قال تعـالى :-
{ فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ ... }
سورة الأنعام آية 125
( 1 )
جهَّز عبد الله بن حذافة راحلته ، وودَّع صاحبته وولده ، ومضى إلى غايته ترفعه النجاد ، وتحطه الوهاد ، وحيداً ، فريداً ، ليس معه إلا الله .
حتى بلغ ديار فارس ، فاستأذن بالدخول على ملكها ، وأخطرَ الحاشية بالرسالة التي يحملها له ، عند ذلك أمر كسرى بإيوانه فزُيِّن، ودعَا عظماء فارس لحضور مجلسه فحضروا ، ثم أذِنَ لعبد الله ابن حذافة بالدخول عليه .
دخل عبد الله بن حذافة على سيد فارس ، مشتملاً شملته الرقيقة ، مرتدياً عباءته الصفيقة ، عليه بساطة الأعراب ، لكنه كان عاليَ الهمَّة ، مشدود القامة ، تتأجج بين جوانحه عزَّةُ الإسلام ، وتتوقَّد في فؤاده كبرياءُ الإيمان .
المؤمن له هيبة ، ومَن هاب اللهَ هابه كلُّ شيء .
فما إن رآه كسرى مقبلاً ، حتى أومأ إلى أحدِ رجاله أن يأخذ الكتاب من يده ، فقال عبد الله بن حذافة :
لا ، إنما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أدفعه إليك يداً بيد ، وأنا لا أخالف أمر رسول الله .
فقال كسرى لرجاله : اتركوه يدنو مني ، فدنا من كسرى حتى ناوله الكتاب بيده ، ثم دعا كسرى كاتبًا عربيًا مِن أهل الحيرة ، وأمَرَه أن يفضَّ الكتاب بين يديه ، وأن يقرأه عليه ، فإذا فيه :
" بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام الله على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأدعوك بدعاية الله، فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة، لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين فأسلم تسلم، فإن أبيت فإن إثم المجوس عليك."
فما إن سمع كسرى هذه الرسالة ، حتى اشتعلت نار الغضب في صدره ، فاحمر وجهه ، وانتفخت أوداجه ، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام ، بدأ بنفسه ، وبدأه بقوله : من محمدٍ رسول الله إلى كسرى ، فكان تفكير كسرى تفكيرًا شكليًّا ، ولم يفهم المضمون ، ولم يهتمَّ له ، فغضِبَ للشكل .
غضب هذا الرجل المغرور المتكبر رغم أن النبى صلى الله عليه وسلم خاطبه بالعظمة فقال ( إلى عظيم الفرس) ، وكان النبى صلى الله عليه وسلم دقيقًا فى ألفاظه فلم يقل (سلام عليك) بل قال (سلامٌ على من اتّبع الهدى) ، أي إن اتبعتَ الهدى فسلامٌ عليك ، وإن لم تتبع الهدى ، فالسلام ليس عليك ، على من اتبع الهدى... وهكذا ..
ولكن أنَّى يأتى الخير من رجل امتلأت نفسه كبرًا وتيها فظن أنه الوحيد وما عداه صفرًا .
وكيف يؤمل الإنسان خيرا... وما ينفك مُتبعًا هواه
يظن بنفسه قدرًا وشرفًا ... كأن الله لم يخلق سواه
ولعل كسرى انفعل هذا الانفعال الشديد بسبب هزيمته الأخيرة التى نالها على أيدى الروم ، فظن أن الأعراب والتابعين بدأوا يتجرأون عليه بسبب هزيمته .
لقد فقد كسرى توازنه تمامًا إذ إنه جلب الرسالة من يد كاتبه ، وجعل يمزِّقها دون أن أى شر يجره على نفسه ، مزقها وهو يصيح: أيكتبُ لي بهذا ، وهو عبدي ؟.
لأنه من أتباعه ، ولأن باذان عامله على اليمن ، تابع لكسرى ، والمناذرة وعاصمتهم الحيرة يتبعون كسرى ، فهذا الذي قال له :
من محمد رسول الله هو من عبيده ، هكذا يفهم كِسرى ، قال : أيكتب لي بهذا وهو عبدي ؟!!!
ثم أمر بعبد الله بن حذافة ، أن يُخًرَج من مجلسه ، فأُخرج .
فلما بلغ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ذلك الخبرُ قال :
" اللهم مزِّق ملكه "
(2)
قام كسرى منتفخا وأمر كاتبه أن يكتب إلى باذان نائبه على اليمن: أن ابعث إلى هذا الرجل ، الذي ظهر بالحجاز ، رجلين جَلْدين من عندك ، ومُرهما أن يأتياني به .
ولم تكن هذه المرة الأولى التى يسمع بها أهل اليمن عن دعوة الإسلام إذ أن أرض الحجاز ليست بعيدة عن أهل اليمن فهناك ارتباط وثيق بين البلدين من زمن بعيد من حيث الموقع الجغرافى ومن حيث الرحلات التجارية التى كانت قريش تقوم بها فى رحلتى الشتاء والصيف .
وقد سمع أهل اليمن عن رجل يدعى النبوة من أهل مكة وسمعوا أنه خرج طريدًا إلى يثرب وأقام بها حتى الآن أى قرابة عشرين عامًا -إذ ظل النبى فى مكة ثلاثة عشر عامًا وها نحن فى العام السابع للهجرة - كل هذا والأمر حتى الآن لا يعنيهم بل يتابعونه من بعيد.
لكن باذان ما إن وصلته رسالة سيده كسرى حتى انتدب رجلين من خيرة رجاله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحمَّلهما رسالةً له ، يأمره فيها بأن ينصرف معهما إلى لقاء كِسرى، دون إبطاء ، وطلب إلى الرجلين أن يقفا على خبر النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن يستقصيا أمره ، وأن يأتياه بما يقفان عليه من معلومات .
فخرج الرجلان يُغِذَّان السير الى غايتهما شطر المدينة ، حتى إذا بلغاها علما مما رأيا من تعظيم أهل المدينة للنبى صلى الله عليه وسلم وحبهم له مدى خطورة المهمة التى أقبلا من أجلها حيث إنهما لا يستطيعان أن يأتيا بمحمد إلا إذا أتيا بأهل المدينة أجمعين ، نظرًا للمحبة والفداء التى يصنعها أهل المدينة لمحمد صلى الله عليه وسلم .
ولما دخلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد حلقا لحاهما وأعفيا شواربهما، فكره النظر إليهما، وأظهر ذلك لهما وقد أشاح بوجهه الى الجانب الآخر حتى لا ينظر إليهما وقال: ( ويلكما من أمركما بهذا؟ قالا أمرنا ربنا يعنيان كسرى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن ربي أمرني بإعفاء لحيتي وقص شاربي ) .
ودفع الرجلان إلى النبى صلى الله عليه وسلم رسالة باذان ، وقالا له :
إن ملك الملوك كسرى كتب إلى ملكنا باذان ، أن يبعث إليك من يأتيه بك ، وقد أتيناك لتنطلق معنا إليه ، " شرِّف معنا " فإن أجبتنا، كلَّمنا كسرى بما ينفعك ، ويكفُّ أذاه عنك ، وإن أبيت ، فهو مَن قد علمت سطوته وبطشه وقدرته على إهلاكك ، وإهلاك قومك ، " إذا قلت : لا ، فإن كسرى قادرٌ على أن يهلكك ، ويهلك قومك .
لم يغضب النبي صلى الله عليه وسلم بل تبسَّم عليه الصلاة والسلام ، وقال لهما :
ارجعا إلى رحالكما اليوم ، وائتيا غداً .
فلما غدوا على النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم التالي ، قالا له : هل أعددتَ نفسك للمُضِيِّ معنا إلى لقاء كسرى ؟
فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم : إن ربى قتل ربكما الليلة .
لن تلقيا كسرى بعد اليوم ، فلقد قتله الله ، حيث سلَّط عليه ابنه شيرويه في ليلة كذا من شهر كذا وقتَله .
إنه خبرُ الوحي ، نقله ببرودة ، لن تلقياه بعد اليوم ، لقد قتله الله ، لأنه مزَّق الكتاب .
فحدَّقا في وجه النبي ، وبدت الدهشة على وجهيهما ، وقالا :
أتدري ما تقول !! أنكتب بذلك لباذان ؟
قال : نعم ، وقولا له : إن ديني سيبلغ ما وصل إليه ملك كسرى ، وإنَّك إن أسلمتَ ، أعطيتكَ ما تحت يديك ، وملَّكتكَ على قومك.
بلِّغا باذان وقولا له : إنّ مُلكي سيصل إلى ملك كسرى ، وأنت إن أسلمتَ أقررناك على ملكك ، اختلف الأمر اختلافًا كلِّيًّا .