عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: “مثل القائم على حدود الله، والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا علي من فوقهم فآذوهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً” صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم (رواه البخاري).
في هذا الحديث الشريف مثل في منتهى الجمال والروعة يضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأولئك الذين أخطأوا الطريق وضلوا الجادة وتنكبوا عن سبيل الهدى ففهموا الحرية فهما خاطئا وساروا في هذه الحياة حسب أهوائهم وشهواتهم، ومثل آخر لأولئك الذين رأوا المنكر فسكتوا عنه وأغمضوا أعينهم عما يدور حولهم من آثام وموبقات وكأن الأمر لا يعنيهم، وظنوا في أنفسهم الصلاح والفلاح، إنه مثل رائع من روائع الحكم النبوية التي ضربها الرسول الكريم معلم الانسانية ومهذب البشرية الذي دانت له الفصاحة والبلاغة وأعطى جوامع الكلم فكان له منها النصيب الأوفر فصلوات ربي وسلامه عليه.
مثل في غاية الروعة يصور فيه الرسول (المجتمع البشري) بما فيه من أخيار وأشرار ومتقين وفجار بركاب سفينه في بحر خضم متلاطم الأمواج، هذه السفينة تسير وسط البحر تشق طريقها بين الأمواج والأعاصير.
وقد انقسم الركاب فيها إلى قسمين: قسم في أعلى السفينة يتمتعون بجمال الكون وروعة الطبيعة ونضارة الحياة وقد تأمنت لهم كل أسباب الرفاهية والراحة من مياه عذبة نقية وسرر وأرائك وخدم وولدان يسعون في خدمتهم وقضاء حاجاتهم.
وقسم في أسفل السفينة لا يرون مناظر الطبيعة ولا يتمتعون بجمالها الخلاب ولا ينعمون بما ينعم به إخوانهم بالطبقة العليا حتى الماء وقد كانوا يجلبونه من الأعلى.
وهنا خطرت لهم خاطرة وهي أن يثقبوا أسفل السفينة ويستخرجوا من البحر الماء حتى لا يتعبوا أنفسهم في حمل الماء ولا يزعجوا أحداً وهنا بدأوا بما عزموا عليه وقرروا ثقب السفينة فاستخرجوا المعاول وراحوا يضربون السفينة لاستخراج الماء وسمع اللذين هم بالطبقة العليا أصوات ضرب السفينة وهي تخرق فهرعوا نحوهم ووقفوا في وجوههم يريدون منعهم، ولكن أولئك الأذكياء استأؤوا من تدخل اخوانهم وقالوا لهم: هذا مكاننا نصنع فيه ما نشاء لأننا أحرار، وهل تمنعون الناس من استعمال حرياتهم؟ فإن تركتوهم على إرادتهم وصنيعهم هلك ركاب السفينة جميعاً وإن منعوهم وأخذوا على أيديهم نجوا جميعاً، وهكذا هذا حالنا في هذه الحياة نعيش فوق هذه الأرض كركاب سفينة فيها البر والفاجر، والصالح والطالح، فإن تركنا أهل الشر والفساد يسرحون ويمرحون ويفعلون ما يحلو لهم وما يشاؤون دون أن نوجه لهم النصح أو نمنعهم من اقتراف الموبقات هلكنا جميعا وإن منعناهم منها نجونا جميعاً، فكان في ذلك نجاتنا وحياتهم، فيا له من مثل رائع، وتوجيه حكيم نبهنا إليه رسول الهدى والرحمة ونبي العلم والعرفان.
أيها الأخ المسلم: تعال معي لنغوص في بحر بلاغة النبي في الحديث الشريف في قوله صلى الله عليه وسلم (مثل القائم - كمثل قوم استهموا) فيه تشبيه يسمى تشبيها تمثيليا لأن وجه الشبه صورة منتزعة من متعدد وهذا النوع من التشبيه له تأثير عظيم على النفس فإنه إذا وقع في الصدر بعث المعنى إلى النفس بوضوح وجلاء مؤيد بالبرهان ليقنع السامع وإذا جاء بعد تمام المعاني كان كالبرهان الذي تثبت به الدعوى والحجة التي توجب الإذعان ثم في لفظ أعلاها ولفظ “أسفلها” طباق بين اسمين والطباق هو الجمع بين لفظين متقابلين في المعنى كما هو معلوم في علم البديع وكذلك يوجد طباق بين قوله “القائم والواقع” يزيد المعنى جمالا وتوكيدا، وفي قوله صلى الله عليه وسلم “وإن أخذوا على أيديهم” في هذا اللفظ كناية لطيفة فقد كني عن المنع بالأخذ على الأيدي فهو إذن كناية عن صفة.
والملاحظ لهذا التشبيه في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يدرك أنه من قبيل التشبيه المركب وهو تشبيه حال المسلمين القائم منهم على الحدود والواقع فيها والساكت عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحال قوم شركاء في سفينة تنازعوها فاستهموا على قسمتها فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فهل رأيت أخي المسلم أجمل من هذا التصوير في إيضاح ان حياة الأمة وأمنها لا يحصلان إلا بأخذ الراشدين فيه على أيدي العابثين المفسدين؟