تقوى الشح

عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

“اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم” صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم (رواه مسلم).

ما أعظم الإسلام دين الحق والعدالة ودين المساواة والإنصاف. إنه الدين الذي يمقت الظلم ويكره العدوان ويأمر بالعدل والإحسان وإيتاي ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبين لنا في هذا الحديث النبوي الرائع عاقبة الظلم ومصير الظالمين أنه مصير مشؤوم لأنه يكون يوم القيامة ظلاماً دامساً يحل بصاحبه فلا يرى طريقه ولا يعرف كيف يمضي ولا أين يسير. وبهذا التعبير الموجز عن مصير الظالمين ينفر الرسول الكريم من الظلم بجميع أنواعه وضروبه ويحذر من عاقبته التي هي أسوأ عاقبة، قال تعالى: “وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون” (الشعراء: 227). وليس هذا فحسب، بل إن الظالم سينتقم الله منه في الدنيا قبل الآخرة فإذا تأخر عنه العذاب فليس ذلك بإهمال من الله جلا وعلا. بل إنه زيادة في عذابه لأنه استدراج له وفي ذلك يقول معلم البشرية صلى الله عليه وسلم: إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته. ثم تلا قوله تعالى: “وكذلك أخذُ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد” وأقبح أنواع الظلم وأبشعه صوره أن يظلم الإنسان قريبه أو صديقه أو من يجب الإحسان إليه والعطف عليه.

وهكذا تكون عاقبة الظلم والعدوان. وفي الحديث الشريف تحذير آخر من مرض اجتماعي خطير ألا وهو الشح والبخل لأن المجتمع الإسلامي مجتمع التكافل والتضامن والتعاون بين أفراده فإذا فشا البخل فيه عمت العدواة والبغضاء بين الفقير والغني، ولذا كان البخل سبباً لهلاك الأمم السابقة، حيث دفعهم الى سفك الدماء وقتل النفوس واستحلال المحارم التي حرمها الله تعالى فما أقبح الظلم والشح وما أشنع عاقبتهما الوخيمة التي هي سبب الشقاء الدائم والخسران المبين. تأمل معي بلاغة الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: “اتقوا الظلم إن الظلم ظلمات” وقوله “اتقوا الشح” كل منهما جملة إنشائية خرجت من معناها الأصلي الى معنى التحذير والتنبيه، واستخدام الرسول أدوات التوكيد إن وأخواتها أعطى للأسلوب جماله وفي قوله صلى الله عليه وسلم “الظلم ظلمات” في هذه الجملة جناس لطيف يسمى جناساً ناقصاً وهو من المحسنات البديعية وفي قوله صلى الله عليه وسلم: “فإن الشح أهلك” نسبة الإهلاك الى الشح من باب المجاز وهو مجاز عقلي وفي قوله صلى الله عليه وسلم سفكوا دماءهم (مجاز بالحذف) فهو على حذف مضاف المعنى سفكوا دماء إخوانهم أو سفكوا دماء بعضهم، فعبارة سفكوا دماءهم أي أراقوا دماء بعضهم بعضاً، والمعنى قتلوا بعضهم بعضاً بسبب الشح بالمال والحرص عليه واستحلوا محارم، وأما المحرم فجمعه محرمات، والمحرم بالسكون والتشديد معناه ما حرمه الله على عباده.

وهذا الحديث يقدم لنا صورة كالحة لأثر الظلم، وقد جاء التعبير سريعاً تعانق فيه المجرد والحسي حتى أخفى الحسي نتيجة التطلع الى عوالم غيبية “الظلم ظلمات يوم القيامة” ثم هي ظلمات بالجمع دلالة على الكثرة الهائلة ولم تربط بكلمة الليل لتكون في أقصى التأثير نتيجة قصورها على ظلمات مغايرة لما نعهده في الليل. إنها ظلمة شديدة تغطي كل أنحاء المشهد، فإذا هي الظلمات مؤشر الى الحديث بعد قراءته واستخدام الرسول صلى الله عليه وسلم الأمر في قوله “اتقوا الظلم” ثم عطف عليه بقوله “اتقوا الشح” فتصدير الرسول لهذا الهدي الشريف بالأمر والأمر من أساليب الإنشاء فهو تحذير منه صلى الله عليه وسلم في الخوف من الله وعدم الظلم وكذلك عدم البخل في المال، فالمال مال الله، وما هو إلا وديعة أودعنا إياها سنسأل عنها يوم القيامة يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.