هبة الله الادارة
نقاط : 13559
| موضوع: الجهاد والزهد السبت مارس 28, 2009 3:47 pm | |
| عن ابن عمر رضي الله عنه انه قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: “كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل، وعدّ نفسك من أهل القبور” صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبهذا التوجيه النبوي الكريم والارشاد الصادق الحكيم تتربى في نفس المؤمن روح الجهاد والكفاح والزهد في هذه الحياة الفانية فليس المؤمن كغيره من افراد الناس يكد ويكدح ويشقى في سبيل حطام الدنيا وجمع ما فيها من ثروة ومال.... بل ان له نفسا تواقة الى المعالي، تترفع به على سفاسف الأمور وتعلو به الى مدارج الرقي والكمال، الى اجواء قدسية من حيث الخير والفضيلة والبحث عما تتوق إليه النفس الكريمة من صالح الأعمال... في هذه التربية السليمة نشأ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا مصابيح تضيء للناس في ظلمات هذه الحياة، ولا عجب فقد اقتبسوا ذلك من معين النبوة ومنبع الفضل والكمال، فهذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يربي اصحابه تربية انسانية كاملة، تربية فيها الشجاعة والبسالة وفيها العزم والحزم وفيها الزهد والعفاف لذلك كانوا رجالا وابطالا فتحوا الدنيا وسادوا العالم بتلك المعاني النبيلة التي غرسها في قلوبهم المربي الاول محمد صلى الله عليه وسلم هذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يوجه ذلك الشاب المؤمن عبدالله بن عمر الوجهة الفاضلة فيمسك بمنكبه مؤانسا ومسلياً ثم يقول تلك القولة الكريمة الهادفة: “كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل وعد نفسك من أهل القبور”، ما اجملها من نصيحة وما أكرمها من قولة! وحقا انها لفتة سامية هادفة ونصيحة ثمينة غالية يقدمها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لهذا الشاب المؤمن الذي ملأ الايمان قلبه وغمر اليقين نفسه فيحرك فيه بواعث الخير ويفجر فيه ينابيع الايمان. ولقد كان لهذه التربية ولهذا التوجيه اثر في نفس ذلك الشاب المؤمن، فإن هذه الباقة الجميلة قد اعطت ثمرتها والفضيلة اليانعة فوقعت في نفسه موقعاً عظيماً وتقبلها تقبلا حسناً، لقد جمعت هذه الكلمات القليلة أنواع النصائح فالغريب الذي قدم بلدا غير بلده لا مسكن له فيه ولا صديق يواسيه ولا أحد من الأهل والأولاد يؤانسه، كيف يكون حاله؟ ألا يشعر بالوحشة والغربة ويتمنى العودة الى الأهل والأوطان؟ وهل يكون له رغبة في البقاء بأرض الغربة والاقامة فيها؟ فلله ما اعجب هذه الحياة الدنيا وما اتفهها واحقرها ان لم يغتنم منها الانسان ويتزود بصالح الأعمال. وهل هذه الدنيا إلا دار الغرور يركن اليها الغافل ويغتر فيها الجهول؟ ولله در القائل حيث يقول:
تعب كلها الحياة فما أعجب إلا من راغب في ازدياد
وهذه المعاني السامية انطلقت في نفس هذا الغلام اليافع وترددت على لسانه تلك الكلمات العظيمة الرائعة التي هي ثمرة التربية النبوية الصادقة (إذا اصبحت فلا تنتظر المساء وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك”، فلله ما اسماها من نصيحة وما اصدقها من تربية.
أيها الاخ الكريم: المعروف من كتب النحو ان الأداة (كأن) تفيد الظن والشك فقد وضحت النسبة التي يتشبه خلالها الانسان المؤمن بالغريب أو بعابر سبيل إذ لا يهمل كل دنياه فإن لنفسه عليه حقا وإذا قلبنا الكلام الى كن في الدنيا غريبا أو عابر سبيل وعنينا بهذا الانقطاع التام عن الدنيا ورهبانية تعطل عمارة الكون فهذه الاداة (كأن) بينت الشبه البسيط بأخذ جزئية صغيرة من حال الغربة. ولفظ (أو) ليس معناه هنا الشك بل للتخيير والاباحة، والاحسن ان تكون بمعنى (بل) فشبه الناسك السالك بالغريب الذي ليس له مسكن يؤويه ثم اضرب عنه الى عابر السبيل القاصد لبلد شاسع وبينهما أودية مردية وقطاع طريق.
أيها الاخ الكريم: في هذا الحديث حض على قلة المخالطة وقلة الاقتناء وعلى الزهد والتخفف من الدنيا وبيان ذلك ان الغريب قليل الانبساط الى الناس مستوحش منهم، إذ لا يكاد يمر بمن يعرفه ويأنس به فيستكثر من مخالطته فهو منكمش على نفسه، لقد قال له كأنك غريب لا تركن الى الدنيا ولا تطمئن فيها ولا تتعلق بها لأنك على جناح سفر، إذ يظل الغريب مشتاقا الى وطنه عازما على السفر إذا كان به حياء وذوق ونخوة فكلما قطع مسافة امتلأ قلبه سروراً يقربه من وطنه، وحال عابر السبيل مثل تصعيدا في الزهد أو اضرب عن الحالة الاولى فهذا أقل تعلقا من الغريب وتلك مرحلة تجسم تعمق اليقين الديني في قرارة المؤمن وعابر السبيل لا يتخذ داراً بل لا يقدر ولا يلج في الخصومات ولا يشاحن ناظرا الى ان لبثه لأيام يسيرة ليس معه فيها إلا زاده وفي الحديث رحمة متجلية في التصعيد فالمرء يزهد قدر المستطاع.
ومن الجمال البلاغي للرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الهدى الشريف، في قوله (أخذ بمنكبي) جملة خبرية الغرض منها افادة الحكم الذي تضمنته الجملة ويسمى فائدة الخبر.
وفي قول (كن في الدنيا) جملة انشائية طلبية العامل فيها الأمر والأداة فعل الأمر (كن) وقد خرجت عن غرضها الاصلي وهو (الوجوب واللزوم) الى النصيح والارشاد، وانواع الانشاء الطلبي خمسة كما هو معروف (الأمر والنهي والاستفهام والتمني والنداء) وفي قول كأنك غريب تشبيه يسمى مرسلاً مجملاً أما انه مرسل فلأن أداة التشبيه وهي كأن مذكورة وأما انه مجمل فلأن وجه الشبه غير مذكور والتقدير (كن كالغريب في عدم الاستقرار والتفكير بالمكث وطول الاقامة).
وفي قوله صلى الله عليه وسلم “من أهل القبور” كناية لطيفة فقد كنى عن الموتى بأهل القبور مثل قوله “ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر” أي حتى اصبحتم في عداد الموتى حيث كنى عن الموت بزيارة القبور وفي قوله “إذا اصبحت فلا تنتظر المساء” تقابل لطيف بين الجملتين، وهو فن من فنون البديع، ويسمى المقابلة فقد قابل بين أصبحت وامسيت وبين الصباح والمساء إذا اصبحت فلا تنتظر المساء وإذا امسيت فلا تنتظر الصباح وفي قوله “من صحتك لمرض ومن حياتك لموتك” طباق يزيد المعنى جمالا ورفعة.
| |
|