظة من اللحظات، دعاه لينجيه من القوم الظالمين، ونجا بعبوره إلى أرض غير أرض القوم التي خرج منها خائفاً يترقب فهل يضمن ماذا يحدث في الأرض الجديدة؟ ان مثل هذا الضمان لا يركن اليه إلا القوم الغافلون الضالون، يغترب الواحد في أرض لا يعرف عنها شيئاً، ومع ذلك يركن إلى نفسه وانه سيشق طريقه على علم منه وهذا هو الضلال المبين.
إن موسى هذا العبد الصالح عندما حط رحاله في أرض مدين، دعا ربه أن يهديه إلى طريق النجاة والأمن والاستقرار، وعندما سقى لابنتي شعيب، كان يجهل في تلك اللحظة هويتيهما وانما سقى لهما كفتاتين تحتاجان العون والمساعدة فقدمها لهما عندما رأى تأدبهما ووقوفهما بعيداً عن التزاحم على الماء حتى لا يكون الاختلاط بالرعاة الذين وردوا الماء يستقون، وحتى وهو يقدم تلك المساعدة كان في موقف المحتاج إلى عون ربه وحاجته إلى الخير والعطاء منه سبحانه، فنحن الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد، قال تعالى: “فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إليّ من خير فقير” سورة القصص الآية 24. ولأنه فقير إلى خير ربه جاءته الاستجابة الفورية منه سبحانه وتعالى، فها هي احدى الفتاتين تعود إليه قبل ان يبرح مكانه، تدعوه أو بالأحرى تحمل له الدعوة من أبيها ليجزيه على إحسانه لهما وهل هو أب عادي؟ كلا انه نبي الله شعب اذن وقبل ان تأتيه النبوة يعيش موسى في كنف نبي كريم، بل ويصاهره اذ يتزوح إحدى ابنتي شعيب الذي يطمئنه عندما يسمع قصته بالنجاة من القوم الظالمين، أي إنك يا موسى معنا في أمن باذن الله.
الجائزة الكبرى
إن مكافأة الله لعبده الفقير إلى خيره وإحسانه موسى عليه السلام جاءته وهو لا يزال يرقد في الظل عند بئر مدين، فها هي ابنة شعيب تقبل عليه، وهي إحدى اللتين سقى لهما ولا يعرف من هما. قال تعالى: “فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فلما جاءت وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين” (سورة القصص الآية 25) يا سبحان الله! إن موسى يمضي في طريق الاحسان ويوفي بعهده مع الله بأن لا يكون ظهيراً للمجرمين ويدعو ربه أن ينجيه من القوم الظالمين وها هو يجد الاستجابة من رب العالمين، يدعو نبي الله شعب إليه ليعيش في كنفه آمناً ويتزوج من إحدى ابنتيه ويمكث زماناً في مدين، هذا هو فضل الله على عباده الصالحين، فهو الغفور الرحيم لكل من يبدل حسناً بعد سوء مهما كان حجم السوء هذا كبيراً، اذا رجع إلى ربه واستغفر وأناب وعمل عملاً صالحاً حيث يجد الله الغفور الرحيم قد تجاوز عن كل ما فعله ذلك العبد من سوء، المهم ان يبدله باحسان، وأن يكون من المصلحين ولا يكون نصيراً أو ظهيراً للمجرمين.
وفي طريق عودته من مدين بصحبة أهله، يلتقي موسى بالجائزة الكبرى ان صح التعبير بل هي أكبر من كل جوائز الدنيا، إنها الرسالة، هي النبوة، هي اختيار الله لعبده موسى إلى فرعون وقومه، وحتى حين علم موسى ذلك في جانب الطور توجه إلى ربه ليسأله ان يكون له عوناً في هذا الأمر الكبير، قال تعالى على لسان موسى: “قال رب إني قتلت منهم نفساً فأخاف ان يقتلون وأخي هارون هو أفصح مني لساناً فأرسله معي ردءاً يصدقني إني أخاف ان يكذبون قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطاناً فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون” (القصص - الآيات من 33 - 35) ولم يغفل موسى عليه السلام عن اللجوء إلى ربه بعد الذي اعطاه له من عون أخيه له في رسالته وفي تطمينه له بأن القوم لن يصلوا إليهما فهما في حفظ الله ورعايته ويبشره بأن الغلبة له ومن اتبعه من المؤمنين بالرسالة. قال تعالى: “قال رب اشرح لي صدري، ويسر لي امري واحلل عقدة من لساني، يفقهوا قولي واجعل لي وزيراً من أهلي، هارون أخي، اشدد به أزري، وأشركه في أمري كي نسبحك كثيراً ونذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيراً قال قد أوتيت سؤلك يا موسى” (سورة طه الآيات من 25 - 36).
التسبيح والذكر إذن من موجبات شكر الله على نعمه علينا “كي نسبحك كثيراً، ونذكرك كثيراً” واستجاب الله لعبده الصالح موسى عليه السلام في كل ما سأله فها هو وأخوه هارون بعد أن وجههما الله إلى فرعون يخافان طغيانه وان يفرط عليهما ولكن الله سبحانه الذي تعهد له بحفظه منه يطمئنه أيضاً بأن شيئاً من هذا لن يحدث فهو السميع العليم بكل شيء. قال تعالى: “قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى. قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى” (سورة طه الآيتان 45 - 46).
ويدعو موسي على فرعون الطاغية المستبد المتجبر بالهلاك، ولقومه بني اسرائيل بالنجاة والاستخلاف في الأرض، قال تعالى على لسان موسى لقومه وهو يطمئنهم “عسى ربكم ان يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون” (سورة الأعراف - الآية 129).
لقد مَنَّ الله على بني اسرائيل فنجاهم من فرعون وبطشه وآتاهم كل ما سألوه، ولكنهم كفروا بأنعم الله فكان غضب الله عليهم إلى يوم الدين، وقد دعا عليهم موسى عندما استيأس منهم. قال تعالى: “قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين” (المائدة الآية 25).
هذا حال بني اسرائيل مع ربهم الذي فضلهم ومع نبيهم، فهل نرجو نحن المسلمين منهم خيراً؟