عبقريات إسلامية فى المغرب
مثلما كان للمسلمين عباقرة فى العلم التجريبى والرياضي، كان لهم فلاسفة كبار من أمثال الكندى والفارابى وابن سينا والغزالى فى المشرق، وابن طفيل وابن باجة وابن رشد فى المغرب، كما كان لهم فلاسفة اجتماعيون أمثال مسكويه وابن الأزرق وابن خلدون، فضلا عن فلاسفة لعلم النفس وفلسفة الحضارة وعلوم الاجتماع، كل منهم اهتم بالفلسفة الخالصة ومباحثها الميتافيزيقية العميقة، ولم ينس كل منهم أن يولى الإنسان اهتماما خاصا، جعل لمبحث الإنسان أهمية خاصة فى هذه الحضارة.
وفى هذا السياق، يستعرض الباحث بركات محمد مراد فى كتابه "دراسات فلسفية لعبقريات إسلامية" "مكتبة الأنجلو المصرية، 2006" بعض الأبحاث المهمة والدراسات العلمية والفلسفية التى أنجزها عباقرة العرب والمسلمين فى مختلف جوانب الفلسفة، سواء كانت فلسفية ميتافيزيقية، أو اجتماعية إنسانية، أو متصلة بالحضارة وبالعلم والثقافة، كاشفا فى الوقت نفسه عن جوانب عبقرية وإبداعية لدى هؤلاء الفلاسفة والمفكرين، الذين بهروا العالم برؤيتهم المستقبلية، العميقة والفاحصة، إضافة إلى الذين اشتغلوا بالعلم ـ بخاصة منه التجريبى والاستقرائى ـ فى وقت مبكر من تاريخ الإنسانية، يسمى فى الغرب بالعصور الوسطى، ويسمى لدى المسلمين بعصر الإسلام الذهبي.
ويشير الباحث بركات محمد مراد إلى أن أهمية النظرة الإيجابية إلى التراث عامة، والتراث العلمى والفلسفى عند العرب والمسلمين خاصة، تتبين إذا علمنا بمدى الأهمية القصوى التى يبديها الغرب للتراث منذ وقت مبكر. فحتى عصر الإحياء أو النهضة لم تقنع أوروبا بأن تبعث تراث أجدادها لتصل بين ماضيها وحاضرها، وتمهِّد لبناء مستقبلها، وإنما نزعت بدافع أكاديمى محض إلى تأريخ العلم وإحياء تراثه، دون نظر إلى جنسية أصحابه أو عقيدة بُناته، فنجد المنصفين من المستشرقين فى البحث عن تراث الشرق ونقل كنوزه من ظلام القبور إلى نور الحياة، وفى عصرنا الحاضر شبَّ خارج العالم العربى ولع بتاريخ العلوم عند العرب والمسلمين، وبدأ هذا بخاصة ـ كما يوضح الدكتور توفيق الطويل فى كتابه عن العرب والعلم فى عصر الإسلام الذهبى ـ فى قيام المجمع العلمى لتاريخ العلوم، الذى أدرك مكان العلم العربى من العلم العام، وكذلك بمذاهب الفلاسفة المسلمين، بخاصة ابن سينا ومسكويه وابن خلدون. وكذلك كان الحال فى معاهد العلم فى الغرب "من برنستون ولندن وباريس وفرنكفورت"، فرُصِدَت له ميزانيات ضخمة، وكُتِّلت من أجله جهود الباحثين من شتى الأجناس ومختلف الملل.
وحرصت جامعات العالم المتمدين على تدريس تاريخ العلم، حتى أنشأ بعضها ـ كجامعة لندن ـ أقسامًا بهيئات تدريس كاملة تتوافر على تدريسه، إلى جانب المعاهد سالفة الذكر، وذلك كله بالإضافة إلى الجهود الأكاديمية الفردية الجبارة لمؤرِّخى العلم، حيث نجد طبيب العيون الألمانى "هيرشبرج" Hirschberg الذى قضى من حياته العلمية خمسًا وعشرين سنة أرخ فيها طب العيون فى سبعة مجلَّدات ضخمة، خصص الخامس منها لطب العيون العربى عند العرب، وجورج سارتون Sarton ـ أعظم مؤرِّخ للعلم فى القرن العشرين ـ يخص العرب فى مؤلفاته المتعددة بشطر كبير من جهوده، كما يصنع صنيعه "ول ديورانت" W. Durant الذى يجعل للعرب فى موسوعته الضخمة نصيبا موفورا، ويؤرِّخ المستشرق الفرنسى لوسيان لوكلير Luelerc طبَّ العيون فى مجلدين ضخمين، ويحذو حذوه فى تأريخ الطب العربى "إدوارد براون" Browne، وينشر المستشرق الإيطالى كارلو نيللنو Nallino تأريخه لعلم الفلك عند العرب فى عصريه القديم والوسيط، ويضع ألدومييلى Aldo Mieli مجلَّده الضخم عن العلوم عند العرب فى عصورهم الوسطى، ومثل هؤلاء من الغربيين فى عالمنا الحديث كثيرون.
ويوضح بركات محمد مراد أن كثيرًا من هؤلاء المستشرقين خصصوا كثيرًا من مؤلفاتهم للكتابة عن فلاسفة المسلمين ومفكِّريهم، وكذلك عن متصوفى الإسلام، وحقق هؤلاء المستشرقون كثيرًا من المؤلَّفات العربية والإسلامية، ولفتوا أنظار العالم إلى أهمية التراث العلمى العربى والتراث الفلسفى الإسلامي، ويقول: "لقد عرف تاريخ العرب والمسلمين، مشارقة ومغاربة، مرحلة مزدهرة برز فيها العلم العربى "أى المكتوب بالعربية" ابتداء من القرن الثانى على الخصوص.
فتملَّك العلم اليونانى والهندى والفارسى وغيره، وتأثَّر به، ثم نما وأبدع، بعد أن أصبحت اللغة العربية اللغة التى تُكْتَب بها مختلف العلوم وتُلقَّن، ويُتَرْجَم إليها كلُّ ما يُحْتَاج إليه من الغير، وتنتج بها المعارف المطوَّرة أو الجديدة، ويُتَرْجَم منها إلى لغة الغير. وعاد العلم العربى كونيًا، متعدِّد المصادر والمنابع والتطوُّرات والامتدادات، ثمرة حركة ترجمة كثيفة، علمية وفلسفية، وتقاليد علمية متنوِّعة الأصول واللغات "بما فيها السريانية والسنسكريتية والعبرية"، وديانات مختلفة "إسلامية ومسيحية ويهودية.. إلخ" حركة دعمتها السلطة، ودفعها البحث العلمي، وتولَّدت عنها مكتبة تتناسب وعالم الحقبة، حركة غدت موحَّدة تحت قبة الحضارة الإسلامية الواسعة، لغتها العلمية هى العربية، تقرأ بها ترجمات الإنتاج العلمى الكلاسيكى والأبحاث الجديدة فى ذات الآن، فى سمرقند وغرناطة وبغداد ودمشق والقاهرة وفارس وغيرها. وكان المسلم الذى يكتب بلغة فارس، يقوم بنقل مؤلَّفه إلى العربية "البيرونى مثلاً" التى لم تعد لغة لشعب واحد، بل أصبحت لغة عدد من الشعوب، ولا لغة ثقافة واحدة، بل لكل المعارف، فتحت معابر غير مسبوقة، وسهَّلت الاتصال بين المراكز العلمية المنتشرة بين الصين والأندلس، والتبادل بين العلماء، وتكثَّفت التنقُّلات العلمية، والمكاتبات بين العلماء، لنشر العلم والتعاون، وأصبح العلم اللاتينى يتوقَّف على الترجمات من العربية إلى اللاتينية، وواكب كونية العلم العربى إذن تعدُّد اللغات المنقول منها، وإتقانها، والترجمة إلى العربية بكثافة، وتعدُّد ديانات العلماء الذين كتبوا بالعربية، وتعدُّد مصادر المعارف، وتكامل المعارف من تنجيم وفلك ورياضيات وبصريات وجغرافيا وكيمياء.. إلخ.
ففى الطبِّ مثلاً كانت مدينة جنديسابور فى الجنوب الغربى لفارس قد مثَّلت مركز تعليم ومركز استشفاء يضم مدرسة للطب أمَّنت ترجمة نصوص يونانية، وربما سنسكريتية إلى الفارسية والسريانية، وضمَّت أحسن الأطباء، وشهد العصر العباسى الأول تشجيع انتقال الأطباء منها إلى بغداد، التى أُنْشِئت فيها بداية القرن الثالث مؤسسة "بيت الحكمة"، وشيدت لها مكتبة خاصة، وحدَّدت مهمتها فى ترجمة النصوص العلمية، وأرسلت البعثات إلى القسطنطينية للحصول على المؤلَّفات، وأصبح على رأس المؤسسة نصراني، يوحنا بن ماسويه، ترجم كثيرًا من المؤلَّفات، وشملت كتاباته موجزًا فى الطب، واشتهر تلميذ له نصرانى أيضًا هو حنين بن إسحاق، الذى ترجم إلى العربية والسريانية جميع المقالات المعروفة فى عصره فى الطب، ونصف كتابات أرسطو ومعظم مؤلفات جالينوس، وفى القرن الثالث أنجزت المراجع الطبية الكاملة على يد أبى بكر الرازي، مثل كتابه عن الجدرى والحصبة وكتابه الضخم الحاوى فى الطب، وعلى يد ابن سينا فيما بعد أنجز القانون الذى ظل يُدرس مرجعًا فى جامعات أوروبا إلى حدود القرن السادس عشر الميلادي".
ويوضح بركات محمد مراد أن من أعضاء بيت الحكمة اشتهر الخوارزمى الرياضى والفلكى الذى ظهر له كتاب الجبر والمقابلة، فكان مصدر إلهام للرياضيين بالعربية والفارسية واللاتينية ولغات أوروبا حتى القرن الثامن عشر، وتميز بين الفيزيائيين الرازى والبيرونى والخازن وابن سينا وابن رشد وابن ميمون وغيرهم، الذين طوروا أو انتقدوا عددا من أفكار أرسطو وغيرهم من اليونان. وتمثل تأثر الغرب بالعلم العربى فى مئات الألفاظ فى الفلك والطب والفيزياء والجغرافيا والرياضيات والكيمياء، يقتفى أثرها علماء اللغة فى مختلف اللغات التى تولدت عن اللاتينية. ونهج العلم العربى فى الأندلس نهجًا مماثلاً، تجلى فى التقليد الفلكى والتنجيمى والزراعى والطبى اللاتيني، ثم وقع "تعريب" الثقافة الأندلسية فى الطب والفلك والرياضيات ابتداء من القرن العاشر الميلادي، فى الجوامع والبيوت الخاصة، قبل ظهور المدارس، ثم وصل العلم الأندلسى إلى مستواه الإنتاجى والإبداعى ابتداء من القرن الحادى عشر فى الزراعة، والإسطرلابات الشاملة، وتطور العلوم الرياضية، وازدهار الكيمياء والتقنيات والميكانيكا.. .
منقول من موقع التاريخ