من الأمثال ما لا يشتمل على تشبيه ولا استعارة
ومنها ما يجيء على طريقة التشبيه الضمني، كقوله تعالى: (ولا يغتب بعضكم بعضاً، أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه، الحجرات:12) إذ ليس فيه تشبيه صريح.
ومنها ما لم يشتمل على تشبيه ولا استعارة كقوله تعالى: (يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وأن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب المطلوب)الحج:73? فقوله تعالى: (إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً) قد سماه الله مثلاُ وليس فيه استعارة ولا تشبيه، وأما المثل في الأدب، فهو قول محكي سائر يقصد به تشبيه حال الذي حكي فيه بحال الذي قيل لأجله، أي يشبه مضربه بمورده، مثل "رب رمية من غير رام"أي رب مصيبة حصلت من رام شأنه أن يخطئ، وأول من قال هذا الحكم بن يغوث النقري، يضرب للمخطئ يصيب أحياناً، وعلى هذا فلا بد له من مورد يشبه مضربه به.
المثل قد يراد به القصة والحال
ويطلق المثل على الحال والقصة العجيبة الشأن، وبهذا المعنى فسر لفظ المثل في كثير من الآيات كقوله تعالى: (مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير أسن) محمد:15? أي قصتها وصفتها التي يتعجب منها، وأشار الزمخشري إلى هذه المعاني الثلاثة في (كشافه) فقال: (والمثل في أصل كلامهم بمعنى المثل والنظير، ثم قيل للقول السائر الممثل مضربه بمورده مثل) ثم قال: وقد استعير المثل للحال أو القصة أو الصفة إذا كان لها شأن وفيها غرابة.
وهناك معنى رابع ذهب إليه علماء البيان في تعريف المثل فهو عندهم المجاز المركب الذي تكون علاقته المشابهة متى فشا استعماله وأصله الاستعارة التمثيلية كقولك للمتردد في فعل أمر: (ما لي أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى).
أنواع الأمثال في القرآن
الأمثال في القرآن ثلاثة أنواع: 1- الأمثال المصرحة، 2 – والأمثال الكامنة، 3 – والأمثال المرسلة.
النوع الأول:الأمثال المصرحة: وهي ما صرح فيها بلفظ المثل أو ما يدل على التشبيه وهي كثيرة في القرآن وعلى سبيل المثال لا الحصر نورد منها ما يأتي:
أ – قوله تعالى في شأن المنافقين(مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون، صم بكم عمي فهم لا يرجعون. أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق- إلى قوله تعالى: إن الله على كل شيء قدير) (البقرة:17-20) ففي هذه الآيات ضرب الله للمنافقين مثلين: مثلاُ نارياً في قوله
كمثل الذي استوقد ناراً) لما في النار من مادة النور، ومثلاُ مائياً في قوله" أو كصيب من السماء.." لما في الماء من مادة الحياة، وقد نزل الوحي من السماء متضمناً لاستنارة القلوب وحياتها- وذكر الله حظ المنافقين في الحالتين- فهم بمنزلة من استوقد ناراً للإضاءة والنفع حيث انتفعوا مادياً بالدخول في الإسلام ولكن لم يكن له أثر نوري في قلوبهم فذهب الله بما في النار من الإضاءة (ذهب الله بنورهم) وبقي ما فيها من الإحراق وهذا مثلهم الناري، وذكر مثلهم المائي فشبههم بحال من أصابه مطر فيه ظلمة ورعد وبرق فخارت قواه ووضع إصبعيه في أذنيه وأغمض عينيه خوفاً من صاعقة تصيبه، لأن القرآن بزواجره ونواهيه وخطابه نزل عليهم نزول الصواعق.
المثل المائي والناري
ب – وذكر الله المثلين: المائي والناري في سورة الرعد للحق والباطل فقال تعالى: (أنزل من السماء ماء فسألت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبداً رابياً ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل- فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال ) شبه الوحي الذي أنزله من السماء لحياة القلوب بالماء الذي أنزله لحياة الأرض بالنبات، وشبه القلوب بالأودية والسيل إذا جرى في الأودية احتمل زبداً وغثاء فكذلك الهدى والعلم إذا سرى في القلوب أثار ما فيها من الشهوات ليذهب بها، وهذا هو المثل المائي في قوله: "أنزل من السماء ماء" وهكذا يضرب الله الحق والباطل.
وذكر المثل الناري في قوله: (ومما يوقدون عليه في النار) فالمعادن من ذهب أو فضة أو نحاس أو حديد عند سبكها تخرج النار ما فيها من الخبث وتفصله عن الجوهر الذي ينتفع به فيذهب جفاء، فكذلك الشهوات يطرحها قلب المؤمن ويجفوها كما يطرح السيل والنار ذلك الذهب وهذا الخبث.
النوع الثاني من الأمثال: الأمثال الكامنة
وهي التي لم يصرح فيها بلفظ المثل: ولكنها تدل على معان رائعة في إيجاز، يكون لها وقعها إذا نقلت إلى ما يشبهها، ويمثلون لهذا النوع بأمثلة منها:
1 – ما في معنى قولهم (خير الأمور أوسطها).
2 – قوله تعالى: (لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك) البقرة 68.
3 – قوله تعالى: في النفقة (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما) الفرقان 67.
4 – قوله تعالى في الصلاة: (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلاً) الإسراء:110.
5 – قوله تعالى في الإنفاق: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط) الإسراء 29.
6 – قوله تعالى بلسان يعقوب(قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل) يوسف64. وما أشبه ذلك.
النوع الثالث الأمثال المرسلة في القرآن الكريم
وهي جمل أرسلت إرسالاً من غير تصريح بلفظ التشبيه. فهي آيات جارية مجرى الأمثال ومن أمثلة ذلك ما يأتي:
1 – (الآن حصحص الحق) يوسف:51.
2 – (ليس لها من دون الله كاشفة) النجم58.
3 – (قضي الأمر الذي فيه تستفتيان) يوسف 41.
4 –(أليس الصبح بقريب) هود 58.
5 – (لكل نبأ مستقر) الأنعام 67.
6 –( ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله): فاطر: 43? واختلفوا في هذا النوع من الآيات الذي يسمونه إرسال المثل، ما حكم استعماله استعمال الأمثال؟ فرآه بعض أهل العلم خروجاً عن أدب القرآن. قال الرازي في تفسير قوله تعالى: (لكم دينكم ولي دين) الكافرون:6: جرت على عادة الناس بأن يتمثلوا بهذه الآية عند التاركة وذلك غير جائز لأنه تعالى ما أنزل القرآن ليتمثل به، بل يتدبر فيه، ثم يعمل بموجبه.
ورأى آخرون أنه لا حرج في ما يظهر أن يتمثل الرجل بالقرآن في مقام الجد كأن يأسف أسفاً شديداً لنزول كارثة قد تقطعت أسباب كشفها عن الناس فيقول: (ليس لها من دون الله كاشفة) أو يحاوره صاحب مذهب فاسد يحاول استهواءه إلى باطلة فيقول (لكم دينكم ولي دين) والإثم الكبير في أن يقصد الرجل إلى التظاهر بالبراعة فيتمثل بالقرآن حتى في مقام الهزل والمزاح.
فوائد الأمثال
1 – الأمثال تبرز المعقول في صورة المحسوس الذي يلمسه الناس، فيقبله العقل لأن المعاني المعقولة لا تستقر في الذهن إلا إذا صيغت في صورة حسية قريبة الفهم، كما ضرب الله مثلاً حال المنفق رياء حيث لا يحصل من إنفاقه على شيء من الثواب، فقال تعالى: (فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلداً لا يقدرون على شيء مما كسبوا) البقرة:264.
2 – وتكشف الأمثال عن الحقائق وتعرض الغائب في معرض الحاضر كقوله تعالى(الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس)البقرة:275.
3 – وتجمع الأمثال المعنى الرائع في عبارة موجزة كالأمثال الكامنة والأمثال المرسلة في الآيات السالفة الذكر.
4 – ويضرب المثل للترغيب في الممثل حيث يكون الممثل به مما ترغب فيه النفوس كما ضرب الله مثلاً لحال المنفق في سبيل الله حيث يعود عليه الإنفاق بخير كثير فقال تعالى: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم) البقرة: 261.
5 – ويضرب المثل للتنفير حيث يكون الممثل به مما تكرهه النفوس كقوله تعالى في النهي عن الغيبة (ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه) الحجرات: 12.
6 – ويضرب المثل لمدح الممثل كقوله تعالى في الصحابة ( ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار) الفتح: 29?و كذلك حال الصحابة فإنهم كانوا في بدء الأمر قليلاً، ثم اخذوا في النمو حتى استحكم أمرهم وامتلأت القلوب إعجاباً بعظمتهم.
7 – ويضرب المثل حيث يكون للممثل به صفة يستقبحها الناس، كما ضرب الله مثلاً لحال من آتاه الله الكتاب، فتنكب الطريق عن العمل به، وانحدر في الدنيا منغمساً فقال تعالى: (واتل عليهم نبأ الذي أتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان كان من الغاوين، ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث، ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا" الأعراف: 175-176.
8 – والأمثال أوقع في النفس، وأبلغ في الوعظ، وأقوى في الزجر، وأقوم في الإقناع، وقد أكثر الله تعالى الأمثال في القرآن للتذكرة والعظة وقد تقدم ما فيه الكفاية والغنى عما سواه.
فضيلة الشيخ / صابر حسن أبو سليمان (عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية – الرياض).
منقول من موقع باب