روى ابن هشام في سيرته عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: اجتمع أشراف قريش يومًا في الحجر، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقالوا: “ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل قط: سفه أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرق جماعتنا، وسب آلهتنا، لقد صبرنا منه على أمر عظيم، أو كما قالوا” فبينما هم في ذلك إذ طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل يمشي حتى استلم الركن، ثم مر بهم طائفاً بالبيت، فلما مر بهم غمزوه ببعض القول. قال: فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال: ثم مضى فلما مرّ بهم الثانية غمزوه بمثلها؛ فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم- ثم مر الثالثة فغمزوه بمثلها؛ فوقف ثم قال: “أتسمعون يا معشر قريش، أما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح”؛ فأخذت القوم كلمته حتى ما فيهم رجل إلا كأن على رأسه طائر واقع حتى إن أشدهم فيه وطأة قبل ذلك ليرفؤه بأحسن ما يجد من القول؛ حتى إنه ليقول: انصرف يا أبا القاسم فوالله ما كنت جهولاً؛ فانصرف صلى الله عليه وسلم.. الخ الحديث). حسنه الألباني، وقال عنه أحمد شاكر في تحقيقه لمسند أحمد: “إسناده صحيح”.
وكثيرًا ما أسيء فهم هذه الرواية، عن عمد أحيانًا وعن جهل أخرى؛ حتى باتت منطلقاً للادعاءات الباطلة، والتأصيلات الواهمة، لفكر العنف والقسوة، في دين اللطف والرحمة.
ومنشأ اللبس أو التلبيس هنا إنما أتى في رأيي من الجهل بمعاني كلمة (ذبح) في العربية، أو التجاهل لبعضها من دون بعض.
فالذبح في اللغة له عدة معان:
الأول: وهو المعنى الأصلي للذبح: قطع العروق المعروفة في موضع الذبح من الحلق بالسكين.
الثاني: الهلاك، وهو مجاز، فإن قطع تلك العروق من أسرع أسبابه، وبهذا المعنى للذبح فسّر حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم- في ولاية القضاء: “من جعل قاضيًا، فقد ذبح بغير سكين”. أخرجه أصحاب السنن الأربعة والترمذي وأحمد والحاكم والدارقطني وغيرهم.
الثالث: التزكية، وهو مجاز أيضًا، ومن ذلك ما روي عن شريح الصحابي رضي الله عنه، أنه قال: “كل شيء في البحر مذبوح” (رواه البخاري) وأحمد. وكذا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنه قال: “إن الله ذبح كل ما في البحر لابن آدم”. أخرجه الدارقطني.
الرابع: الإحلال: أي جعل الشيء المحرم حلالاً، وهو من باب المجاز كذلك، ومن ذلك حديث أبي الدرداء رضي الله عنه: “ذبح الخمر: الملح، والشمس، والنّينان” راجع فتح الباري لابن حجر العسقلاني. والنّينان: جمع نون، وهي السمكة. ومعنى الحديث: أن وضع الملح والسمك في الخمر مع وضعها في الشمس يذبحها، أي يحولها خلاً فتصبح حلالاً.
نبي الرحمة
فما المقصود يا ترى بلفظ الذبح الوارد في هذه القصة؟
لا شك في أن ما فهمه هؤلاء النفر من قريش من هذه الكلمة إنما كان معناها الأول أو الثاني لا غير؛ ومن ثمة كان رد فعلهم ما ذكرته الرواية من رهبتهم وروعهم، ولا شك كذلك في أن المعنى الأول باطل والثاني مستبعد؛ وإنما قصد النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك: كفهم عن أذاه، دون أن يقول إلا صدقا وحقًا.
وأقول: إن المعنى الأول باطل؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يذبح أحدًا لا في مكة ولا في غيرها اعتداءً عليه، أو إكراهًا له على الإيمان؛ وقد أبلغ الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم بأنه “لا إكراه في الدين” (البقرة: 256) وبقوله: “فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين” (النحل:82) فتفسير الذبح بالمعنى الأصلي المتبادر له يتعارض مع ما عرف عنه صلى الله عليه وسلم من خلق، وحكمة، ورحمة بالناس، شهد لها ربه وبرهن عليها؛ فقال:”فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك” (آل عمران 159).
أما المعاني المجازية للفظ الذبح فهي في جملتها مقبولة، ومنها راجحة ومنها مرجوحة.
وذلك أنهم وقد غمزوه صلى الله عليه وسلم وعابوه، وشتموه، وهو يطوف بالبيت؛ فمن المقبول أن يهددهم بالهلاك: بأن يدعو الله عليهم كما فعل بعض السابقين من الأنبياء.
ومن المقبول أيضاً أن نقول: إنهم إذ فعلوا ذلك وقف صلى الله عليه وسلم وأخبرهم بحقيقة رسالته، وانها لا تستأهل ما قابلوه به فهو إنما جاءهم بالتزكية والتطهير مما هم فيه من الشرك، وبتحليل الطيبات وتحريم الخبائث.
وهذان المعنيان للذبح (التزكية، والإحلال) راجحان على المعنى المجازي السابق (الهلاك)؛ لأنهما يتفقان مع ما أثر عنه صلى الله عليه وسلم من أنه كان يدعو لقومه بالهداية ولم يدع صلى الله عليه وسلم طيلة حياته سوى على أفراد قلائل لعظيم ما جنوه على الإسلام والمسلمين.
وختاماً أقول: إن نبي الرحمة لا تدعو رسالته سوى للرحمة، وصدق الرحمن الرحيم القائل في حق نبيه الكريم: “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين” (الأنبياء: 107).