مجتمعُنا والثقافاتُ النَّادرة
أحمد بن عبد المحسن العساف
سمعتُ أحدَ مثقفينا وكتَّابنا الذين يُشارُ إليهم بالبنانِ يقولُ في جلسةٍ خاصَّةٍ إنَّه اضطرَ إلى الانتظارِ في صفٍّ طويلٍ في لندن؛ وكانَ المنتظرونَ على اختلافِ أعمارِهم يقرؤون كتاباً إلاّ أنا– والحديثُ للكاتب- معْ أنّي أُعدُّ في بني قومي قارئاً نهماً! وحدَّثني صديقٌ ذهبَ إلى ألمانيا لحضورِ مؤتمرٍ علمي؛ وفي طريقهِ إلى مقرِ إقامتهِ رنَّ هاتفُ سائقِ سيَّارةِ الأجرةِ فأستأذنَ ليجيبَ فأذنَ له والدَّهشةُ تملؤه منْ هذا السلوكِ الجميل؛ ثمَّ أوقفَ السائقُ سيَّارتَه في مكانٍ مناسبٍ ليتحدَّثَ عبرَ الهاتفِ ممَّا أثارَ استغرابَ الرَّاكبِ العربي منْ هذا السائقِ الذي استأذنَ ثمَّ توقفَ حفاظاً على الأرواحِ والممتلكاتِ والسلامةِ المرورية.
وإذا حلَّ إنسانٌ في بلدةٍ وأرادَ التعرُّفَ عليها فلا مناصَ له منْ سبرِ أغوارِ تراثِها في الأسواقِ والأحياءِ الشعبيةِ والمتاحفِ والآثارِ ولا بدَّ منْ تلمِّسِ ثقافتِها في تعاملِ النَّاسِ معْ الإنسانِ والمكانِ والزَّمانِ والمكتسباتِ فهوَ خيرُ معبِّرٍ عنْ الثقافةِ التي تظهرُ في السلوكياتِ العمليةِ المبنيةِ على التصوراتِ الذِّهنية، ولكلِّ فردٍ ثقافتُه الخاصَّة كما أنَّ لكلِّ مجتمعٍ ثقافتُه التي يُعرفُ بها؛ وبينَ ثقافةِ الفردِ والمجتمعِ ترابطٌ لا يخفى.
وللثقافةِ أكثرُ منْ مئةٍ وخمسينَ تعريفاً؛ وقدْ صدرَ عنْ مؤتمرِ اليونسكو للثقافةِ المنعقدِ منْ 6 يوليو– 6أغسطس عامَ 1982م الإعلانُ العالميُ للثقافةِ ( إعلان مكسيكو) وفيه: "إنَّ الثقافةَ بمعناها الواسعِ يمكنُ أنْ يُنظرَ إليها اليومَ على أنَّها جميعُ السماتِ الرُّوحيةِ والماديةِ والفكريةِ والعاطفيةِ التي تميزُ مجتمعاً بعينه، أوْ فئةً اجتماعيةً بعينها، وهيَ تشملُ الفنونَ والآدابَ وطرائقَ الحياة، كما تشملُ الحقوقَ الأساسيةَ للإنسان، ونظمَ القيمِ والتقاليدِ والمعتقدات"([1]).
ومنْ وظائفِ الثقافةِ تمييزُ المجتمعاتِ ومنحُها حصانةً عنْ التغييرِ السلبي، كما تزيدُ منْ تماسكِ البناءِ الاجتماعي بتوحيدِ الإطارِ العامِ للمجتمع، ومنها توضيحُ المعاييرِ والقيمِ التي تضبطُ شؤونَ الحياةِ إضافةً إلى حفظِ تراثِ الأمةِ وغرسِ العزَّةِ في نفوسِ النَّاشئةِ حتى لا يخضعوا لثقافةٍ أخرى؛ فالعزَّةُ مصدرٌ للتحرُّرِ والأنفةِ وإباءِ الضيمِ وهذا ما ترنو إليه أمَّةُ الإسلام.
ومجتمعُنا يحتاجُ إلى تعزيزِ ثقافةِ التربيةِ حتى يستنفدَ الآباءُ والمعلمونَ والمربونَ جهدَهم لتربيةِ مَنْ دونهم على المكارم، ولا نغفلُ أهميةَ ثقافةِ المسؤوليةِ التي يقصرُها بعضُنا على العلماءِ والمثقفينَ والحكَّامِ؛ والصَّوابُ أنَّ كلَّ أحدٍ مسؤولٌ حسبَ قدراته ومواهبه؛ ومنْ لوازمِها أنْ يعرفَ الفردُ واجباتهِ وحقوقَه، كما أنَّ مجتمعَ المسلمينَ بحاجةٍ أكيدةٍ لثقافةِ مراعاةِ حقوقِ الآخرينَ وفقَ ميزانِ الشريعةِ ومقاصدِها؛ ومنْ أبجدياتِها قبولُ الاختلافِ السائغِ والمحافظةُ على النِّظامِ والنَّظافةِ والهدوء.
ومنْ الثقافاتِ التي نريدُها ثقافةُ التعاملِ معْ الخطأِ الذي لا يسلمُ منه بشرٌ ألبته؛ ولوْ أنَّ هذهِ الثقافةَ متوافرةٌ لما سعى البعضُ لإصلاحِ الأخطاءِ بأعظمَ منها كما في تصرفاتِ بعضِ فتياتِ الابتزازِ، وممَّا نتمنَّى تكريسهُ في مجتمعنِا ثقافةُ السلامةِ خاصَّةً في المنازلِ وعلى الطرق، ومنْ أهمِّ الثقافاتِ لمجتمعٍ مباركٍ ثقافةُ العملِ التطوعي، ويجبُ ألاَّ نتهاونَ في نشرِ ثقافةِ التخطيطِ للمستقبلِ والتفكيرِ المنهجي حتى لا تكونَ حياتُنا سبهللا بلا غايةٍ نبيلة.