وقال في الآية الأخرى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِّنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الأعراف:11-12].
قال الحسن البصري: قاس إبليس، وهو أول من قاس.
وقال محمد بن سيرين: أول من قاس إبليس، وما عبدت الشمس ولا القمر إلا بالمقاييس.
رواهما ابن جرير([1]).
ومعنى هذا: أنه نظر نفسه بطريق المقايسة بينه وبين آدم؛ فرأى نفسه أشرف من آدم؛ فامتنع من السجود له، مع وجود الأمر له ولسائر الملائكة بالسجود!
والقياس إذا كان مقابلاً بالنص كان فاسد الاعتبار([2]).
ثم هو فاسد في نفسه؛ فإن الطين أنفع وخير من النار؛ لأن الطين فيه الرزانة والحلم والأناة والنمو، والنار فيها الطيش والخفة والسرعة والإحراق([3]).
ثم إن آدم شرفه الله بخلقه له بيده ونفخه فيه من روحه؛ ولهذا أمر الملائكة بالسجود له؛ كما قال: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلآئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ يإِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [الحجر:28-35]: استحق هذا من الله- تعالى-؛ لأنه استلزم تنقّصه لآدم وازدراؤه به وترفّعه عليه مخالفة الأمر الإلهيّ ومعاندة الحقّ في النصِّ على آدم على التّعيين، وشرع في الاعتذار بما لا يجدي عنه شيئاً، وكان اعتذاره أشد من ذنبه.
كما قال -تعالى- في سورة سبحان: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً * قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَـذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً * قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً * وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً} [الإسراء:61-65].
وقال في سورة الكهف: {وَإِذَا قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ}[الكهف:50]؛ أي: خرج عن طاعة الله عمداً وعناداً واستكباراً عن امتثال أمره.
وما ذاك إلا لأنه خانه طبعه ومادته الخبيثة أحوج ما كان إليه؛ فإنه مخلوق من نار؛ كما قال، وكما قد روينا في « صحيح مسلم »([4]) عن عائشة، عن رسول الله× قال: «خلقت الملائكة من نور، وخلقت الجانّ من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم ».
قال الحسن البصري: لم يكن إبليس من الملائكة طرفة عين قط([5]).
وقال في سورة ص: إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ} (71) {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} (72) {فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُـلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} (73) {إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} (74) {قَالَ يإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ} (75) {قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} (76) {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} (77) {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} (78) {قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (79) {قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ} (80) {إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} (81) {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (82) {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (83) {قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ} (84) {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:71-85].
وقال في سورة الأعراف: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} (16) {ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:16-17]؛ أي: بسبب إغوائك إياي؛ لأقعدن لهم كلّ مرصد، ولآتينهم من كل جهة منهم، فالسعيد من خالفه، والشقيّ من اتبعه.
عن سبرة بن أبي الفاكه؛ قال: سمعت رسول الله × قال: «إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه » وذكر الحديث([6]).