الحرفيون ودورهم التاريخي في تطـور المدينة العربية
الإسلامية
مقدمة: موقف الإسلام والدين من الحرفيين:
يعد موقف الإسلام والدين من الصناعة والحرف موقفاً واضحاً لا لبس فيه ، فالعمل كان ولا يزال هو ميزان تقدم الأمة، والمهارة في إتقانه هي مقياس الحضارة، والوفاء بالعمل هو الهدف الذي يسعى إليه الإصلاح الاجتماعي. قال الرسول صلى الله عليه وسلم : "
إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه".
وحضّ الدين الإسلامي على العمل، وأكد حرمته ، وجعل الإنتاج عبادة وتقرباً إلى الله، بل جهاداً في سبيل الله ، قال تعالى: "
وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون"(1) وأكد الله عظمت قدرته حماية الدولة لحقوق العمال ، ثم إعطاء كل عامل على قدر ما يستحق من إتقان "فاستجاب لهم ربهم إني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض"(2).
وقال سبحانه: "ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون"(3) وقال تعالى: "
وأما من آمن وعمل صالحاً فله جزاء الحسنى"(4) وقال تعالى : "وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يرى ثم يجزيه الجزاء الأوفى"(5).
أفضل الأعمال الاكتساب للإنفاق على العيال ، وفي الحديث الشريف "
طلب الكسب فريضة على كل مسلم، كما أن طلب العلم فريضة"(6).
وجاء عن الخليفة عمر رضي الله عنه "إني لأرى الرجل فيعجبني فأقول هل له حرفة؟ فإن قالوا : لا سقط من عيني."
ومن شروط العمل الصالح في الإسلام إتقانه على الصعيدين الفني والعملي وعدم الغش فيه ؛ لأن ذلك يلحق الضرر بالأفراد والمجتمع ، ثم إنجازه في موعده المحدد، وأن لا يخادع به ولا أن يكذب ، ولا أن يحلف الأيمان الكاذبة لأجله ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "
اليمين الفاجرة منفقة للسلعة ممحقة للكسب "..
هذا التوجه العام الإسلامي ساعد على ارتقاء الحركة الحرفية والصناعية وتطورها وانخراط العرب في الصناعة ووصولهم للمهن واستلامهم زمام الأمور فيها، وبعد أن كان العربي يأنف من العمل في الحرف، وينظر إلى العاملين بها نظرة ازدراء، لأنها في عرفهم حرف وضيعة خلقت للعبيد والموالي ولا تليق بالأحرار، وكان الشريف منهم وصاحب الجاه لا يحضر وليمة يدعوه إليها رجل من أصحاب هذه الحرف ، وذلك لأنه ليس في مكانته ومنزلته..
وجاء الإسلام ليغير هذا المفهوم ويعمل الرسول لقلب هذه المفاهيم ، وعد حضوره منازل أصحاب هذه الحرف وقبول طعام الخياط والصائغ وأمثالهما عملاً فيه خروج عن المألوف ومخالفاً للأعراف والتقاليد التي كانت تحتقر الحرف والمحترفين وتحط من مكانتهم..
وبعد أن كان العربي يرفض الأسماء التي لا تدل على الأصل والحسب، ويحتقر النسبة إلى الصناعات كالصباغة والحدادة وغيرهما(7).
ثانياً- النشأة التاريخية للحرف في الوطن العربي في ظل الإسلام:
فما أن جاء الإسلام حتى رفع مكانة العمل والعمال والصناع بوجه عام، وشيئاً فشيئاً بدأت الحرف تلقى القبول ، وينخرط فيها العربي كغيره، ومنذ القرن الثالث الهجري والتاسع الميلادي بدؤوا يقبلون أسماء وألقاباً تدل على الصنعة ، وغدونا نسمع ونرى ونجد أحمد الحداد وجعفر البقال وسعد الغزّال ، وتأكد هذا فعلاً خصوصاً منذ بداية العاشر الميلادي.
ولا نستغرب أن يأنف العربي من بعض الصناعات ويعدّها غير لائقة لاستعمالها بعض المواد غير النظيفة كالدباغة مثلاً ، كما عدّوا الصباغة مخالفة لقواعد الدين، ولهذا كان الصيارفة والصباغون من اليهود في معظم مناطق الدولة الإسلامية ، خصوصاً في بلاد الشام(
.
لكن التوسع الذي حدث بعد انتشار العرب المسلمين بين الموالي وأهالي البلاد المفتوحة، وعمليات الاختلاف والتمازج التي تمت بين الأقوام المختلفة التي انضوت تحت راية الإسلام أدى إلى عمل الجميع على الحفاظ على التراث الحضاري القديم في الميادين المختلفة ، كما ساهم العرب وغيرهم في تطوير الصناعة الحرفية.
ثالثاً- علاقات السلطات العربية الإسلامية بالحرفيين:
قامت السلطات العربية الإسلامية بواجباتها تجاه الحرفيين، وكفلت لعمالها من أرباب الحرف والصناعات حرية واسعة في ممارسة أعمالهم، ولم تتدخل فيها إلا على نحو محدود، وفي الصناعات التي كان يتطلب قيامها الحصول على إذن خاص مثل إنشاء حمامات، وصنع الأسلحة وسك النقود، وتركيب الأدوية، والعمل في دور الطراز، وكل ذلك يعود إلى أسباب تتعلق بالأمن الجماعي، والمصلحة العامة(9).
وتقدمت الصناعات الحرفية بتوالي الأجيال، ووفرة المواد الخام الزراعية والمعدنية، وتقدم العمران البشري في المدن الإسلامية غير أن الصناعات استمرت تعتمد على الصناعات اليدوية، وبقيت السلع تصنع في الورش ، وفي البيوت أو في المحال والحوانيت، وكان العامل يبدي في هذه الورش الصناعية مهارة وخبرة وصبراً مما أعطى الإنتاج على الرغم من قلته صفة الإتقان وطابع الطلاوة(10).
لكن استمرت الحالة العامة للعمال اقتصادياً على الأغلب متواضعة، وتكفي ضرورات الحياة المعيشية فقط ، واستمرت متفقة مع القول المأثور (
صنعة في اليد أمان من الفقر، وأمان من الغنى) ولهذا عد أهل الحرف في عداد العامة أو الفئات الدنيا في المجتمع الإسلامي.
وعلى هذا الأساس لا نستغرب أن تكون الصناعة وأربابها موضع عطف واهتمام الكثير من المفكرين والكتاب العرب المسلمين ، وقام هؤلاء وأفردوا لها الفصول والرسائل في مؤلفاتهم ، ومثال ذلك ما نجده في رسائل إخوان الصفا ، ثم صاغه فيما بعد المؤرخ والعالم الاجتماعي الكبير ابن خلدون عن الصنائع في مقدمته