هذا موقف هذه الطوائف من دعوة شيخ الإسلام وهو موقف يتكرر مع كل مصلح ومجدد يدعو إلى دين الله الذي جاء به رسوله - صلى الله عليه وسلم - ونبذ ما خالفه من دين الآباء والأجداد وعادات الجاهلية . وليس هذا بغريب فقد قوبلت دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - من قبل بأعظم من هذا، وقيل عنه : إنه ساحر كذاب وإنه شاعر مجنون، إلى غير ذلك من الألقاب السيئة التي يراد بها الصد عن دين الله والبقاء على دين الشرك الذي ورثوه عن آبائهم وأجدادهم، فلشيخ الإسلام وإخوانه من الدعاة إلى الله أسوة بنبيهم، ولهؤلاء المنحرفين سلف من المشركين والمكذبين، ولكن العاقبة للمتقين .
فهذه كتب شيخ الإسلام تأخذ طريقها إلى أيدي كل من يريدون الحق يتنافسون في الحصول عليها والتنقيب عن المفقود منها لإخراجه للناس، فعليك أيها المسلم الناصح لنفسه أن لا تلتفت إلى أقوال المرجفين في حق هذا العالم المجدد المجاهد وأن تنظر إلى أقواله هو لا إلى ما يقال عنه لتصل إلى الحقيقة (وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ ).
منهجه في فتاواه وما أمكن لأهل العلم الحصول عليه وجمعه من كتبه :
قال تلميذه الحافظ ابن عبد الهادي - رحمه الله - : " وأما فتاويه ونصوصه وأجوبته على الملل فهي أكثر من أن تحصى لكن دُوِّن منها بمصر على أبواب الفقه سبعة عشر مجلدا وهذا ظاهر مشهور، وقلّ أن وقعت واقعة وسئل عنها إلا وأجاب فيها بديهة بما بهر واشتهر وصار ذلك الجواب كالمصنف الذي يحتاج فيه غيره إلى زمن طويل ومطالعة كتب وقد لا يقدر مع ذلك على إبراز مثله " ، إلى أن قال : " وكان يكتب على السؤال الواحد مجلدا " ، وأما جواب يكتب فيه خمسين ورقة وستين فكثير جدا " .
وقال عنه أيضا مبينا لمنهجه في الفتوى : " ففي بعض الأحكام يفتي بما أدى إليه اجتهاده من موافقة أئمة المذاهب الأربعة، وفى بعضها قد يفتي بخلافهم أو بخلاف المشهور من مذاهبهم " . انتهى .
والمطبوع من فتاواه الآن " الفتاوى المصرية " في خمسة مجلدات . و " مجموعة الرسائل والمسائل " ستة أجزاء طبعت في مطابع المنار وعلق عليها وصححها السيد محمد رشيد رضا .
وأخيرا قام الشيخ عبد الرحمن بن قاسم بجمع الموجود من فتاواه المطبوع منها والمخطوط وترتيبها على الأبواب فبلغت خمسة وثلاثين مجلدا وقد استفاد منها أهل العلم فائدة عظيمة وأصبحت مرجعا كبيرا ومنهلا غزيرا . وقال في مقدمتها : " ولعظيم النفع بفتاويه والثقة منها، واعتماد مبتغي الصواب عليها فتشت عن مختصراتها في بعض مكتبات نجد والحجاز والشام وغيرها فجمعت منها، أكثر من ثلاثين مجلدا ورتبتها . وهو بِدْء؛ وإلا فعسى الله سبحانه أن يقيض لفتاويه من يجمعها من مشارق الأرض ومغاربها ومن المكتبات التي لم نطلع عليها ويلحقه بما جمعته منها فهو سبحانه المستعان " .
وقال ابنه الشيخ محمد : تتألف هذه المجموعة القيمة من فتاوى وهي الأكثر، ومن كتب ورسائل، ونقول بلغ عدد مجلداتها أربعة وثلاثين مجلدا، قسم منها مطبوع، عدد صفحاته 17000 صفحة تقريبا، وقسم لم يسبق له أن طبع بل كان مخبوءا في زوايا المكتبات العامة أو الخاصة وهذا القسم أكثر من الثلث تقريبا .
والمجموع يتكون من أقسام : قسم في أصول الدين يشمل العقائد وما يتصل بها، وقسم في تفسير القرآن الكريم وقسم في الحديث، وقسم في الفقه مرتبا على ترتيب كتب المتأخرين من فقهاء الحنابلة مبتدئا من كتاب الطهارة إلى كتاب الإقرار .
وهذا المجموع يعتبر رصيدا ضخما من علوم شيخ الإسلام ابن تيمية في مختلف العلوم الشرعية قد استفاد منه الباحثون فائدة كبيرة فجزى الله من قام بجمعه وترتيبه، ومن قام بطبعه وتوزيعه خير الجزاء عن الإسلام وأهله .
ونسأل الله أن يوفق العلماء والباحثين والجهات العلمية مثل : رئاسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، ومثل الجامعات الإسلامية إلى تتبع مؤلفات الشيخ ورسائله وفتاويه في مظانها من المكتبات العالمية وجمعها وتصحيحها ونشرها؛ فإن رصيده العلمي ضخم لم يعثر حتى الآن إلا على القليل منه .
قال تلميذه الحافظ ابن عبد الهادي : " وكان - يعني الشيخ - يكتب الجواب فإن حضر من يبيضه وإلا أخذ السائل خطه وذهب، ويكتب قواعد كثيرة في فنون من العلم في الأصول والفروع والتفسير وغير ذلك، فإن وجد من خطه وإلا لم يشتهر ولم يعرف، وربما أخذه بعض أصحابه فلا يقدر على نقله ولا يرده إليه فيذهب، وكان كثيرا ما يقول : قد كتبت في كذا وفي كذا، ويُسأل عن الشيء فيقول : قد كتبت في هذا فلا يدري أين هو ! فيلتفت إلى أصحابه ويقول : ردوا خطي وأظهروه لينقل، فمن حرصهم عليه لا يردونه ومن عجزهم لا ينقلونه فيذهب ولا يعرف اسمه . فلهذه الأسباب وغيرها تعذر إحصاء ما كتبه وما صنفه .
وما كفى هذا؛ لأنه لما حبس تفرق أتباعه وتفرقت كتبه وخوفوا أصحابه من أن يظهروا كتبه فذهب كل أحد بما عنده وأخفاه ولم يظهروا كتبه فبقي هذا يهرب بما عنده وهذا يبيعه أو يهبه وهذا يخفيه ويودعه، حتى إن منهم من تسرق كتبه أو تجحد فلا يستطيع أن يطلبها ولا يقدر على تخليصها وبدون هذا تمزق الكتب والتصانيف . ولولا أن الله تعالى لطف وأعان ومنَّ وخرق العادة في حفظ أعيان كتبه وتصانيفه لما أمكن لأحد أن يجمعها . وقد رأيت من خرق العادة في حفظ كتبه وجمعها وإصلاح ما فسد منها ورد ما ذهب منها ما لو ذكرته لكان عجبا يعلم به كل مصنف أن لله عناية به وبكلامه لأنه يذب عن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين " . انتهى كلام ابن عبد الهادي - رحمه الله –
وفى الختام نسأل الله لنا ولكم الخير فى الدنيا والآخرةإنه سميع مجيب .