في وقت، نحن فيه أحوج ما نكون إلى “النموذج”: نموذج الفرد الذي يؤدي عمله وهو يرى ربه معه، في كل ما يأتي من أمر أو ينتهي عن نهي؛ نموذج الفرد الذي يتعامل مع مجتمعه، من خلال تعامله مع ربه.. لنا أن نلقي نظرة على تاريخنا وتراثنا، تاريخنا العربي وتراثنا الإسلامي؛ نظرة نرى من خلالها بعضاً من تلك “النماذج” التي استطاعت أن تنتقل، أو تنقل نفسها بالأحرى، من رعاة إبل جفاة غلاظ يشعلون الحرب لأوهى الأسباب، إلى قادة وهداة؛ قادة إلى الحق، وهداة إلى الله الواحد الأحد، عبر آداب القرآن الكريم، وأحكامه”.
هو صورة مبينة للخلق العربي بكل أعماقه، وأبعاده..
فبينما كان أبوه أول المؤمنين، والصديق الذي آمن بالله وبرسوله إيماناً ليس من طرازه سواه، وثاني اثنين إذ هما في الغار.. كان هو صامداً كالصخر مع دين قومه، وأصنام قريش.
وفي غزوة بدر، خرج مقاتلاً مع جيش المشركين..
وفي غزوة أحد كان، كذلك، على رأس الرماة الذين جندتهم قريش لمعركتها مع المسلمين.. وقبل أن يلتحم الجيشان، بدأت كالعادة جولة المبارزة..
ووقف “عبدالرحمن” يدعو إليه من المسلمين من يبارز..
ونهض أبوه.. “أبو بكر الصديق”، رضي الله عنه، مندفعاً نحوه ليبارزه، لكن الرسول أمسك به، وحال بينه وبين مبارزة ولده.
هكذا كان في أيام جاهليته؛ وهكذا، أيضاً، كان بعد إسلامه..
في أيام الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي أيام خلفائه من بعده، لم يتخلف عبد الرحمن عن غزوة، ولم يقعد عن جهاد مشروع..
ولقد كان له يوم اليمامة بلاء عظيم، وكان لثباته واستبساله دور كبير في كسب المعركة من جيش مسيلمة والمرتدين.. بل إنه هو الذي أجهز على حياة “محكم بن الطفيل”، والذي كان العقل المدبر لمسيلمة، كما كان يحمي بقوته أهم مواطن الحصن الذي تحصن جيش الردة في داخله، فلما سقط ''محكم'' بضربة من عبدالرحمن، وتشتت الذين حوله، انفتح في الحصن مدخل واسع كبير تدفق منه المقاتلون المسلمون... كل هذا الخلق ظل جوهر شخصيته وجوهر حياته، لم يتخل عنه قط تحت إغراء رغبة، أو تأثير رهبة، حتى في ذلك اليوم الرهيب، يوم قرر معاوية أن يأخذ البيعة ليزيد بحد السيف.. فكتب إلى مروان عامله على المدينة كتاب البيعة، وأمره أن يقرأه على المسلمين في المسجد.. وفعل مروان، ولم يكد يفرغ من قراءته حتى نهض عبد الرحمن بن أبي بكر ليحول الوجوم الذي ساد المسجد إلى احتجاج مسموع ومقاومة صادعة فقال: ''والله ما الخيار أردتم لأمة محمد، ولكنكم تريدون أن تجعلوها هرقلية.. كلما مات هرقل قام هرقل”.
ولما علم بعد ذلك أن معاوية يشد رحاله قادماً إلى المدينة، غادرها من فوره إلى مكة..
وأراد الله أن يكفيه فتنة هذا الموقف وسوء عقباه، فلم يكد يبلغ مشارف مكة ويستقر بها قليلاً حتى فاضت إلى الله روحه.. وحمله الرجال على الأعناق إلى أعالي مكة حيث دفن هناك، تحت ثرى الأرض التي شهدت جاهليته.. وشهدت إسلامه.