الحضارة الإسلامية
لفظ الحضارة في مفهومه الحديث، ومفهومه العالمي المعاصر، قد أصبح أكثر اتساعا، مما كان يدل عليه في مفهومه اللغوي التقليدي..
وإذا كان أصل الحضارة : الإقامة في الحضر فإن المعاجم اللغوية الحديثة ، ترى أن الحضارة هي : الرقي العلمي ، والفني ، والأدبي ، والاجتماعي ، والاقتصادي في الحضر..
وبعبارة أخرى أكثر شمولا ، هي : الحصيلة الشاملة للمدنية ، والثقافية ، والفكر ، ومجموع الحياة ، في أنماطها المادية والمعنوية..
ولهذا كانت الحضارة هي : الخطة العريضة – كماً وكيفاً - التي يسير فيها تاريخ كل أمة من الأمم ، ومنها الحضارات القديمة ، والحضارات الحديثة والمعاصرة.. ومنها الأطوار الحضارية الكبرى التي تصور انتقال الإنسان أو الجماعات من مرحلة إلى مرحلة..
ولئن كان الإسلام قد امتاز بأنه دين الحضارة الإنسانية فإن الواقع يبين للباحث والمفكر والدارس أن الحضارة الإسلامية استمدت كل مقوماتها، وعناصر وجودها، وأسباب نمائها وازدهارها، من الإسلام ذاته..
والإسلام كان ولا يزال دين الحضارة والإنسانية ، بمعنى أنه كان منذ نزوله دين عبادة ، ودين معاملة ، وأنه أنشأ لونا من الحضارة ، عرف باسمه ، وهو الحضارة الإسلامية.. لهذا نجد أن المستشرقين مدفوعين بدوافع شتى ، قد ظلموا الحضارة الإسلامية حينما أطلقوا عليها في مؤلفاتهم وكتاباتهم : الحضارة العربية أو حضارة العرب ، وهذا يدل على الجهل والتجاهل، لأن حضارة عربية بدون إسلام لم تقم..
وقد قامت الحضارة الإسلامية على دعائم أساسية ، جعلت منها حضارة عالمية متميزة وفريدة من تاريخ البشرية.. ومن ذلك..
أولا:أن الإسلام قد انطوى على طاقة روحية جعلت منه قوة فاعلة ، والشيء المهم في هذه القوة الفاعلة أنها كانت أصلا جذريا يمس كل الأوضاع في حياة الناس.
ثانيا :أن الإسلام كان دين دعوة.. وفكرة الدعوة في الإسلام قد واتتها ظروف الانتشار في النطاق العالمي ، وفي ظلال الدعوة المستمرة تمكن الإسلام من نشر طابعه الحضاري كعقيدة للحياة ، وأن يصبح في أقل من ربع قرن مقوما أساسيا من مقومات الحضارة الإنسانية..
ثالثا :كان الإسلام دينا سهلا غير معقد ، ولا مركب في عقيدته ، وكان في الوقت ذاته دينا مباشرا، يتصل فيه الإنسان بخالقه دون وساطة : "وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ "، " وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ " ولا نجد عقيدة تطلب من الإنسان شهادة أبسط من شهادة الإسلام ، على عمقها وعظمتها: ((لا إله إلا الله محمد رسول الله)) عبارة سهلة رائقة نظيفة ، تقف بالعاقل على عتبة الدخول في الإسلام ، موقفا سهلاً.
والمقوم الأصيل في هذه البساطة أن القرآن الكريم هو الوعاء الأساسي للعقيدة كلها.
رابعا :كان الإسلام دينا رحبا يدعو إلى سبيل العقل ، في حدود أصول العقيدة ، كما يدعو إلى سبيل الضمير، والحق.. ومن هنا كانت الدعوة إلى النظر، وإلى المعرفة ، أساسا من أسس الدعوة الإسلامية ، وكان التفتح البصير مفتاح الدعوة للحضارة..
والإسلام في رحابته الحضارية استطاع أن يمتص ألوان الحضارات في البلاد التي أوقد فيها قناديل الضياء ، وأن يسبغ عليها طابعاً إسلاميا شاملا..
خامسا: البيئة بعواملها المحلية، وموقعها الجغرافي، قد ساعدت على إعطاء الحضارة الإسلامية ما كان لها من طابع ومن مكانة.. ولقد كانت الجزيرة العربية ذاتها منطقة وصل بين أطراف العالم، عند ملتقى القارات الثلاث في العالم القديم ((أسيا وأفريقيا وأوربا)).. ومن شواطئ الجزيرة العربية تمتد بحار الشمال بادئة بالبحر الأبيض المتوسط ، وبحار الجنوب بادئة بالبحر الأحمر والخليج الإسلامي (1) ..
وقد كان عدم اتصال المياه بين الشمال والجنوب سببا في أن شبه الجزيرة العربية كانت نقطة تغيير في وسائل المواصلات، وفي ظهور الوساطة التي كتب للمسلمين أن يقوموا بها..
ولم يكن الأمر بالطبع مجرد التوسط الجغرافي على أهميته ، وإنما كان الأمر أوسع وأعمق ، فهو توسط من ناحية الطبيعة البشرية ، ومن ناحية السلوك الإنساني ، ومن ناحية الاعتدال في كل ما يصل بالمادة ، وهي أمور كلها اتصلت بطبيعة البيئة العربية ، ومن هذه البيئة الوسط انتشر الإسلام شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، بالبر والبحر على السواء..
وقد شاء الله سبحانه وتعالى أن تستيقظ الجزيرة العربية في القرن الرابع عشر الهجري، الموافق القرن العشرين ميلادي ، والقرن العشرون يعتبر أزهى قرون الحضارة في الغرب
، شاء الله أن تقوم في الجزيرة العربية المملكة السعودية على أساس القرآن الكريم ، لا على أنه المادة الأولى أو الثانية من الدستور ، كما تفعل كثير من الدول التي يقال عنها عربية وإسلامية ، ولكن على أساس أنه هو كل شيء، في التعليم ، وفي التوجيه ، وفي الحكم ، وفي السياسة ، وفي الثقافة ، وفي جميع نواحي الحياة..
وقد قامت في السعودية نهضة علمية وثقافية جبارة جعلت الجامعات تعمل في إعداد كامل لمؤتمرات إسلامية جامعة ، مثل مؤتمر الفقه الإسلامي ، ومؤتمر العلم والتكنولوجيا، ومؤتمر الاقتصاد ، ومؤتمر الشباب ، ومؤتمر الدعاة ، ومؤتمر المساجد ، ومؤتمر المذيعين ، وصارت الجامعات والكليات ومعاهد العلم تصدر صحفا ومجلات ذات دراسة وعمق ، معدة إعدادا يتفق مع ما وصلت إليه الطباعة من تقدم..
ولا شك أن هذا كله دعامة من دعامات الحضارة الإسلامية القائمة على الإسلام.. حتى لا يأتي إلينا مخرف من الشرق أو من الغرب فيقول : إن حضارة الإسلام قد شاخت وهرمت.. شاء الله أن تظل تجربة الحكم بالقرآن الكريم قائمة في أرض الجزيرة العربية كما كانت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعهد الخلفاء الراشدين..
سادسا:الوسطية التي جاء بها الإسلام ، والوسطية التي جعلت فيها الأمة الإسلامية وشرفها الله بها.. ليست الوسطية المبتدعة في الفكر المستورد الحديث ، فالوسط المبتدع في الفكر العصري وسط عفن ، قام بين تراكمات عفنة من اليمين واليسار ، ولا شك أن اندفاع بعض المجتمعات الإسلامية إلى هذا الوسط العفن ، وما جاء حوله من يمين ويسار، يعد عند الدارسين لتطور الشعوب كارثة فكرية خطيرة ، وردة جاهلية وثنية.. والوسطية الإسلامية وسطية عامة شاملة ، لا تعترف بتقسيم اليمين والوسط واليسار ، بل إنها:
1 - في العقيدة تقوم على توحيد الله وإفراده بالعبادة ، والتمسك بما شرع من آداب السلوك والمعاملة..
2 - وفي التشريع تقوم على أصول رئيسية ، مصدرها الأساسي : القرآن الكريم ، وسنة الرسول محمد عليه الصلاة والسلام .
3 - وفي الأخلاق تقوم على خلوص النية ، ونقاء الضمير، والتمسك بقيم الخير والحق ، والتزام الآداب الفردية والاجتماعية..
4- وفي الاجتماع تقوم على الأسرة المتماسكة القائمة على ركائز المودة والرحمة والإخلاص والاحترام والتعاون..
5 - وفي السياسة تقوم على الشورى واحترام حقوق الإنسان ، والتزود بكل أسباب القوة ، والدفاع عن العقيدة..
6 ـ وفي الاقتصاد تقوم على تبادل المنافع ، واتخاذ المال وسيلة لا غاية ، واحترام الملكية الفردية..
7 - وفي الثقافة تعتمد على طلب المعرفة، واستخدام العقل في كسب المعارف..
8ـ وفي الفكر تقوم على استنهاض العقول ، وحرية الفكر، واستقلال الإرادة..
سابعا : وبجانب هذا وذاك كانت هناك مقومات تاريخية وبشرية، تتصل بالعصر الذي ظهر فيه الإسلام ، ثم بالعنصر البشري والتكوين السكاني.
فأما عن العصر فقد كان الإسلام ختام الأديان السماوية ، وكان الإسلام بذلك رباطا لها من الناحية التاريخية ، كما كان في الوقت ذاته تصحيحا لها ؛ لما أصابها من تخريف الفلاسفة والوثنيين..
فأي وسطية أسمى من هذه الوسطية التي ارتضاها الله ، وجعلها سمة هذه الأمة الإسلامية ، ذات الحقيقة الكبيرة ، والوظيفة الضخمة في هذه الأرض ، ويقول في ذلك شهيد الأمة الإسلامية سيد قطب: ((إنها الأمة الوسط التي تشهد على الناس جميعا ، فتقيم فيهم العدل والقسط ، وتضع لهم الموازين والقيم ، وتبدي فيهم رأيها.. فيكون هو الرأي المعتمد ، وتزن قيمهم ، وتصوراتهم وتقاليدهم وشعاراتهم ، فتفصل في أمرها وتقول : هذا حق منها ، وهذا باطل.. لا التي تتلقى من الناس تصوراتها وقيمها وموازينها ، وهي شهيدة على الناس ، وفي مقام الحكم العدل بينهم ، وبينما هي تشهد على الناس هكذا فإن الرسول هو الذي يشهد عليها ، فيقرر موازينها وقيمها ، ويحكم على أعمالها وتقاليدها ، ويزن ما يصدر عنها ، ويقول فيه الكلمة الأخيرة..
وبهذا تتحقق حقيقة هذه الأمة ووظيفتها ؛ لتعرف وتشعر بضخامتها ؛ ولتقدر دورها حق قدره ، وتستعد له استعدادا لائقا.. وإنها للأمة الوسط بكل معاني الوسط ، سواء من الوساطة بمعنى الحسن والفضل ، أو من الوسط بمعنى الاعتدال والقصد ، أو من الوسط بمعناه المادي الحسي.
"أُمَّةً وَسَطا"
في التصور والاعتقاد ، لا تغلو في التجرد الروحي ، ولا في الارتكاس المادي ، إنما تتبع الفطرة الممثلة في روح متلبس بجسد ، أو جسد تتلبس به روح ، وتعطي لهذا الكيان المزدوج الطاقات حقه المتكامل من كل زاد ، وتعمل لترقية الحياة ورفعها ، في الوقت الذي تعمل فيه على حفظ الحياة وامتدادها ، وتطلق كل نشاط على عالم الأشواق ، وعالم النوازع ، بلا تفريط ولا إفراط ، في قصد وتناسق واعتدال..