| الشعر العذري في ضوء النقد العربي الحديث | |
|
|
|
كاتب الموضوع | رسالة |
---|
هبة الله الادارة
نقاط : 13559
| موضوع: رد: الشعر العذري في ضوء النقد العربي الحديث الأربعاء أبريل 01, 2009 9:53 am | |
| إنّ الشعر العذري في تصوير "طه حسين" وليد ظروف سياسية تميزت بها الفترة الأموية؛ حيث "نستطيع أن نستنبط أنّ بلاد العرب بعدما تم الفتح للمسلمين، وبعد أن جاهدت في الاحتفاظ بالسلطان السياسي، وأخفقت في الجهاد إخفاقاً شنيعاً، وانتقل مركز الحكم منها إلى الشام، كما انتقل مركز المعارضة منها إلى العراق انصرفت أو كادت تنصرف عن الاشتراك في الحياة العامة، وفرغت للحياة الخاصة، فانكبت على نفسها، وأحست شيئاً من اليأس والحزن غير قليل، فهي كانت مهد الإسلام ومصدر قوته، ومنها انبعثت الجيوش الفاتحة التي أخضعت الأرض وأزالت الدول، وفيها نشأت الخلافة ومنها امتد سلطان الخلافة على الأرض، ثمّ هي ترى نفسها جُردت من كل شيء، فانتقلت عاصمة الخلافة إلى الشام، وانتقل جهاد الأحزاب السياسية إلى العراق، وأساء خلفاء الشام ظنهم ببلاد العرب، فعاملوها معاملة شديدة قاسية، وأخذوها بألوان من الحكم لاتخلو من العنف"( . فاليأس استشرى في المجتمع الأموي الذي شعر بأنّه قد بدأ يفقد امتيازاته التي كانت تمنحها إياهم الدولة الإسلامية الأولى. يستمد "طه حسين" من التاريخ الأموي ومعاملته للمجتمع الحجازي مادة لقراءته السياسية. وعليها ارتكز في تفسير الظاهرة العذرية تفسيراً سياسياً وتاريخياً- كما ألمحنا في السابق- على الرغم مما رافق هذه القراءة من المبالغات التي تهدف إلى تصوير التاريخ الأموي تاريخاً كله استبداداً وقهراً. خاصة ونحن نعلم أنّ هذا التاريخ في الكثير من تدويناته قد كتب بيد شيعة وعباسية كانت تكن العداء لبني أمية، ولهذا فهو لايخلو من المبالغة والإضافات التي لاتمت إلى الحقيقة التاريخية بصلة. ويضيف "طه حسين" إلى قراءته السياسية قراءة ذات بعد ديني، حيث يرى فيه دعماً للقراءة السياسية، ذلك لأنّ العذرية بقدر ماهي إفراز للسياسية الأموية تجاه المجتمع الحجازي، هي إفراز كذلك وراءه تأثير العامل الديني في نفوس الحجازيين، وهو عامل روحي له الدور الأساسي في تشكيل الفضاء الفني للعذرية إذ "كان أهل البادية الحجازية يائسين، ولكنهم كانوا فقراء، فلم يتح لهم اللهو وقد حيل بينهم وبين حياة الجاهلية، وقد تأثروا بالإسلام وبالقرآن خاصة، فنشأ في نفوسهم شيء من التقوى ليس بالحضري الخالص وليس بالبدوي الخالص، ولكن فيه سذاجة بدوية وفيه رقة إسلامية، وانصرف هؤلاء الناس عن حروبهم وأسباب لهوهم الجاهلي، كما انصرفوا عن الحياة العملية في الإسلام إلى أنفسهم فانكبوا عليها، واستخلصوا منها نغمة لاتخلوا من الحزن، ولكنّها نغمة زهد وتصوف"(9). فالبعد الطبقي والسياسي والديني يشكل أسس قراءة "طه حسين"، وبذلك يعطي للظاهرة العذرية بعداً حضارياً متشعب الدلالات، وهو مايتجلى في قوله "والحق أننا إذا أردنا أن ندرس تلك الظاهرة الفنية وصلتها بالمجتمع والعصر، لاينبغي أن نقف عند تعبيرها الظاهري عن عواطف الحب، فليس من المعقول أن ينشأ هذا العدد الكبير من الشعراء العذريين الذين يتفقون في طبيعة التجربة العاطفية وصور التعبير عنها، دون أن يكون لذلك جذور أعمق مما تراه على سطح تلك الصور والمعاني الشعرية المشتركة. وليس من خير في أن نلتمس في هذا الشعر دلالات ورموزاً تتجاوز التجربة العاطفية.. ولو تدبرنا مانصادف من الصور العاطفية عند هؤلاء الشعراء لأحسسنا أنّها لو انتزعت من -سياقها- يمكن أن تكون تعبيراً ومشاعر أكثر شمولاً، قد نجد فيها تصوراً لموقف عام من الحياة"(10) وبذلك تجتمع العوامل السياسية والاجتماعية والدينية لتشكل الفضاء الكلي للظاهرة العذرية لتعبر عن موقف حضاري شامل. | |
|
| |
هبة الله الادارة
نقاط : 13559
| موضوع: رد: الشعر العذري في ضوء النقد العربي الحديث الأربعاء أبريل 01, 2009 9:53 am | |
| إنّ قراءة "طه حسين" في تركيزها على البعد الاجتماعي والسياسي وقعت في النظرة التجزيئية للظاهرة، محاولة التعامل مع جوانبها الخاصة ومهملة في الوقت نفسه النص الإبداعي، فاعتمدت فقط على السياقات التاريخية دون الخصائص الفنية للشعر العذري، وهذا ماجعلها تتجنب الإحاطة بالبعد الشمولي للظاهرة العذرية، بوصفها ذات أبعاد متعددة ومتكاملة في إطار شمولي إذ لايمكن الانطلاق من الجزء لإدراك الكل. وهذا ماستحاول أن تتفاداه القراءة البنيوية التكوينية التي تحتكم إلى مبدأ الكلية، والشمولية، بين المسألة الفنية والمسألة الاجتماعية.
إنّ التفسير الطبقي للظاهرة العذرية لم يكن وقفاً على "طه حسين" فقط، وإنما وقف عنده "يوسف اليوسف" كذلك، فاليأس والحرمان والنزعة التدميرية التي تميزت بها العذرية في خضم التحولات الحضارية، كانت نتيجة إحساس العذري بالضياع إذ "أصبح الفرد يناضل كي يبني دولة امبراطورية لايستفيد منها إلاّ السراة، وطالما أنّ الامبراطورية أخذت تعزز التراتب الطبقي وتمارس التغريب على روح الفرد... فقد باتت الامبراطورية شيئاً لايعنيه، لأنّها لم تعد ملكه، بل ملك جلاديه ومستغليه، ولهذا كان لابد من أن ينقص إلى طبيعته الأصلية التي أصبح لها الحق في المطالبة بحاجاتها الأزلية"(11) فالعذرية عند "يوسف اليوسف" ارتداد داخلي للفرد داخل المجتمع الأموي، بعد أن أحس بالتهميش وضياع حقوقه الاجتماعية والسياسية، وبذلك فإنّ هذا الطرح يمزج بين القراءة الاجتماعية والقراءة النفسية للظاهرة العذرية، ومن هنا كان يصعب علينا التصنيف النقدي لتلك القراءات التي درست الشعر العذري، فمن غير اليسير أن نضع قراءة "يوسف اليوسف" في خانة التحليل الاجتماعي الخالص، وهو لايخلو من التركيز على البعد النفسي ضمن رؤية اجتماعية نفسية.
فالعوامل الاجتماعية والسياسية كان لها الدور الرائد في تشكيل الفضاء الشعري للنص العذري، والذي كان تعبيراً عن إحساس الطبقات البائسة بالاحتباس العشقي المادي لدى الفرد الأموي، هذا الاحتباس الذي كان مقبولاً عندما كان الفرد يقبله طواعية من أجل إنشاء المشروع الحضاري في صدر الإسلام، والذي كان يرى فيه جزء منه، يضحي من أجله، لأنه يرى أنّه المثل الذي يتبناه جميع الأفراد، مشكلاً بذلك ائتلافاً اجتماعياً وسياسياً بين الفرد والمجتمع، لأنّ التنازل عن الحاجات الطبيعية يعود بالفائدة النفسية على جميع أعضاء المجتمع. أما وقد انتقل مشروع المجتمع من مشروع يتبناه المجتمع إلى مشروع يكرس الطبقية في جميع مجالاته الاجتماعية والسياسية والمالية، فلم يبق لفرد إلاّ النكوص والانطواء واليأس تعبيراً عن الغبن المادي والمحتوى الذي أفرزه الواقع الطبقي داخل المجتمع الأموي، والذي أصبح مجالاً تستفيد منه طبقة دون الطبقات الأخرى.
إنّ قراءة "يوسف اليوسف" كما يبدو تنطلق من الطبقية السياسية لامن الطبقة المادية، التي أفرزها الواقع السياسي الأموي، والذي كان لها التأثير الكبير في المجال الاجتماعي. فقراءة "يوسف اليوسف" هي بخلاف قراءة "طه حسين" التي تذهب إلى الأصول الطبقية المادية المبنية على الفقر والبؤس الذي كانت تعانيه البادية الحجازية.
إنّ الأساس الطبقي للظاهرة العذرية الذي انطلقت منه القراءتان، ليس له مايبرره على الصعيد المادي المعيشي، المرتبط بالفقر والبؤس والحرمان، أمّا العامل السياسي المبني على الحيف والظلم والتهميش والحرمان السياسي الذي تعرضت له بلاد الحجاز في الفترة الأموية، فله مايبرره في التاريخ الأموي. لذلك كان العامل السياسي أوفر حظاً من العوامل الأخرى التي قدمتها القراءتان السالفة في تفسيرها لنشأة الظاهرة العذرية. فالفرد كما يذهب إلى ذلك "يوسف اليوسف" أحس بالتهميش والإقصاء عن صنع مصيره التاريخي والسياسي والحضاري الذي كان يوفره له المجتمع الإسلامي في عهد الرسول صلى اللّه عليه وسلم.
إنّ الأصول الطبقية للظاهرة العذرية تنطلق من أنّ الأدب مرآة للحياة وأنّ "الأدب يصور حياة الناس، فلا يكون أدباً حتى يصور حياة الناس، وليس في الأرض أدب إلا وهو يصور حياة أصحابه"(12) وهو الأساس النظري الذي انطلق منه "طه حسين" في قراءته للشعر العذري بناءاً على التصور السابق. فمقولة "المبدع ابن بيتئه" أسهمت في توجيه قراءة "طه حسين" توجيهاً اجتماعياً، أفضى به إلى القول بالبعد الطبقي، الذي وقف وراء ظهور الظاهرة العذرية، وقد نبهنا إلى أن "طه حسين" لم يستند في ذلك إلى التفسير الاجتماعي الماركسي وإنما كانت قراءته قراءة انطباعية لاتسنتد إلى أصول معرفية.
2-القهر والقمع الاجتماعيان:
إن الربط بين الظواهر الإبداعية الكبرى والوسط الاجتماعي الذي نشأت فيه، من المرتكزات الأساسية للقراءة الاجتماعية، اعتقاداً منها أن المجتمع لايقدم ببساطة أعمالاً إبداعية خالصة، ولكنه ينمي أدباً وأدباء يستخلصون أعمالهم ومهاراتهم الفنية ونظرتهم منه، وبذلك تؤكد على العلاقة المنسجمة بين الأدب والمعتقدات السياسية السائدة فيه، إيماناً منها أن الأدب انعكاس للحس الاجتماعي بكل أبعاده وخلفياته الفكرية والسياسية.
ولعل المؤثر السياسي من أهم المؤثرات الاجتماعية التي كان لها دور أساس في بلورة الرؤية المعرفية التي تكون القاعدة الأساسية لتشكيل الظواهر للمبدعات المتميزة. والقهر والقمع الاجتماعيان كانا من أبرز العوامل السياسية التي أسهمت في تشكيل الرؤية المعرفية للأعمال الإبداعية الكبرى عبر الحضارات الإنسانية، باعتبار أن الحس المأساوي من المصادر الأساسية للإبداع الأدبي، وأن هذا الحس في غالبيته شكل من أشكال التعبير عن القهر والقمع السياسيين، في تاريخ الحضارات الإنسانية.
إن معيار القهر والقمع كان الأساس لقراءة "يوسف اليوسف" حيث (13) "غدا المثال الأخلاقي في العصر الأموي أداة في خدمة الاستبداد الملكي الخالع للأفراد والساحق لهم تحت وطأة آلة الدولة، ولهذا راح الأفراد يلتزمون بالمثال ويطالبون بحقوقهم العشقية في آن معاً، فكانت العذرية أي النقاء العشقي والانقهار أم الحضر، ومن هنا كان القهر هو العنصر الأول الذي تتأسس عليه عظمة الشعر العذري ومزاياه الوجدانية، وبالتالي فإن القهر هو المعيار الأول لتقدم ذلك الشعر، وربما لنقد التراث الشعري كله" فالاستبداد الملكي في نظر "يوسف اليوسف" الساحق للفرد هو الدافع الأساسي للحس التفجعي الذي اتسم به الخطاب العذري.
إن قراءة "يوسف اليوسف" تجنح للغلو عندما تجعل من القهر بكل أبعاده أساساً لقراءة الظاهرة العذرية، وتعده معياراً عاماً لقراءة كل التراث الشعري العربي وهو حكم يحمل مثالب كثيرة، تجعل من الحضارة العربية الإسلامية حضارة قمعية قهرية للفرد في كل المستويات.
ولعل هذا التوجه الذي رسمه "يوسف اليوسف" في قراءته للظاهرة العذرية، يرجع في أساسه للمرجعية التاريخية التي تجعل من الفترة الأموية فترة استبدادية قهرية في جانبها السياسي والاجتماعي، وهي مرجعية تاريخية كان الأساس في تصويرها الصراع السياسي الذي كانت تدور رحاه في دواليب الحكم الأموي، والتشويهات التي ألحقها خصوم الأمويين وخاصة الشيعة -بالتاريخ الأموي "فإنه لما قوى ملك بني أمية مرة أخرى بالشام، جاء "الحجاج بن يوسف الثقفي" وحاصر مكة، وضرب الكعبة بالمنجنيق، وقتل "ابن الزبير" ودخل البيت للحرم، وهذا مايثير المسلمين لما لابن الزبير من فضل، وما للحرام من حرمة، وما للكعبة من قدسية، ومع هذا فإن هذه الحادثة تبقى دون فاجعة كربلاء، من حيث التسجيل وإثارة المسلمين، إذا سجلت كل منهما بأسلوب. الأمر الذي يوضح الأيدي التي سجلت التاريخ لهذه المدة من الزمن أو ذلك العهد من العصر الإسلامي. لقد استغل خصوم "بني أمية" هذه الأحداث التي وقعت في عهدهم، واستفادوا من بعض الحوادث التي سبقت عصرهم فعملوا على تشويه التاريخ بشكل عام"(14). | |
|
| |
هبة الله الادارة
نقاط : 13559
| موضوع: رد: الشعر العذري في ضوء النقد العربي الحديث الأربعاء أبريل 01, 2009 9:53 am | |
| فالحرمان لم يكن حرماناً شبقياً كما ذهب إلى ذلك "يوسف اليوسف"، وإنّما هو حرمان حضاري يتعدى محدودية النظرة الشبقية إلى النظرة الشمولية، وتلك الميزة الأساسية التي أهلت العذرية لأن تكون ظاهرة إبداعية ذات مدلول إنساني، يعبر عن الحرمان بهذا المفهوم تعبيراً شاملاً.
فالعذرية بهذا المفهوم تجسيد للصراع داخل المجتمع الأموي من خلال صورة الحرمان التي انعكست بصورة عامة في صورة المرأة. لذلك "يرى عدد من علماء النظرة السوسيولوجية أنّ الصراع بمفهومه الواسع يجب أن يكون سبباً للتعبير الاجتماعي، وتنطلق هذه النظرة من منطلق أنّه لو كان هناك إجماع أو اتفاق في المجتمع، ولو أنّ القطاعات المختلفة له كانت متكاملة فإنّ الحاجة بالتالي إلى التغيير تكاد تكون ضئيلة، ومن ثمّ فإنّه لابد من وجود صراع بين مختلف قطاعات المجتمع أو طبقاته أو بين مختلف الأجزاء المتنوعة المكونة للأنساق الثقافية والاجتماعية، لابد من وجود ذلك الصراع حتى يحدث التغير"(24)، فالتعبير عن الحرمان قد جسد ذلك الصراع المحتدم الذي كان يصطرخ داخل المجتمع الأموي، فبقدر ماكان هذا الصراع عامل بناء داخل المجتمع الأموي. إلاّ أنّه بدأ يتجلى سلبياً في الذات العربية الإسلامية من خلال عدم تحويل هذا الصراع لما يخدم المجتمع ذاته, لأننا لا ينبغي أن ننظر نظرة سلبية إلى هذا الصراع. فلولاه لما تقدمت المجتمعات، وهو ماكان يطمح إلى تحقيقه المجتمع العربي.
فالعذري عندما عبر عن حرمانه كان يعبر عن موقفه من الواقع الاجتماعي، وبالتالي كان يحاول أن يسهم في بناء المجتمع العربي الإسلامي على نحو يلبي طموحاته، وهذا مالم يدركه "يوسف اليوسف" الذي عدّ العذرية استسلاماً وتنازلاً عن الذات والهوية "لأنّ هذه الرضوخية المعبرة عن القبول الانصياعي هي من نتاج تعمق حس القهر الذي يثمر الحظر التاريخي المفروض على الروح، سواء أكان طوعياً أم قسرياً. مثل هذه الحالة الاستسلامية المتنازلة عن الذات، والتي تعكس حداً من حدود أزمة الهوية، قد نجدها على نحو سوي في بعض الأحيان"(25)، وهي قراءة تركز على الجانب الاستسلامي في العذرية، ولا تدرك ذلك الطموح الذي تسجد في الصراع بشقيه الداخلي والخارجي، وكله من أجل بناء المجتمع بناء عادلاً.
فالإقصاء النابع عن القهر والقمع هو العامل الاجتماعي الرئيس عند "يوسف اليوسف" في إفراز الخط العذري في العصر الأموي "فلفظة "ناي" الشديدة التواتر في الشعر العربي القديم، ينبغي أنّ تفسر تفسيراً كأنه معادل اجتماعي للإقصاء، وهذه اللفظة الأخيرة من معجم العذريين أنفسهم"(26)، فالإقصاء السياسي والاجتماعي هو الذي يكرس فكرة التعويض، بوصفها دافعاً أساسياً في تشكيل الفضاء الشعري للعذرية.
إنّ فكرة التعويض التي أشرنا إليها لا يطرحها "يوسف اليوسف" من زاوية اجتماعية خالصة، بل من زاوية اجتماعية وسياسية، لذلك نجدها قد جنحت إلى الخيال الذي يقوم مقام التعويض الدفاعي "وكل هذا يؤكد أن الخيال قطاع لا يمكن للقهر أن يقهره، فهو يواظب على صيانة حريته تجاه الردع، ويحتضن جملة الصور المحرمة ويخصبها فيثبت فيها الحياة، وهو يحتضن جملة الصور المحرمة كافة ويجعل منها ممارسات وهمية. وبذلك يقوم بوظيفة تعويضية يحقق التطهير من خلالها، الشيء الذي يجعل منها آلية دفاعية جبارة. وهذا يعني أن الوظيفة الكبرى للمخيلة هي صيانة التماسك الداخلي للذات"_(27)، فالخيال يستمد قوته مما ينطوي عليه من فعالية لا غناء عنها في منجزات الإنسان الإبداعية عبر التاريخ.
فالوعي التاريخي عندالإنسان هو الذي يجعله يوظف خياله للتعبير عن كبرى اهتماماته في أنساق فنية وإبداعية تحمل بصمات الوعي التاريخي باللغة التي تتخذ الخيال مطية للمزج بين الواقع واللا واقع، وبين الحقيقة والمتوهم، لأن "سياق العلاقات بين الخيال والذاكرة يرى أرسطو أنّهما يتصلان بجزء واحد من النفس، وأنّ للأشياء التي هي موضوعات جوهرية للذاكرة، هي نفسها موضوعات الخيال"(28)، والتي ستتحول إلى مادة فنية خصبة.
إنّ التعويض عند العذري في منظور "يوسف اليوسف" يتجسد من خلال عدة أدوات، ويعدّ "الطيف" من أبرز هذه الأدوات الفنية التي وظفها العذري من أجل تحقيق التعويض الفني والنفسي للمردوع الاجتماعي "وهذا يعني أنّ الطيف وهو الطيف وهو الوعي المردوع، ينطوي على رفض العقل لجهار الردع الخارجي من هنا كان "الطيف" إفرازاً خيالياً للقبول بالقيم، ولكنه في الوقت نفسه موقف استنكافي من لا عقلانية الحؤول والكبح أي موقف عقلاني يتخذ وجه اللا عقلانية الوافد من الخارج الاجتماعي"(29). إنه واقع اجتماعي قهري بلغ حد التطرف والكبح حيث دفع العذري إلى الاستعانة بالطيف كأداة فنية للتعبير عن المكبوت، وهي نظرة تصور الواقع الأموي تصويراً قهرياً في مستوياته الاجتماعية والسياسية، وتجعل من العذرية حركة رفضية لكل القيم التي كانت تشكل الرؤية الأموية في جميع مستوياتها.
فقراءة "يوسف اليوسف" بقدر ما وقفت على جانب أساسي من الدوافع الاجتماعية للعذرية. نجدها قد تطرفت في تفسيرالعذرية على أساس أنها رفض لكل ما كان أموياً، وهي قراءة سقطت في التحريفات التي ألحقها التدوين المشوه للتاريخ الأموي بخاصة في العصر العباسي، ومن الخصوم السياسيين للأمويين.
إن القراءة المادية للعذرية هي التي جعلت من "الطيف" أداة تعويضية للمكبوتات الاجتماعية. فالطيف "هو محاولة لاسترداد الفردوس المفقود، وبالتالي فهو شكل من أشكال مقاومة الانصياع، أو لنقل هو مظهر لا شعوري من مظاهر إدانة الزمن المسروق، إنه احتجاج مقنع ضد البرهة المفرغة ومحاولة تعويضية لخلق برهة الفرح المنهوبة، ولذا فهو النتاج الضروري لنظام الرقابة" | |
|
| |
هبة الله الادارة
نقاط : 13559
| موضوع: رد: الشعر العذري في ضوء النقد العربي الحديث الأربعاء أبريل 01, 2009 9:54 am | |
| -------------------------------------------------------------------------------- (30)، وفي هذا الاتجاه يمضي.
إن تأويل "الطيف" تأويلاً اجتماعياً خالصاً، يجعل القراءة تحمل بعداً فنياً لم يكن العذري يريدها له، ويجعل من اللغة العذرية لغة ذات أبعاد مادية مجردة من الجمالية الفنية، كما يُحمل العذرية بعداً جمعياً للتاريخ الأموي، ويجعل القراءة تسقط في التعتيم القهري، وكأنه سمة مطلقة للمجتمع الأموي، على الرغم من أنه يمكن أن يكون مظهراً جزئياً هامشياً داخل المجتمع. فليس من الموضوعية تعميمه على التاريخ الأموي في كليته. وتلك قراءة تحمل من التعميمية مايجعلها تنحرف في قراءتها للعذرية كظاهرة فنية في العصر الأموي.
إن التعامل مع فكرة القمع من هذا المنظور تنطلق من بيان أهمية المجتمع في عملية الإبداع معتبرة الإبداع ضرباً من ضروب الإنتاج الاجتماعي، وليس إنتاجاً فردياً. وأنه يتأثر بالأوضاع الاجتماعية والتاريخية، ويخضع لظروفه. وبذلك تصبح جماليته شيئاً تاريخياً محلياً.
فالعذرية -إذن- في نظر القراءة الاجتماعية تعبير عن لا شعور جمعي، بوصف هذا الأخير حصيلة نهائية للوعي الاجتماعي، وأنه "ينحدر من السابق إلى اللاحق، ويكون متحداً لدى الأفراد جميعاً بمعنى أنه يورث ويكون محمّلاً بخلفية اجتماعية وتاريخية تمتد في التراجع إلى البدايات الأولى للإنسان، وسوف تستمر في التقدم نحو الأجيال القادمة"(30). ومن ثمّ فالإبداع مطبوع بطابع سوسيولوجي تاريخي.
إنّ القراءة الاجتماعية للظاهرة العذرية مبنية على الأسس السابقة الذكر، هي أسس مبنية على نظرية "يونغ" حول اللاشعور الجمعي، والتي حاول من خلالها تفسير عملية الإبداع. "فيوسف اليوسف" يرى (32): "أنّ مقولة القهر هي المعيار الأول لنقد معظم التراث الشعري القديم". فالقهر لا شعور جمعي ترسب في النفسية العربية، وبذلك شكل بعداً اجتماعياً في التراث الشعوري العربي، وبخاصة العذرية.
لكن الإشكال الذي يواجه القراءة الاجتماعية في نظرتها إلى الإبداع هو لئن كان لا شعورياً مشبعاً بالروح الاجتماعية والتاريخية. فلماذا يتميز المبدع عن سائر الناس بالإبداع الفني؟ وأين هي ذاتية المبدع، وأصالته، وتفرده إن كان صدى للاشعور الجمعي؟...
فهذه الظاهرة تعبير عن ذاتية عذرية أصيلة تعيش العشق بمفهوم خاص نابع من رؤية متميزة للحب، وهي تجسيد لتجربة نوعية، قبل أن تكون تجسيداً لهمٍّ اجتماعي، وإن كنا لاننفي الدور الاجتماعي والبعدالتاريخي في بلورتها وتشكيلها. | |
|
| |
هبة الله الادارة
نقاط : 13559
| موضوع: رد: الشعر العذري في ضوء النقد العربي الحديث الأربعاء أبريل 01, 2009 9:54 am | |
| - التدجين الاجتماعي:
إن ربط الظاهرة العذرية بعامل القمع والقهر هو الذي حذا “يوسف اليوسف” إلى اعتبارها ظاهرة تعبر عن التدجين الاجتماعي الذي وجدت فيه النفس العذرية نفسها في الفترة الأموية، فوطأة المجتمع بكل قيمة على روح الفرد، هي التي فرضت عليه الاستسلام والرضوخ للمجتمع كقوة منظمة لنزوات النفس ومتطلباتها الغريزية.
فالتدجين الاجتماعي الذي هيمن على الظاهرة العذرية، انطلق من فكرة أن الإبداع بما فيه النص العذري -خاصة عند المجنون- نتاج "لشدة الصراع بين مبدأ اللذة ومبدأ الواقع، بين إرواء الدافع (حتى وإن كان عذرياً، مصعداً) وبين إخماده قسرا"(33). فالقسرية التي تمارس على الفرد روح التسلط والتدجين التي يعاني منها، جسّدها التاريخ الإنساني تجسيداً واضحاً من خلال ذلك الصراع الأزلي الذي يحتدم في النفس البشرية. فالقيم الاجتماعية تغرس في الفرد روح التنازل عن الهوية الأصلية، وتعمل على استبدالها بهوية مصطنعة تراعي الآخر وتعمل من أجل إرضاء رغباته وإشباع حاجاته.
إن رضوخ الفرد لرؤية المجتمع وآلياته هو الهدف الأول الذي يعمل المجتمع من أجل تحقيقه، لأن المجتمع يرى في الفرد الأساس الأول لبناء الحضارة التي لا تتحقق شروطها إلاّ إذا انصاع الفرد لخدمة أهدافها الكبرى، لذلك يعمد المجتمع من أجل توجيه طاقة الفرد إلى الخارج، إلى صنع حركة التاريخ، التاريخ الذي لا يتحقق على الصعيد الحضاري، إلاّ إذا تنازل الفرد عن غرائزه، لذلك عملت الحضارات على إنشاء مبدأ التحريم، كمبدأ اجتماعي يسعى إلى الوقوف أمام غرائز الفرد لتنظيمها والحد من هيمنتها على حساب نفس الفرد وروحه. وهذا ماجعل "يوسف اليوسف" يقتنع (34) "قناعة تامة بأن من بين الأسباب التي دفعت بالحضارات إلى ترذيل الحب وشجبه هو كون الحب "عطالة عن التمييز"، وقعوداً عن النشاط والفاعلية"، النشاط والفاعلية التي يعمل كل مجتمع من أجل المحافظة عليها لدى الفرد حتى يكون عنصر بناء داخل المجتمع.
فالرضوخ تعبير عن القبول والانصياع، الذي يعده "يوسف اليوسف" نتاجاً(35): "لتعمق حسن القهر الذي يثمر الحظر التاريخي المفروض على الروح، سواء كان طوعياً أم قسرياً، مثل هذه الحالة الاستسلامية المتنازلة عن الذات والتي تعكس حداً ما من حدود أزمة الهوية"، هي التي أفرزت الظاهرة العذرية في التاريخ العربي الإسلامي، فالفرد المسلم داخل المجتمع ممزق بين قبول الواقع بقيمه التي آمن بها وأصبحت تطغى على وعيه و شعوره، وبين مبدأ اللذة الذي يشكل جوهر النفس الإنسانية في أعماقها الغرائزية. فالعذري تعبير عن عمق الشرخ الذي أحدثته "الرقابة الكابحة إذ هي العامل المشوه لأرواح الشعراء العذريين الذين صدقوا واقعهم وأرواحهم، وقلما نجد الشاعر العذري عاجزاً عن إدراك سر المكابدة التي يعيشها"(36)، مكابدة عبر عنها بحس مأساوي ممزوج بعاطفة مرهفة، وهذه النظرة المأساوية للحياة في كليتها نابعة من عامل الحؤول، الذي أضفى على الحياة نظرة مأساوية. لذا نجد العذري برهافة حسه وامتلاك العشق لوجدانه جعل منه إنساناً لا يرى جمالية الحياة إلا في ملاقاة الحبيب، فوطأة المجتمع وقيمه، وعامل التدجين الذي عمل المجتمع من أجل تعميقه في نفس الفرد هي التي حذت بالعذري إلى امتلاك حس التمرد على القيم الاجتماعية، وصرف نظره عن ضرورة التاريخ، وإعلانه صراحة أن لا دخل له في صنع تاريخ لا يؤمن بجوهر الإنسان، ولا يعترف له بحقوقه الأزلية في العشق، وتلبية مطالب الذات، يقول جميل: (37).
يَقُولُونَ جَاهِدْ يا جَمِيلُ بِغَزْوَةٍ
وَ أَيُّ جِهَادٍ غَيْرَهُنَّ أُرِيدُ
لِكُلِّ حَدِيثٍ بَيْنَهُنَّ بَشَاشَةٌ
وَكُلُّ قَتِيلٍ، عِنْدَهُنَّ شَهِيدُ
فالعذرية عند "يوسف اليوسف" ظاهرة تجسّد من خلالها عمق الشرخ الذي أحدثته الرقابة والقهر الاجتماعيان، وتعبير عن التدجين الذي وصلت إليه النفس في أعماقها، فلقد بلغ التخوف من الإدانة بالإثم حداً بات معه العاشق العذري مقتنعاً بأن التلوث تدمير لامتلاء البرهة العشقية، وهذا ما عبر عنه أحد الشعراء بقوله: "إذا نكح الحب فسد"، الأمر الذي يتضمّن أنّ كل اتصال جسدي -حتى لو عبر الزواج- هو خنق للفرح العشقي. وهذا يعني أنّ الشبقية لم تعد للنزوع اللذي، بل أصبحت الروحانية هي السبيل الوحيد إلى التلذذ، وبذلك يكون الروح الاجتماعي قد أرغم الفرد على التنازل عن الكثير من عناصر هويته، وجره إلى التدجين الذي يريد"(38)، وهكذا أضحى التدجين جوهر انصياع طوعي لحركة التاريخ وللقيم الاجتماعية في العصر الأموي، فأصبح العذري لا يعبر عن أعماق نفسه وإنّما يعبر عن لسان اللاشعور الجمعي الذي غرسته فيه القيم الاجتماعية فشوهت روحه وجعلته يعبر عن الذات الجماعية بدل التعبير عن الذات الفردية.
تنطلق هذه المقاربة من أنّ "الأنا" قوة من القوى التي توجد في مجال سلوكنا كما أنّ "النحن" قوة من بين قوى هذا المجال، تضم "الأنا" بحيث يصبح جزءاً من الكل، ولا يقوم كقوة مستقلة تفصلها عن سائر الأنوات الأخرى حدود واضحة، "فالفرد يعيش في الشعور بالكل، ويجد الأهداف الرئيسية لإرادته ماثلة في ذلك الشعور"(39)، فهو داخل "النحن" يشعر ويفكر ويعمل لا باعتباره "الأنا" في مقابل أنوات أخرى، بل كعضو في جماعة فنجد أن عمله وفكره يعيش للآخر.
لكن قراءة "يوسف اليوسف" تواجه ذلك السؤال الذي يطرحه كل من يتأمل الظاهرة العذرية... هل كان الفرد داخل المجتمع العربي الإسلامي في الفترة الأموية مؤمناً إيماناً عميقاً بأفعاله؟ أم كان مرغماً على العمل وبذل الجهد لبناء حضارة وصنع تاريخ هو غريب عنه في الجوهر؟
إنّ القراءة المتفحصة للتاريخ الإسلامي في مهده الأول، ومع الرعيل الأول يدرك أن الفرد كان مؤمناً إيماناً عميقاً بما يفعل، وأنّ حركته داخل المجتمع كانت نابعة عن نفس صافية لا تشوبها شائبة مادية ولا غرائزية، بل كان يشعر بأنّ صنع التاريخ من مسؤولياته الخاصة.
إن التفسير المادي للتاريخ الإسلامي يحمل مغالطات كبرى، تجعل القارئ يستنبط أحكاماً، ويخلص إلى نتائج مبنية على مقدمات غير عارفة معرفة دقيقة بنفسية الفرد العربي المسلم، والتحولات الكبرى التي أحدثها الإسلام في نفسية العربي. إذ نقله من رؤيته المادية المرتبطة بالأرض ونزواتها إلى إنسان علا بفكره وسما بروحه، فجعلها مرتبطة بالسماء، بعدما كانت مرتبطة بالأرض. كما ندرك أنّ هذه المقاربة تقرأ التاريخ الإسلامي انطلاقاً من جزئيته لا من كليته، فهل الظاهرة العذرية بما تحمله من جزئية في حركة التاريخ الإسلامي يمكن أن نجعل منها أساساً لأحكام تعميمية؟... فالعذريون زمرة منعزلة في الزمان والمكان داخل المجتمع الإسلامي، ولم يكن لهم أي تأثير في حركة التاريخ الإسلامي في شموليته.
وهذا ما حاول الوقوف عنده الطاهر لبيب في دراسته "سوسيولوجيا الغزل العربي، الغزل العذري نموذجاً"- خاصة في الفصل الذي خصصه الحديث عن الزمرة العذرية، والذي سنقف عنده مطولاً في الفصل القادم، لأنها دراسة تجعل من المنهج البنيوي التكويني "للوسيان غولدمان" أداة إجرائية في مقاربة الظاهرة العذرية، لذلك فقراءة التاريخ الإسلامي من خلال العذرية يحمل مثالب كبرى، يجب على كل قراءة جادة أن تتفطن إليها، حتى لا تقع في الأحكام التعميمية.
إنّ جدلية التأثير والتأثر بين الواقع الاجتماعي والعمل الأدبي، والقول بأنّ العمل الأدبي مرآة عاكسة للواقع بأمانة مسألة تحتاج إلى إعادة نظر "لأن الآثار الكبرى في الآداب العالمية ترسم بدقة وعناية السمات الفكرية لأشخاصها" (40). وبالتالي فهي نقض للرأي الذي يرى أنّ الادب يمثل نظاماً اجتماعياً ينطوي على نوع من العمل الجمعي، فبقدر ما ينطوي على البعد الجمعي والعناصر الموضوعية، فإنّه يحمل أبعاداً ذاتية فردية يصعب على القارئ الوقوف عندها، لأنها خاصة بالمبدع كفرد متميز، فالتفسير الذي يخضع الأعمال الفنية الكبرى للعامل الاجتماعي، ويعتبره كفيلاً بتفسير جميع الأبعاد التي تحملها الظاهرة الإبداعية، تفسير مجحف في حق الظواهر الإبداعية، ومقص لسياقاتها المتشبعة ولجماليتها الفنية.
إنّ القراءة الاجتماعية التي تركز على عامل التدجين كما ذهب إلى ذلك "يوسف اليوسف" بقدر ما تثير أهمية البعد الاجتماعي في تشكيل الرؤية الفنية والمعرفية للظاهرة الإبداعية الكبرى، فهي تحاول إسقاط السياقات الاجتماعية لمسألة القهر والردع والتحريم، من أجل تنظيم أفعال الإنسان في جانبها الغرائزي مما يجعل هذه القيم تعرقل الانطلاق الحر للغرائز حتى تلبي احتياجاتها الجسدية في إطار شبقية مطلقة، وهو تناقض بين الحاجة النفسية والردع الاجتماعي.
يحاول هذا التصور أن يعرب عن رفض التدجين الذي يحمل في أساسه صرخة عالية في وجه المجتمع، وقيمه القائمة على القهر، مما عزز لدى الفرد مبدأ الرفض للاشعوري تجاه القيم الاجتماعية التي يريد التخلص من جبروتها وتسلطها، والانطلاق بحرية لتحقيق رغباته الجسدية وهي قراءة تنظر إلى التاريخ الإنساني بعامة والتاريخ الإسلامي بخاصة نظرة قهرية، استبدادية، تدعو إلى الحرية المطلقةٍ لأفعال الإنسان، وكأنها دعوة إلى النظرة الحيوانية من خلال الهجوم على القيم الاجتماعية المنظمة لغرائز الفرد.
والذي نذهب إليه، ولم تدركه قراءة "يوسف اليوسف": أنّ الحاجة عندما تشتد تخلق حالة من التوتر والهيجان لدى الفرد، ولابد للمجتمع أن يعمل من أجل خفض هذا التوتر بواسطة غرس المبادئ والقيم الخلقية في نفسية الفرد، وبذلك نجد أنّ الحاجة الملحة للإشباع سوف تصطدم بالواقع، مما يؤدي إلى قيام صراع بين مبدأ اللذة ومبدأ الواقع في داخل الفرد. ويتمثل الواقع المادي في مقاومة العالم الخارجي لرغبات الفرد وغرائزه. أم الواقع المعنوي، فيتمثل في القيم التي يفرضها المجتمع، والتي تشكل جملة النواهي والأوامر الاجتماعية. فالمجتمع لا يهدف إلى قمع الفرد وتدجينه وإنما يهدف إلى دمجه داخل الإطار الاجتماعي حتى يكون فرداً سوياً نافعاً، وهو ما تنتبه إليه قراءة "يوسف اليوسف" أو حاولت تجاهله. | |
|
| |
هبة الله الادارة
نقاط : 13559
| موضوع: رد: الشعر العذري في ضوء النقد العربي الحديث الأربعاء أبريل 01, 2009 9:55 am | |
| -------------------------------------------------------------------------------- 4 - الاحتجاج:
تركز القراءة الاجتماعية في تعاملها مع الظواهر الأدبية على الأثر الإبداعي نفسه، وعلاقته بالواقع الذي يعرضه، هذا الواقع المتكون في جوهره من حركة التاريخ، بكل ما تحمله هذه الحركة من تفاعلات وتناقضات "فالإبداع انعكاس، ولكنه ليس انعكاساً سلبياً، بل هو إسهام في التعرف على الواقع، وأداة للم شعثه وسلاح لتغييره، إنّ الواقع يبدو في الإبداع أكثر غنى من حقيقته الواقعة، لأن الإبداع لا يقف عند الواقع في معطياته الخارجية المباشرة، وإنّما يتخطى هذه المعطيات إلى إدراك جديدها، فيبدو الواقع صورة جديدة له: صورته الفنية، وهذه الصورة الفنية أكثر كمالاً من أصلها، لأنها تلمّ ما بدا مبعثراً من عناصره، وتوضح ما بدا غامضاً من مغزاه"(41). فتعبر عنه بلغة تكون في أغلبها ذات أبعاد رمزية، تحمل في دلالتها الرؤية التي يرى من خلالها المبدع واقعه الذي تحاول تحريره من المباشر الذي يقف عند حد المرئي والملموس، فيقع الشوق إلى الاكتمال، والحلم بما لم يقع، واستشراف مستقبل آت.
إنّ استشراف المستقبل رؤية أساسية في الإبداع الكبرى، وذلك ما نلمسه في الظاهرة العذرية، لكن هذه الرؤية المستقبلية لا يمكن أن تتحقق إلا إذا كان الإبداع يحمل حس التمرد على الواقع، وبعداً احتجاجياً يهدف إلى العمل من أجل تغيير الواقع، ونقد معطياته ومفاهيمه.
وكما أسلفنا الذكر فإن قراءة "يوسف اليوسف" انتهت إلى أنّ العذرية تحمل بعداً احتجاجياً متحمساً ومتناقضاً على دنيا الواقع الأموي، لذلك "راح القهر يعبر عن ذاته دون أن يلجأ إلى مثل هذه الظواهر -الطيف والنوستالجيا- ولعل هذا الشعور من أبرز السمات المهيمنة على الغزل العذري، بل وربما على الشعور العربي كله. وهو لا يتبدى إلا من حيث هو شعر مأزوم، من جهة ومفجوع من جهة أخرى، الشيء الذي لا يعني سوى أنّ الأفراد في حضارة الحظر والتحريم، يشعرون بأنّهم لا حول لهم في المجابهة إلا غير نبش حس الفجيعة الذي ينطوي على احتجاجية هائلة"(42). فهو احتجاج كان يقوم على الحظر والقهر منذ عهوده الأولى في المجتمع العربي "فالشاعر العربي منذ امرئ القيس وحتى السياب، بل منذ بابل حتى اليوم، لا يتعامل مع شيء بقدر تعامله مع النواح والدموع، الشيء الذي يؤسس ظاهرة كبرى في الثقافة العربية، ويحيل على واقع جائر. إنّ ما يوصل الشعر العذري هو بعده الاجتماعتي، هو احتجاجه ضد الحظر"(43)، وهذا تعميم فيه مبالغة لا يؤيدها أي منطق.
وهكذا تنتهي هذه القراءة إلى السقوط في الأحكام العامة والمطلقة على تاريخ الشعر العربي منذ مراحله الأولى، فالسمة المأساوية للشعر العربي، والتي كانت تعبر عن التمزق الذاتي للفرد العربي، هو المعيار الأساسي الذي انطلقت منه قراءة "يوسف اليوسف"، لتضفي في الأخير على القصيدة العربية مسحة مأساوية، وتردها إلى إحساس العربي بأنه يعيش وحيداً في مواجهة العالم الخارجي، ويشعر بأن كيانه ناقص غير مكتمل، وأنّ مكانته الاجتماعية لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال الآخر، الذي يمثل بالنسبة إليه حاجزاً في وجه فرديته. وأنّ الذات العذرية ماهي إلا حلقة من بين الحلقات المتعاقبة في تاريخ المأساة العربية، وصراعها ضد الحظر المفروض على الذات، فالتاريخ العربي جحيم للذات العربية، كما تذهب إلى ذلك هذه المقاربة، أو تخلص إليه على الأصح.
وهي قراءة تقف على إحدى السمات الأساسية للإبداعات الكبرى، فالمسحة المأساوية حقيقة فنية ملازمة للشعر العربي بعامة والظاهرة العذرية بخاصة، وترجع في أصولها إلى أنّ "المأساة الإنسانية هي صراع غير متكافئ بين الإنسان والطبيعة، وبين الإنسان والمجتمع، ولما كان هذا الصراع هو السمة الأساسية لتاريخ البشر، فإنّ الحس المأساوي هو اللون الغالب على بقية أحاسيسهم، ولقد ظل الفن منذ أول العصور محاولة الإنسان البدائية لتجاوز المأساة، بالتعبير عنها ذاتياً، يحيط بجملة الظروف الصانعة لها. لذلك كانت المأساة: هي فن الإنسان الأول"(44)، ولذلك ينتهي "يوسف اليوسف" إلى أنّ: "الغزل العذري الذي تتبدى فيه الإدانة من خلال إبراز الوجع العشقي بالدرجة الأولى، فهو الجذر المضمر لكل فكر احتجاجي في التراث العربي"(45)، فالاحتجاج الذي يعبر عن موقف الرفض، واكب الذات العربية في تاريخها الطويل. فالعذرية مواجهة الفرد للمجتمع، وحيداً دون وسيط، غريباً بين الغرباء "الأنا" في مواجهة "النحن" الهائلة، وذلك ما أدى إلى تقوية الإحساس بالذات والشعور بالحيرة والضياع. وقد أفضى ذلك بالعذري إلى التشبع بفكر الإدانة والاحتجاج، وهي شفرة سياسية واجتماعية أدرك مضمونها الطرف الآخر، "النحن" لذلك يقرر "يوسف اليوسف" أنه: "ليس صدفة أن يهدر والي المدينة دم جميل بثينة العاشق النقي المكتفي بامرأة واحدة يحبها على غير ريبة، وأن يترك الماجن عمر بن أبي ربيعة يتعرض حتى لنساء الأشراف في الحج، وحول أقدس مكان يقدسه المسلمون، لقد كانت السلطة الامبراطورية تدرك البعدالاحتجاجي لشعر العذريين"(46). والملاحظ أن "يوسف اليوسف" لا تهمه -هنا- ما إذا كانت هذه الواقعة التاريخية حقيقية أم غير ذلك، ثم حتّى لو سلمنا بحقيقتها: ألا يمكن اعتبار ذلك حادثة منعزلة واستثنائية يجب التحفظ منها والابتعاد عن جعلها مصدراً لتعميم الأحكام؟...
فالبعد الاحتجاجي الذي فرضه الواقع الأموي، من خلال إقصاء الذات الفردية وتهميشها، بغية تسخيرها لخدمة حركة التاريخ دون الالتفات إلى تلبية متطلباتها الغريمية يرى فيه الباعث الأساسي للحس المأساوي الذي تحمله العذرية. وهي قراءة بقدر ما نجدها تقف على بعض سمات العذرية الأساسية، إلا أنّها تبالغ في تعميم النظرة الشبقية على الذات العذرية، وتفسرها تفسيراً فرويدياً انطلاقاً من الصراع بين مبدأ اللذة، ومبدأ الواقع. وبذلك تتجاهل المكونات الخاصة للذات المسلمة خاصة في جوانبها الروحية. وتحاول أن تضفي عليها نزعة مادية بحتة، هي بعيدة عنها كل البعد. لأن الذات العذرية في نظر "يوسف اليوسف"(47): "أول ما تعني أنّ التنازع الطوعي أمام القيم، أو قهر الذات الاختياري- سواء أكان عذرياً أم صوفياً- لم يكن بريئاً من كمية هائلة من الرفض تستبطنه وتلتغم في خلاياه، فالشاعر الذي يتغنى بالنقاء العشقي، ويصر مع ذلك على التشبث بطيف المرأة المحظورة إنما هو يلمح بصورة لاشعورية إلى وطأة الردع، وإلى غياب عنصر أساسي في العشق السوي أعني الجنسية الطليقة"، وهذا ما يجعلنا ندرك أنّ قراءة "يوسف اليوسف" تشكك في نقاء الحب العذري، وتصف عشقه بالمراءاة، وتعففه ونقاءه بالزيف، وتصر على أنّ تسامي العذري في حبه، ما هو في الحقيقة إلا توجع عشقي يخفي وراء مادية نهمة، أوقفتها متطلبات روح التاريخ والقهر الاجتماعي.
إنّ الاحتجاج قد نمّى لدى الشعراء العذريين الإحساس بالغربة، وهي سمة مشتركة بينهم. وهذا ما لم يقف عنده "يوسف اليوسف" فعجز العذري عن الملاءمة بين ذاته وبين الواقع الاجتماعي المحيط به، هو الذي أضفى على شعره طابعاً احتجاجياً، والذي بلغ إلى حد الثورة، وأن غربته عن مجتمعه وعن ذاته بلغت ذروة التعبير عنها في النصوص الإبداعية، فصورت ما أصبحت عليه "الأنا" الشاعرة من وحدة وعزلة، وهي التي تقف في مواجهة حركة التاريخ الذي لم يكن يستجيب لتطلعات العذري.
فالإحساس بالوحدة والغربة عند العذري قوى لديه النزوع نحو الموت والانتحار لأن "المجتمعات القائمة على أساس "النحن" مجتمعات ذات خط من الثبات، وهي تحقق بالنسبة لأعضائها نوعاً من التوازن السيكولوجي يفقدونه إذا انفصلوا عنها، بل لقد تصبح من قوة التأثير بحيث يؤدي انفصال أحد أفرادها عنها إلى موته المحقق، ويبدو ذلك بوضوح عند المجتمعات البدائية حيث "الأنا" مندمج في القبلية لا يكاد يتيسر له أدنى استقلال، وعلى هذا الأساس يمكن تحقيق النتائج التي انتهى إليها "دور كايم" في بحثه في الانتحار حيث يقرر أنه كلما تخلخلت الروابط التي تربط الفرد بمجتمعه إزداد قرابة من الانتحار"(48)، وهذا مايلمس عند العذريين، وخصوصاً تلك الغربة النابعة بسبب انفصالهم عن مجتمعهم، وانتهاج نهج مخالف له في القيم والتفكير، أدى بهم إلى النزوع نحو التدمير، خاصة عند المجنون.
إنّ العذرية عند "يوسف اليوسف" ماهي إلا نتيجة قرارات انتحارية أفرزها الإحساس العميق بالغربة، ينضاف إلى ذلك خيبة الأمل التي أصيب بها الفرد الذي أحبطت أمانيه في تحقيق المجتمع الفاضل، الذي جاهد من أجله في عهد الخلفاء الراشدين، حيث لم يعد كما كان يحلم به، نتيجة انتقال الحكم من الشورى إلىالوراثة، أي من الحرية إلى الاستبداد، وهذا الانعطاف الخطير في تاريخ المجتمع الإسلامي، كان له الأثر السلبي والوخيم على نفسية المسلم في العصر الأموي.
إنّ الخلاصة التي وصلت إليها قراءة "يوسف اليوسف" ليست بالسمة التي انفردت بها العذرية دون غيرها من الحركات الإبداعية العالمية الأخرى، بل نجد أنّ الكثير من الحركات الإبداعية العالمية تحمل مثل هذا الاحتجاج من مثل الرومنسية التي كانت "حركة احتجاج. احتجاج متحمس ومتناقض مع دنيا الرأسمالية البرجوازية على دنيا الآمال الضائعة، وعلى التفاهة والتجهم اللذين تلتزمهما دنيا الأعمال والأرباح.. فالرومنسية في حدود وعي البرجوازية الصغيرة - هي أكمل تعبير في الفلسفة والآداب والفن عن تناقضات المجتمع الرأسمالي الناهض"(49)، لذلك حرصت على تصوير التجارب الأساسية للفرد، الذي يقف وحيداً في مواجهة العالم والمجتمع وقيمه، وما يقال عن الرومنسية يقال عن كبرى الحركات الإبداعية العالمية، كالانطباعية والطبيعية والعبثية "فالسمة المشتركة بين جميع الفنانين والكتاب المرموقين في العالم الإسلامي هي عجزهم عن الملائمة بين أنفسهم وبين الواقع الاجتماعي المحيط بهم، فالفن عندهم احتجاج ونقد وثورة"(50)، لأن المبدع أدرك أنّ حريته وامتلاء الحياة التي كان يمكن أن يستمتع بها قد سرقت منه، وأثار ذلك تحولاً عنيفاً لدى كل من لديه شيء من التطلع إلى الآفاق.
فالاحتجاج لدى العذري ضرب من الاحتجاج الذي يكون السمة الأساسية للمبدعات الكبرى، وهي سمة استطاع أن يقف عندها "يوسف اليوسف" مبرزاً بعدها التمردي بوصفه تمرداً، "يستند إلى رفض قاطع لتعد لا يطاق، وإلى يقين مبهم بوجود حق صالح،وبصورة أصح إلى اعتقاد المتمرد أنّ له حق في أن... فلابد للمتمرد من أن يكون مقروناً بشعور المرء بأنه على حق بصورة ما، وفي مجال ما"(51)، ولكن ليس إلى الحد الذي يحاول "يوسف اليوسف" أن يصور به العذرية تصويراً أقل مايمكن أن يقول فيه، أن فيه مبالغة كبيرة على الرغم من أنّ هناك جوانب إيجابية في تفسيره لهذه الظاهرة. | |
|
| |
هبة الله الادارة
نقاط : 13559
| موضوع: رد: الشعر العذري في ضوء النقد العربي الحديث الأربعاء أبريل 01, 2009 9:56 am | |
| 5 - هدم مؤسسة الزواج:
الزواج مؤسسة اجتماعية، سارت عليها كل المجتمعات حتى البدائية منها، وعملت من أجل الحفاظ عليها، حفاظاً على النوع. فحظيت باهتمام الأديان والتقاليد والأعراف منذ أقدم العصور. مما أضفى عليها صفة القداسة، التي يجب أن لا تنتهك، وكل من يسعى إلى تحطيم أركانها أو العمل من أجل النيل منها فهو فرد خارج عن النظم الاجتماعية، يجب الوقوف ضده ، والحيلولة دون هدفه.
والظاهرة العذرية من الظواهر الأدبية التي طرحت قضية الصدام مع مؤسسة الزواج، باعتبار أنّ جوهر العذرية قائم على علاقة الرجل بالمرأة بواسطة نمط من الحب، عرف بالحب العفيف.
ولئن تشبعت القراءات للظاهرة العذرية سواء كان ذلك من رؤية تاريخية أم نفسية أم اجتماعية، إننا نلقي إحدى هذه القراءات ذات الاتجاه الاجتماعي حاولت أن تربط هذه الظاهرة بمؤسسة الزواج، وتمثلت في مؤلف "جلال العظم" "في الحب والحب العذري" الذي سنقدمه هنا.
ينطلق "جلال العظم" في قراءته للظاهرة العذرية من أنّ جل القراءات خاصة التاريخية منها، تثبت صفة العفة والنقاء والطهارة مع الحرمان واليأس لدى الشعراء العذريين، وأنّ هذه الميزات أضحت وكأنها صفات ملازمة للعذرية، فلا يمكن التشكيك فيها، وهذا هو عين الخطأ في نظره.
فالغزل العذري "من خصائصه الأولية أنّه قائم على الزنا، وخرق فاضح لمؤسسة الزواج... فهو ضد مؤسسة الزواج وما تعنيه، وهو يبقي على نفسه بالرغم عنها، ويتحداها تحدياً مباشراً ومستمراً، ومع أنّ الحبر سال في الكلام عن عفة هذا الحب وطهارته ومثاليته، وكان العاشق العذري يزور عشيقته المتزوجة في عقر دارها، ويقضي الليالي مختبئاً عندها بالرغم من أنف زوجها وأهلها. ومن طرائف قصص هذا الحب أنّ الزوج كان يخرج دائماً وكأنه الشخصية الشريرة في القصة وتتم الأحداث دوماً على حساب شخصيته وكرامته"(52)، وهذا الرأي يبدو أنّ صاحبه يضعه في مرتبة المسلمات.
ويبني "جلال العظم" قراءته على جملة من الأسس أهمها: أنه "من المعروف أنّ العادات القبلية، وقيود الحياة الاجتماعية عند العرب، كانت تحرم الغزل والتشبيب بالبنات حتى أنه إذا عرفت القبيلة أنّ شخصاً عرض لذكر فتاة من فتياتها في حديثه أو شعره، حرموا عليها الزواج منه ومنعوه من رؤيتها أبد الدهر، وهنا نتساءل لماذا لم يكتم جميل حبه لبثينة، إن كان في الحقيقة يحبها، ويبغي الرباط المقدس بينه وبينها، ليقدم على خطبتها تماشياً مع الأعراف القبلية؟ عوضاً عن أن يفعل ذلك جميل، راح يشبب بها ويتغزل حتى اشتهر بها، واشتهرت به، فمنعا من الزواج ولم يعد باستطاعتها اللقاء إلا خلسة، لاشك أنّ جميل فعل كل ما في وسعه لعرقلة الوصول إلى "الرباط المقدس" مع بثينة، كما أنّ بثينة سلكت سلوكاً مشابهاً حين كانت تعتز بهيامه ونسبه بين أترابها، مما جعل أي علاقة طبيعية وفق العادات القبلية، بينهما مستحيلة"(53)، وهو المذهب نفسه الذي تبناه العقاد في دراسته لشخصية "جميل" إذ يتساءل "لم نسب بها - يعني جميل- وهو يعلم أنّ النسيب يحول بينهما وبين الزواج، كما جرت سنة البادية التي لاتخفى عليه؟ أغلبته النزعة الفنية فحجبت عنه الغاية من غرامه؟ أم هي نزوة أخرى من نزوات ضعف رأي ومطاوعة الغواية العاجلة؟ أم كان حديث العشق والغزل غرضاً مقصوداً لذاته، لا يفكر معه في زواج ولا اتصال؟ وقد حيل فعلاً بين جميل وبثينة فلم يتزوجها، طلبها للزواج، وتزوج بها رجل آخر قيل في وصفه أنه ذميم أعور، وظهر من أخباره في قصة جميل أنه كانت له زوجة قبلها، وأنّ بثينة لم تعش معه طوال حياتها، وذلك هو "نبيه بن الأسود العذري"،(54)، الملاحظ أنّ فكرة العقاد هي التي يرددها "جلال العظم".
ويتضح لنا بعد أن طرحنا تساؤلات "العقاد" وتبني أحكامها النقدية انطلاقاً من التساؤلات نفسها التي طرحها "العقاد". لكن مايميز قراءة العقاد عن قراءة "جلال العظم"، هو أن هذه الأخيرة حاولت النظر إلى العذرية على أنها تحطيم فعلي لمؤسسة الزواج المقدس، أما العقاد فكان يريد إثبات عقدة المازوشية والسادية لدى "جميل" من الوجهة النفسية، وقد سبق لنا أن فصلنا فيها الحديث.
وفي هذا الإطار نفسه نجد "عبد القادر القط" يقرر أنّه (55) "من العفة التي كان يواكبها الدين، ومن الحب الذي كانت تواكبه الغريزة، ومن هذا كله كان الحب العذري... ولنا أن نقول إذن، أنّ الغزل العذري هو المظهر الفني للعواطف المتعففة والملتهبة في آن معاً، والتي وجدت أنّ هذا التعويض هو خير ما تطفئ به لهبها، وتتسامى به عن غرائزها... وهؤلاء الشعراء بعد ذلك كله لم يكونوا "أعفة تقاة" بالمعنى الكامل. فما أكثر ما احتالوا ليدخلوا بيوتاً غير بيوتهم، فيقضوا فيها وجهاً من الليل أو طرفاً من النهار، يسمرون ويتحدثون مع من يحبون في بيوت أزواجهن، وما أكثر ما أرسل أحدهم صاحبه رسولاً إلى صاحبته، فالذي يروي عن سعي "كثير" بين "جميل وبثينة"، و"قيس بن ذريح" بين "المجنون وليلى"، وذلك سلوك يبدو بعيداً عن التقوى بالمعنى الدقيق، وإن كان هذا لا ينقض ما عرف عن هؤلاء من عفة وتقوى في حدود صلاتهم بمن يحبون"، ندرك بعد ذلك أنّ "عبد القادر" يلاحظ أنّ العذرية بقدر ما فيها من العفة والنقاء، فيها ضرب من المجون والشبقية، ولكن لا يذهب مذهب "جلال العظم"، من أنّها إباحة وتطاول على مؤسسة الزواج، وإنّما جوهرها عفة ونقاء، لأنها إفراز ومذهب "طائفة من المسلمين كانت تتحرج، وتذهب مذهب التقوى، وتؤثر السلامة والعافية على المغامرة والمخاطرة، وترى أن النفس أمارة بالسوء، وأنّ النار قد حفت بالشهوات... ولذلك آثرت هذه الطائفة أن تعدل عن شهواتها، فكانت مثلاً واضحاً للتربية الإسلامية في سمّوها وتعاليها"(56)، وهو مذهب تؤكده الكثير من الروايات التاريخية في تراجمها للشعراء العذرية حيث روى "أبو الفرج"(57)، "أن أمة سعت لبثينة بها إلى أبيها وأخيها، وقالت لهما: أنّ جميل عندها الليلة، فأتياها مشتملين على سيفين، فرأياه جالساً حجرة منها يحدثها ويشكو إليها بثه، ثم قال لها، يا بثينة، أرأيت ودي إياك وشغفي بك ألا تجزينيه؟ قالت: بماذا؟ قال: بما يكون بين المتحابين، فقالت له: ياجميل، أهذا تبغي، والله لقد كنت عندي بعيداً عنه، ولئن عاودت تعريضاً بريبة لا رأيت وجهي أبداً. فضحك وقال: والله ماقلتُ لك هذا إلا لأعلم ما عندك فيه، ولو علمت أنك تجيبيني إليه لعلمت أنك تجيبين غيري، ولو رأيت منك مساعدة عليه لضربتك بسيفي هذا ما استمسك في يدي، ولو أطاعتني نفسي لهجرتك هجرة الأبد، أو ما سمعت قولي:
لَوْ أَبْصَرْهُ الوَاشِي لَقَرَتْ بَلاَبِلُهُ
وإنِّي لأَرْضَى مِنْ بُثَيْنَةَ بالَّذي
وبِالأَمَلِ المَرْجُوِّ قَدْ خَابَ آمُلُهُ
بِلاَ وَ بأَنْ لا أَسْتَطيْعُ وَبالمُنَى
أَوَاخِرُهُ لا نَلْتَقِي وَ أَوائِلُهُ
وَبِالْنَّظْرَةِ العَجْلَى وَبِالحَوْلِ تَنْقَضِي
قال: فقال أبوها لأخيها: قم بنا، فما ينبغي لنا بعد اليوم أن نمنع هذا الرجل من لقائها فانصرفا وتركاهما"، وهي رواية تؤكد عفة العذريين وطهارتهم، وتنفي عنهم الشبقية التي نسبها إليهم "جلال العظم"، وسعيهم إلى هدم مؤسسة الزواج، وإن كانت تشير إلى العلاقة التي تنم عن ريبة، ولكنها لا تصل إلى درجة الشك في نقاء العذرية وصفائها، بل تؤكد هذه العفة والطهارة. ينضاف إلى ذلك أنّ هناك من الروايات التي تنفي الأساس الذي بنى عليه "جلال العظم" قراءته من أنّ العذريين كانوا يقصدون إلى التشبيب بمحبوباتهم، حتى يشيع ذلك في القوم فيحرم عليهم -حسب العرف- الزواج منهم. فهناك من الأخبار التي تؤكد أنّ "جميل" مثلاً خطب بثينة قبل التشبيب بها، فمنع -فقام فشبب بها حتى اشتهر وطرد. روى "الأصفهاني"(58) "عشق جميل بثينة وهو غلام، فلما بلغ خطبها فمنع منها، فكان يقول فيها الأشعار، حتى اشتهر وطرد، فكان يأتيها سراً، ثم تزوجت فكان يزورها في بيت زوجها في الحين خفية إلى أن استعمل "دجاجه بن ربعي" على وادي القرى فشكوه إليه فتقدم إليه ألا يلم بأبياتها، وأهدر دمه لهم إن عاود زيارتهم، فاحتبس حينئذٍ"، وهي رواية تؤكد أنّ التشبيب وقع من جميل بعد أن خطبها فمنع من الزواج منها.
والملاحظ أنّ قراءة "جلال العظم" للظاهرة العذرية لم تنطلق من النص العذري لتؤكد ما تذهب إليه، إنّما تعاملت مع الروايات التاريخية وبخاصة ما ورد من قصص وأخبار في تراجم الشعراء العذريين، والذي نقره -كما سبق وأن أشرنا إليه في القراءة التاريخية- أنّ القصص العذري، والكثير من الأخبار التي وردت في الترجمة لشعراء العذرية فيه من النحل والإضافة الشيء الكثير، والتي كان لخيال الرواة الدور الأساسي في صنعها، مما يجعل الدارس يدرك أنّه ليس كل ما نقل من أخبار العذريين موثوقاً فيه، خاصة وأننا نلاحظ أنّ الكثير من هذه الأخبار تنطوي على تناقضات في أحداثها، لذلك تذهب إلى الحكم بنفي العفة والطهارة عن العذريين، والقول بأن غرضهم كان يهدف إلى هدم مؤسسة الزواج، وهو حكم يحتاج إلى مراجعة وإعادة نظر، مما يجعله لا يصمد أمام الكثير من الانتقادات، ولاسيما وأنّ القراءة التي تنطلق من السياق الخارجي العام وتهمل النص الأدبي، قراءة لا تقف على الكون الشعري للظاهرة والرؤيا التي يعبر عنها. فالقراءة الجادة يجب أن تلغي محاكمة الظاهرة الإبداعية على ضوء المواقف السياسية والسياقات التاريخية والعودة إلى قراءة النص بدلاً من قراءة السياق التاريخي، فوعي المبدع يحدد من البنية الدلالية للنص والبنية الذهنية المصاحبة لها، لذلك لا يجب أن تضحي القراءة بالعمل الأدبي باسم الدلالة الاجتماعية العامة، أو الدلالة السياسية المصاحبة لها. _________________ | |
|
| |
هبة الله الادارة
نقاط : 13559
| موضوع: رد: الشعر العذري في ضوء النقد العربي الحديث الأربعاء أبريل 01, 2009 9:56 am | |
| ولئن ركزت القراءتان السابقتان للظاهرة العذرية على السياق التاريخي والنفسي للظاهرة، حيث بحثت القراءة التاريخيةفي مشكلة الوجود التاريخي لشعرائها وقصصهم ونصوصهم الشعرية. كما انكبت القراءة النفسية على البحث في الجوانب العصابية للعذريين، ومدى تأثير "مبدأ اللذة ومبدأ الواقع"، في تكوينهم النفسي، والفضاء الشعري لنصوصهم، فإننا نلفي القراءة الاجتماعية- والتي كانت مدار البحث في فصلنا هذا- قد اهتمت بإبراز الجوانب الاجتماعية للظاهرة العذرية، وأسسها الفلسفية المبنية على مقولة "الأدب تصوير للحياة" أو انعكاس للواقع.
إنّ الإضافة التي قدمتها القراءة الاجتماعية لهذه الظاهرة وتأكيدها أنّها ليست إنتاجاً فردياً- كما حاولت القراءة النفسية التركيز عليه-بل هي مظهر من مظاهر الإفراز الاجتماعي. وأنها متأثرة بأوضاع المجتمع التاريخية في العصر الأموي، وما صاحب ذلك من تحولات وتغيرات شهدها المجتمع العربي الإسلامي في هذه الفترة التي كانت إفراز للسياسة الأموية.
تلك هي المنطلقات التي اتكأت عليها القراءة الاجتماعية في دراستها للظاهرة العذرية، والتي فرضت عليها الرجوع إلى ملابساتها التاريخية حتى تخلص إلى النتائج المرجوة. فاهتمت بالسياق، وأهملت النص الإبداعي، علماً أنّ النص الإبداعي هو الذي يجب أن ينكب عليه الاهتمام. وهذا ما جعل القراءة الاجتماعية تسقط في الاهتمام بأثر السياق الاجتماعي التاريخي في الظاهرة. وتظل علاقة "الانعكاس" هي المهيمنة على القراءة، لتصل إلى أنّ العامل الاجتماعي التاريخي يؤثر مباشرة أو بالضرورة في العمل الأدبي، ويجعل منه تعبيراً واضحاً وصريحاً عن الواقع الاجتماعي، وانعكاساً له، وللوعي الجمعي. وبذلك غلب على القراءة الاجتماعية الاهتمام بالجانب الوثائقي، أصبح النص وثيقة اجتماعية لا تحمل أي دلالة انزياحية عن الواقع الذي نشأت فيه.
إنّ تشبث القراءة الاجتمعية بمقولة المرآة أو الانعكاس في دراسة الظاهرة الأدبية، وأنّ الأدب تعبيرعن المجتمع. هو الذي أدى بها إلى التعامل مع السياق التاريخي، وليس مع النص الأدبي مباشرة. وهذا ما حذا ببعض النقاد إلى الثورة على المنطلقات الرئيسية لهذ القراءة والقول: "أنّ العمل الفني ليس انعكاساً وإنما هو إضافة حقيقية إلى الظروف الاجتماعية، ومن ثم يسهم في تكوين المجتمع، وبعبارة أخرى أننا نتحدث عن المنابع الاجتماعية للأدب، ومن باب أولى أن نتحدث عن المنابع الأدبية للمجتمع وظروفه"(59)، وبذلك بدأت الإرهاصات الأولى لتجاوز القراءات السياسية تظهر على الساحة النقدية العربية.
إنّ غلو القراءات السياقية [التاريخية والنفسية والاجتماعية] في التعامل مع الملابسات التاريخية التي أحاطت بالأثر الأدبي، وإهمالها للنص الأدبي، هو الذي دفع ببعض الدراسات النقدية للدعوة إلى ضرورة العودة بالنقد الأدبي إلى داخل النص. فظهرت محاولة جادة حاولت قراءة الظاهرة العذرية قراءة تزامنية محايثة دون أن تهمل الجوانب التاريخية والاجتماعية وحتى النفسية.
كان "لطاهر لبيب" في دراسته "سوسيولوجيا الغزل العربي الغزل العذري نموذجاً" الفضل في إخراج الظاهرة العذرية من إطار القراءات السياقية ليلج بها إلى القراءات البنيوية مستفيداً من منهج "لوسيان غولدمان"، "البنيوية التكوينية" الذي يرى أنّ الظواهر الإبداعية هي انسجام البنية الفنية والبنية الذهنية التي تتشكل منها "رؤيا العالم"، التي تحملها زمرة اجتماعية محدودة في الزمان والمكان. فالظاهرة العذرية عند "الطاهر لبيب" تحمل "رؤيا العالم" لزمرة اجتماعية تخضع لملابسات تاريخية موحدة، وأنّ النص العذري يشكل كوناً شعرياً له دلالته المتميزة وهذا ما سنتعرض له بالتفصيل في الفصل اللاحق، محاولين إبراز المنطلقات الفكرية لهذه القراءة "البنيوية التكوينية"، والإضافات النوعية التي أضافتها للقراءات السياقية، التي تعرضنا لها في الفصول السابقة. | |
|
| |
هبة الله الادارة
نقاط : 13559
| موضوع: رد: الشعر العذري في ضوء النقد العربي الحديث الأربعاء أبريل 01, 2009 9:57 am | |
| القراءة البنيوية
1 - التزامن والتطور.
أ - البنية الذهنية والبنية الفنية.
ب- صيرورة تحول الكتابة الشعرية.
2 - الفضاء الشعري للظاهرة العذرية.
أ - تعريف الكون الشعري.
ب- الصراع بين الرغبة والعفة ومحاولة التجاوز.
ج - المرجعية الدينية للظاهرة العذرية.
د - من الانعكاس إلى التماثل.
هـ- العفة: شعر أم حقيقة؟..
3 - الزمرة الاجتماعية.
تجلى تطبيق المنهج البنيوي التكويني على الظاهرة العذرية في دراسة "الطاهر لبيب" والتي عنوانها "سوسيولوجيا الغزل العربي (الشعر العذري نموذجاً)" وهي قراءة تقارب الشعر العذري برؤية متميزة مخالفة للقراءات السياقية.
فالبنيوية التكوينية في نظر "الطاهر لبيب" تمكن القارئ من رؤية العالم رؤية خاصة، ومن داخل النص، بعد أن يعزله عن سياقاته المختلفة، والتي قد تضلل القارئ إذا أخذ بها، وجعلها مرجعاً أساسياً لقراءته. وبذلك يطرح الباحث في دراسته قضية المنهج وعلاقته بالقراءة النقدية، فحاول أن يقترب من ظاهرة الغزل العذري اقتراباً بنيوياً تكوينياً، متعاملاً مع النص العذري على أنه وثيقة فكرية، لا وثيقة إبداعية أو جمالية، واهتم بدلالات النص الفكرية والاجتماعية أكثر من أنه بنية وصورة جمالية، وبذلك طرح قراءته في عدة محاور سنعرض لها بالوصف والتحليل وإبداء الرأي في هذا الفصل، حتى نتمكن من الإحاطة بالقضايا التي طرحها والنتائج التي توصل إليها، محاولين عرض المنطلقات النظرية التي استند إليها في قراءته لظاهرة الشعر العذري.
1 - التزامن والتطور:
حاول "الطاهر لبيب" مناقشة مسألة الثبات والتكوين، وتحديد المنطلقات المنهجية والأدوات الإجرائية التي سيوظفها في قراءته لظاهرة الشعر العذري وفق منهج "البنيوية التكوينية" "لوسيان غولدمان" الذي قام بتطبيقها على بعض الأعمال الإبداعية منها مسرح "راسين" وخواطر "باسكال" في كتابه "الإله الخفي".
"فالثبات" يرادف "التزامن" يقصد به " العقاب"، فالظاهرة الأدبية تتجاذبها ثنائية التزامن والتعاقب في تكوين بنيتها الفنية وبنيتها الفكرية.
أ -البنية الذهنية والبنية الفنية:
يبدأ "الطاهر لبيب" بتحديد مفهوم بسيط للبنية "إذ المقصود بكلمة بنية مجموعة من العناصر الأساسية التي تقوم فيما بينها شبكة من العلاقات المتبادلة بحيث أنه إذا تغير أحدها أو زال تغيرت دلالة العناصر الأخرى بصورة موازية، وتتنوع هذه البنية من عمل إلى آخر، كما يمكنها أن تتنوع داخل العمل الواحد"(1)، وهذا مايفرض علينا بدوره تحديد مفهوم الإنتاج الشعري "لأن الإنتاج الشعري الذي نحن بصدده يشكل كلية متماسكة وبالتالي سيتم اعتبار التناقضات والتعارضات وكأنها تندرج ضمن عمل واحد أنتجه شاعر واحد، وهو افتراض غير مغال، مادام من المحتمل دائماً بالنسبة لأي شاعر أن يعارض قصائده، بل وأبياته، بعضها ببعض"(2). فالظاهرة ينبغي النظر إليها في كليتها المتماسكة وعدم الاهتمام بجزئياتها، حتى وإن كان هناك تعارض بين الجزئيات "البنيات الصغيرة"، فالقراءة تنطلق من بنيات شاملة ذات دلالة موحدة في بنيتها الفنية والفكرية. لذلك لا يجب المبالغة في الاعتناء بالشكل على حساب المضمون أو العكس. وإنما إثارة العلاقة الموجودة بين الكون الأدبي والعالم الواقعي، وبالتالي رفض مقولة "الانعكاس" من منظورها الماركسي الدوغماتي والتي تربط ربطاً ميكانيكياً بين الواقع والعمل الأدبي، لأنّ مفهوم الانعكاس يفرط في التركيز على السياقات التاريخية والاجتماعية للعمل الأدبي ويهمل النص الإبداعي ذاته، وهذا ما يجعله يفضي بالقراءة إلى الوقوع في حلقة مفرغة، لذا "نرى الاختلاف الكبير الذي يفصل بين سوسيولوجيا المضامين والسوسيولوجيا البنيوية، فالأولى ترى في المبدع انعكاساً للوعي الجمعي، أما الثانية فترى فيه على العكس أحد العناصر المقومة الأهم في هذا الوعي.... لذا تتكشف لنا سوسيولوجيا المضامين أكثر فاعلية حينما نكون بصدد مبدعات من مستوى متوسط في حين تتكشف السوسيولوجيا الأدبية البنيوية التكوينية، على العكس، أكثر عملية عندما نكون بصدد دراسة المبدعات الكبرى في الأدب العالمي"(3)، وهذا هو الفرق الجوهري الذي يفصل بين القراءة الاجتماعية والقراءة البنيوية التكوينية. فهذه الأخيرة حاولت أن تعيد للنص اعتباره في القراءات النقدية. | |
|
| |
هبة الله الادارة
نقاط : 13559
| موضوع: رد: الشعر العذري في ضوء النقد العربي الحديث الأربعاء أبريل 01, 2009 9:57 am | |
| إنّ نقد "الطاهر لبيب" للمقولات التي تهمل البعد الاجتماعي جاء كرد فعل على التطرف، الذي قوبلت به القراءات السياقية عند الشكلانية، حتى وصل بها الحد إلى القول بموت المؤلف- كما سبق وأن أشرنا إلى ذلك من قبل- وهذا ما جعله يذهب إلىأنّ الأجناس الأدبية تنطلق من كون تخيلي مبني على التماثل البنيوي للأدب مع الواقع وليس انعكاساً له. فالتماثل الذي يقر بوجود المسافة بين المبدع والواقع. لأنّ "الأجناس الأدبية بما فيها الأكثر واقعية تفضي إلى كون خيالي ينبغي البحث لا عن تطابقه في التجريبي بل عن تماثله البنيوي معه"(4)، ففلوبير "يقرر أنّ الفن يقوم على المبالغة لا على الانعكاس وهذا مايذهب إليه النقد العربي القديم في القول" بأعذب الشعر أكذبه" تأسيساً لمقولة "الوعي الممكن"، التي يبني عليها "الطاهر لبيب" قراءة للظاهرة العذرية. لكن النقد العربي ظل ينظر إلى الأعمال الأدبية رؤية امتثالية لا رؤية تماثلية انطلاقاً من إيمانه بأنّ العمل الإبداعي تطابقي، وذلك ما أفرزه تاريخ الأدب العربي. ثم ينتقل "الطاهر لبيب" بعد مناقشته لمفهوم البنية، إلى تحديد مصطلح "الزمرة الاجتماعية" ويلاحظ أنه على الرغم من أنّ مصطلح الزمرة الاجتماعية ينتمي إلى المعجم السوسيولوجي الابتدائي إلا أنّه لم يرسخ له في دراسة الأدب العربي قديماً وحديثاً. وهذا ما يؤكد قصور الدراسات الاجتماعية في البحث عن اجتماعية الشكل الأدبي، "فالشكل (المسمى أسلوباً)، أفرط النقاد في شخصنته، ودون مناقشة التماثل الممكن بين الأشكال الاجتماعية والأشكال الأدبية"(5). فالمبدع إذا كان فرداً فإنه لا يستطيع أن يصور "رؤيا العالم" التي تتجسد من خلال الأعمال الإبداعية، هذه الأعمال التي تحمل الكون الشعري الذي "لايمكنه أن يكون إلا نتيجة لنشاط مشترك يقوم عدد من الأفراد الذين يجدون أنفسهم في وضعية متماثلة، أي أن الأفراد الذين يشكلون زمرة اجتماعية ذات امتياز، والذين عاشوا لزمن طويل وبطريقة مكثفة مجموعة من المشاكل وجدوا في البحث عن حل ذي دلالة لها"(6)، لذلك يجب أن تتوافر استقلالية مطلقة للعمل الأدبي، وتنتفي نظرة الانعكاس التي أخذ بها النقد الماركسي في دراسته للأعمال الأدبية، وتصبح موضع السؤال، فالمضمون يستحيل إدراكه إلا في "سياق صيرورة طويلة ومعقدة على وجه العموم"(7)، وبذلك يؤسس صاحب "سوسيولوجيا الغزل العربي" من خلال هذه الطروحات للمنهج الذي سيتناول من خلاله الظاهرة العذرية، باختيار النوع الأدبي المبني على مضمون الوعي الجمعي الذي ينتمي إليه المؤلف. وأنّ عامل الزمن ضروري حتى يتحدد الجنس الأدبي وموضوعه وذلك أمر أساسي في تاريخ الأفكار. وبذلك يلح على أن ظهور العذرية كان حتمية تاريخية في هذه الفترة، لأن المضمون المتعاقب والمتجدد هو الذي فرض على العذريين إبداع صورة من التعبير خاصة بهم أفرزتها التراكمات الزمنية. فالشعراء العذريون يشكلون زمرة اجتماعية عبرت عن "رؤيا العالم" وهذا بديل للنظر إليهم كأفراد، وذلك ما تقتضيه الرؤية الاجتماعية، وهي نتيجة تتضح من خلالها الرؤية التي سيتناول من خلالها "الطاهر لبيب" الظاهرة العذرية. بجعلها تعبيراً عن زمرة اجتماعية وليس عن المجتمع كما ذهبت إلى ذلك القراءة الاجتماعية. ب - صيرورة تحول الكتابة الشعرية: يؤكد "الطاهر لبيب" العلاقة القائمة بين البنية الفنية والبنية الذهنية، هذه العلاقة التي تؤدي دوراً أساسياً في تشكيل الكون الشعري للظاهرة الإبداعية، فلا يمكن أن يحدث التحول في الكتابة الشعرية إلا إذا مس هذا التحول البنية الفنية والبنية الذهنية للكون الشعري. فالتفاعل بين البنيتين هو الذي يشكل "رؤيا العلم" وعليه: "فإن التفاعل بين البنية والذات يرجعنا إلى الطبيعة التكوينية للبنية، أي الحضور الكامن للصيرورة، ومن ثم إلى "دالية" السلوك الإنساني"( ، هذا السلوك الذي يعبر عن جوهر رؤيا العالم لدى المبدع. ينطلق صاحب "سوسيولوجيا الغزل العربي" في مناقشته لصيرورة تحول الكتابة الشعرية العربية من الطابع الملحمي إلى الطابع العذري، حيث يوجد تباين الرؤية للعالم بين العصر الجاهلي والعصر الإسلامي، فرؤيا العالم لظاهرة الحب والموت في الشعر الجاهلي تختلف عن رؤيا العالم التي يجسدها الشعر الإسلامي. إذ انتقلت العلاقة بين الخوف من الموت في رؤيا الجاهلي في سبيل تحقيق الحب، إلى أن يصبح الموت سبيلاً لتحقيق الحب عند العذري. وهذا مايدفع "بالطاهر لبيب" إلى القول بأن رؤيا العالم في الشعر الجاهلي أفرزت شكلاً أدبياً نسميه بالملحمي حيث الفرد فيه غير مندمج في عقيدة الزمرة الاجتماعية. "فالبطل الملحمي كما عرضناه وخلافاً لبطل الإسلام وهو شخصية منفردة وسط زمرته الاجتماعية وخارجها، وعندما يتأثر بعداء هذه الزمرة يتخذ موقفاً سادياً"(9)، بخلاف الفرد في الإسلام الذي أصبح لا يتكلم إلا بلسان الجماعة، إذ ذوبته العقيدة الإسلامية في إطارها العام الذي سيفرز في ما بعد ظاهرة أدبية تشكل في نظر المؤلف الكون العذري. ومفهوم الكون هنا يحمل دلالات الرؤية الإسلامية التي منحت خصوصية لهذا الشعر العذري الذي نجد له أصولاً في تاريخ الشعر العربي الجاهلي، وبخاصة فيما كان يطلق عليه بالنسيب، ولكن مع تحول جوهري لرؤيا العالم بين النسيب الجاهلي والكون العذري. وانطلاقاً من الفروق الجوهرية بين النسيب الجاهلي، والكون العذري، يواجهنا تساؤل مشروع يطرحه كل من يتأمل هذين الكونين: لماذا لم يتحول النسيب من اتجاه شعري إلى ظاهرة كالظاهرة العذرية؟ وهنا نلقى أنّ التحليل البنيوي التكويني يلجأ إلى مقولة "رؤيا العالم" التي طورها "لوسيان غولدمان" من خلال فلسفة هيجل وماركس ولوكاتش و كوفلر، لكي يضفي على الظاهرة العذرية بعداً اجتماعياً يراعي الخصوصية الفردية التي تحمل الهم الاجتماعي لزمرتها، وتحاول البحث عن التماثل بين البنية الفنية والبنية الذهنية. ومن هنا فإن النسيب في الشعر الجاهلي اتسم بالطابع الملحمي الذي يتجلى من خلاله الانفصال بين الفرد والجماعة. فالشاعر الفرد "كعنترة بن شداد" يريد أن يحقق ذاته من خلال البطولة الملحمية التي تكون المرأة باعثاً لها، وفي الوقت نفسه دافعاً لتجنب الموت والخوف منه في لحظة الاتصال التي تعمل على تصعيد التوتر الدرامي، وما أن ينفصل عنها، ويجد نفسه في مواجهة الموت حتى تعود صورة المرأة الحبيبة لتكون حافزاً لتأجيج غريزة القتال لديه "ومع ذلك ينبغي أن نضيف بأنّ هناك تعارضاً بين السلبية الطبيعية للمرأة وبين الصورة التي يكونها البطل عن حبيبته، فذكرى الحبيبة، تبعاً لهذه الصورة، تحفز غريزة القتال وتشجع البطل، وبعبارة أخرى، فإن طبيعة البطل، تقتضي أن يتحدد التفاوت بين الفراق والاتصال، بشكل ما، من قِبل هذا البطل وكما هو الحال بالنسبة إلى عروة، فإن الحب يصبح إشكالياً بالنسبة لعنترة على الطريق التي تؤدي إلى تحقيق العمل البطولي: بَكَرَتْ تُخَوِفُنِي الحُتُوفُ كَأَنَّنِي أَصْبَحْتُ عَنْ غَرَضِ الحُتُوفِ بِمَعْزِلِ فَاْقْنَي حَيَاءَكِ لاَ أَبَا لَكِ وَاعْلَمِيْ أَنِّي امْرُؤٌ سَأَمُوتُ إِنْ لَمْ أُقْتَلُ | |
|
| |
هبة الله الادارة
نقاط : 13559
| موضوع: رد: الشعر العذري في ضوء النقد العربي الحديث الأربعاء أبريل 01, 2009 9:58 am | |
| مسألة النحل والانتحال التي طرحها النقد القديم بخاصة عند الشعراء العذريين، تطرح لدى الباحث تساؤلاً مهماً، يتمحور حول الإشكالية التالية، لماذا عدت شخصيات مثل "عمر بن أبي ربيعة" و"نصيب العرجي"، شخصيات تاريخية بينما عد بعض شعراء العذريين شخصيات أسطورية منحولة؟
وللإجابة على هذا التساؤل ينبغي الانتقال من المنحول إلى الأنثروبولوجي الذي يراه "الطاهر لبيب" أمراً صعباً، وفي غاية التعقيد. "فشخصية العذري تتقمص واحداً من أولى مساعي التجريد أو التجاوز لبعض القيم التي سادتها في ظروف العصر الأموي الجديد. إنّه البشري المماثل لذاته. الأمر الذي يفسر مثلاً، لماذا وجد العذريون أنفسهم لا عمر بن أبي ربيعة"(22)، ولتأكيد ظاهرة التجاوز في الكون العذري يلجأ المؤلف إلى المقارنة بين الرواية العذرية ورواية "تريستال" وهو يهدف من وراء ذلك إيجاد أوجه التشابه بين الروايتين، ليخلص من المقارنة إلى أنّ الرواية العذرية تقوم على فكرة قدرية فحواها الإحجام العفيف الذي يصعب على العذري تجاوزه، إنّه الصراع بين اللّذة ومبدأ الواقع (صراع بين اللذة والعفة)، بحيث يغيب العقل نتيجة لهذا الصراع يقول جميل:(23)
وَلَوْ تَرَكَتْ عَقْلِيْ مَعِيْ مَا طَلَبْتُهَا
وَلَكِنْ طلابيها لِمَا فَاتَ مِنْ عَقْلِي
وهذا الكلام يصوره "الطاهر لبيب" يشبه في نظرنا الصراع الدرامي الذي صورته الكلاسيكية الجديدة من خلال مسرحيات "راسين وكورناي".
ثم لاحظ المؤلف أنّ السبيل الوحيد للخروج من الصراع بين الرغبة والعفة في الكون العذري إنّما هو الجنون. وعلى هذا المستوى يتحقق التجاوز "على أكثر المستويات تنوعاً من مستويات السياق الجديد الذي وجد فيه العذريون أنفسهم في ظل الإسلام على اعتبار أنّ هذا عقلاني... فالعفة نتيجة منطقية لفقدان العقل وهي ليست ناجمة عن تعفف ديني لا يقوم فيه العذري بغير الامتثال عن وعي للتعاليم الإلهية"(24). أنّ الملاحظة التي تثير الانتباه أنّ "الطاهر لبيب" في تحليله لفكرة التجاوز يعتمد في تفسيره على مراجع استشراقية من أبرزها مؤلفات "بلاشير" و"ماكسيم ردونسون" و"جاك بارك". والواقع أنّ التفسير الذي يعطيه المؤلف للمرأة المثال في الكون العذري يبدو غير مقنع، لأنّ هذه الصورة عرفها تاريخ الشعر العربي. والسؤال المطروح: هل العالم المغلق كما يسميه "الطاهر لبيب" هو الذي دفع هؤلاء إلى إعطاء المرأة بعداً ميتافيزيقياً، وجردها تجريداً محاولاً من خلال ذلك أن يحقق فكرة التجاوز بين الرغبة والعفة؟ لكن لماذا لم تتكرر هذه المسألة في تاريخ الشعر الإسلامي، وكانت وقفاً على قبيلة بني عذرة؟ حاول "الطاهر لبيب" الإجابة على هذا التساؤل بأن أعاد هذه المسألة إلى تعليل تاريخي. وهنا نلاحظ أنّ المنهج الذي سلكه يسقط فيما حاول أن ينفيه عن نفسه، من الاعتماد على الوثائقية بالإشارة إلى فكرة المازوشية التي تفرزها ظاهرة الصراع بين الرغبة العفة والطموح للتجاوز. وهي قراءة تعتمد على الإشارة إلى مسائل لها علاقة بالتحليل السيكولوجي، وأخرى لها علاقة بالنقد التاريخي، مما يجعلنا نلاحظ أنّ صاحب سوسيولوجيا الغزل العربي على الرغم من حرصه على الإخلاص للمنهج البنيوي التكويني إلا أنّه يخلط في الاعتماد على معطيات لا تخدم المنهج المتبع، مما يجعله يسقط فيما حاول أن يعيبه على المناهج السياقية، ينضاف إلى ذلك أنّه كان وثائقياً أكثر مما كان متعاملاً مع الكون الشعري العذري.
ج- المرجعية الدينية للظاهرة العذرية:
إنّ رفض مقولة الانعكاس والقول بعلاقة التماثل، يقصد من ورائها "الطاهر لبيب" الإقرار بوجود الاستقلال الذاتي للعمل الأدبي. هذا الاستقلال الذي لا يسقط في النظرة التزامنية البحتة، والتي رسختها البنوية الشكلانية، على الرغم من أنّه يحيل على أسبقية البنية على السياق من خلال العودة إلى "ميشال فوكو"، والنظرة إلى الشاعر العذري على أنّه يمثل زمرة اجتماعية تعاني من الانفصال عن الكون العذري الذي يصفه النص الشعري. وقد سبق لنا الحديث عن هذا الانفصال من خلال التطرق إلى فكرة "الصراع بين الرغبة والعفة". ولهذا فإن العذري يقوم بتحوير الواقع أو التشويش عليه حسب " ميشال ريفتاتير". وهكذا يعارض "الطاهر لبيب" نتيجة رفضه لمقولة الانعكاس التفسير الديني للغزل العذري الذي يذهب إليه "شكري فيصل" كما بينا ذلك في القراءة التاريخية، إذ يعتبره تفسيراً يقوم على العلاقة السببية والتفسير الآلي الذي ينحصر في الفكرة القائلة بأن الحب العذري انعكاس للتربية الإسلامية في سموها وتعاليها، وهو "تعبير عن وضع طائفة من المسلمين كانت تتحرج وتذهب مذهب التقى، وتؤثر السلامة والعافية على المغامرة والخاطرة وترى أنّ النفس أمارة بالسوء.. وأنّ النار قد حفت بالشهوات... ولذلك آثرت هذه الطائفة أن تعدل عن شهواتها فكانت مثلاً واضحة للتربية الإسلامية في سموها وتعاليها"(25) ومثل هذه القراءة تجعل من الغزل العذري يسقط في التفسير الآلي الذي يهمل طبيعة الكون العذري من حيث هو حامل لرؤية تعبر عن الوعي الممكن لزمرة اجتماعية. إنّ رفض "الطاهر لبيب" لطرح "شكري فيصل" من منطلق أنّه طرح آلي، جعله يحاول أن يجد ربطاً بين الفكر المانوي(26)* الداعي إلى النقاء في الحب العذري وخصوصاً الأوروبي منه، لذلك نجده يدعو إلى البحث عن مقترحات جديدة يمكن لها أن تضيف شيئاً جديداً، يفيد في إعطاء تصور جديد يساعد على قراءة الكون العذري إذ إنّ "تاريخ الأدب العربي قد لجأ دوماً إلى استدلال أفضى به إلى خلاصات قطعية حول العلاقة السببية بين الإسلام الوليد والحب العذري. ولا وجود على حد علمنا لمحاولات دقيقة هدفها استبعاد هذا الاستدلال. لهذا نتوجه نحو أفكار غربية بهدف أن نستخلص منها بعض المقترحات التي قد تكون مفيدة بالنسبة لنا"(27). إنّ المقترحات التي تقدم بها "مارو" ترفض الربط الميكانيكي بين الفكر المانوي المسيحي والكون العذري الغربي، لأن القول بالقداسة لا يقتضي دوماً ورعاً وعفة، وذلك ما لم تدركه قراءة "شكري فيصل".
إنّ الحديث عن المرجعية الدينية للظاهرة العذرية هو الذي جعل "الطاهر لبيب" يربط بين عقيدة التوحيد وفكرة الحبيبة الوحيدة، على أساس أنّ عقيدة التوحيد من الناحية الإيديولوجية تحويل للعالم من طابع التعدد في العبادة إلى طابع التوحيد" وقد نما بالتوازي مع هذا الإيمان بوحدانية الإله، عبادة للحبيبة الوحيدة لدى العذريين وليست كلمة عبادة بمبالغة، ما دام من الممكن مقارنة أوصاف المحبوبة بالأوصاف التي تشير إليها سورة الإخلاص"(28) فصفات المثالية تستحق في نظر الكون العذري الابتهال وطلب الرحمة، لذلك كانت مرجعيتها العقيدة الإسلامية التي تدعو إلى الإخلاص للإله الواحد وتحارب التكبر، وهي معان نجد لها أساساً في تكوين الكون العذري.
والملاحظة على قراءة "الطاهر لبيب" إنّها تنتقي النصوص الشعرية التي تخدم وتؤكد طرحها مثل التفسير المادي الذي يطرحه بخصوص علاقة التكبر ودعوة الرسالة الإسلامية إلى التواضع والتنازل حتى عن الجانب المادي في الكون العذري ويستشهد لذلك ببيت جميل: (29)
إِنِّي إِلَيْكِ بِمَا وَعَدْتِ لَنَاظِرُ
نَظَرَ الفَقِيِر إِلىَ الغَنِيِّ المُكْثِرِ | |
|
| |
هبة الله الادارة
نقاط : 13559
| موضوع: رد: الشعر العذري في ضوء النقد العربي الحديث الأربعاء أبريل 01, 2009 9:58 am | |
| ولهذا يخلص إلى أنّ الحلم هو الخلاص الوحيد في هذا الإعلاء الذي تبلغ فيه المرأة مستوى مأمثلاً جداً، في حين يبقى الرجل بشرياً بمنتهى التواضع. فالحبيبة وحدها هي التي تشغل قلب الحبيب، وهو الموضوع الرئيسي للكون العذري، لهذا لا يفكر العذري في أي علاقة مع امرأة أخرى، وهو نذر نجد له صوراً كثيرة في الشعر العذري لصفة "الصمد" التي وصف الله بها نفسه، والتيتشكل جوهر عقيدة التوحيد الإسلامية وتمثل "حركة الإنسان نحو الله، وكمال وحدانية العلي الآمر الناهي الذي يتعذر على الفكر البشري أن يحيط به بمعنى من المعاني"(30). ففكرة الحركة نحو ما لا يستطاع الإحاطة به الممزوجة بالفراق، يوحي بها الكون الشعري عند العذريين، بل هي الجوهر المركزي له. لذلك نلفي أن ما يعذب العذري هو الجمود العاطفي الذي يقابل به من قبل الحبيب، والتعذر الذي يجده في ملاقاة الحبيب ولو بالنظر. فالنظرة عند العذري إضناء للذات، وارتداد من المتعالي إلى البشري، وهي فكرة جوهرها مستمد من عقيدة التوحيد، لذلك تطرح فكرة عدم الزواج على أنّها نابعة من صفة التوحيد "لم يلد" وبذلك يعارض "الطاهر لبيب" "جلال العظم" الذي يعتبر العذرية تحطيم لمؤسسة الزواج. فالحبيبة لا يجب أن تلد ولذلك يمتنع الزواج لتمتنع الولادة "ولئن بدا الاندفاع طبيعياً أثناء الفراق، فإن الابتعاد الذي سينشأ كنقيض للوصال يتعارض بوضوح مع التقدير الاجتماعي الديني للتناسل، فهو نفي للتوالد"(31). فأمثلة المرأة حتى الوصول بها إلى درجة التأليه هي التي جعلت العذري يرى فيها الحبيبة المخلوقة المتعذرة، المثال، حتى تبقى غريبة لأنها أسمى من أن تصبح زوجة. فالحبيبة لا تهرم، أما ما هو فيهرم، لها صفة التوحيد الذي لا يؤثر فيه الزمن الذي هو سير نحو الموت، فهو منعدم بالنسبة للحبيبة كما أنّه منعدم بالنسبة للصمد.
إنّ قراءة "الطاهر لبيب" تريد إخراج الظاهرة العذرية من ذلك الإطار الذي وضعته فيه قراءة "شكري فيصل" لتؤكد صفة التماثل بين حقيقة التوحيد والحبيبة الوحيدة. وهي نتيجة فرضتها طبيعة المنهج الذي يؤمن بالتماثل لا بالانعكاس.
د- من الانعكاس إلى التماثل:
إنّ رفض "الطاهر لبيب" لمقولة الانعكاس والقول بالتماثل -والذي سبق وأن أشار إليه كمنطق منهجي في قراءته للظاهرة العذرية- هو الذي يجعله يثير إشكالية دلالة العلامة وتطورها من عصر إلى آخر وتبدل الدلالة تبعاً للوظيفة التي تمنح لها، وتبعاً لاستعمالها أيضاً، فركز على البعد الأنثروبولوجي في تفسير ظاهرة الحب العفيف مثل ربطها بما أطلق عليه بالألوهية الأنثوية الكبرى السابقة على الإسلام. وأرجعها إلى إلهام التوحيد اليهودي المسيحي الغامض التي حاربها الإسلام بعقيدة التوحيد. فالحبيبة عند العذريين تجسد التركيب القائم على اللات (الإلهة) والعزة (المطلقة القدرة) ومناة (إلهة القدر والموت) وبذلك حاول أن يقف على الأساس الأنثروبولوجي للحب ما قبل الإسلام، والذي له دور كبير في بناء الكون الشعري العذري، لكنه لم يقف عند هذا الحد، بل ذهب ليحفر في الظاهرة الشعرية العذرية من خلال العودة إلى ما قبل الإسلام، حيث أشار إلى إلهة بني عذرة التي كانوا يعبدونها وتسمى بالشمس. وبذلك لم يهمل "الطاهر لبيب" البعد الميثيولوجي في تفسير ظاهرة التسامي العذري، فانصرف إلى الأخذ بتعليلات النقد الأسطوري.
انطلاقاً مما سبق يقر "الطاهر لبيب" بعامل التوحيد الإسلامي في تهذيب مفهوم الحبيبة الواحدة، وهو يرفض ربط مفهوم الحبيبة الواحدة بالتوحيد كعقيدة. ويعلل ذلك بأنّ العلاقة بين الإسلام من حيث هو رسالة، وبين العذري المحدود إحصائياً باعتباره مؤمناً، ليس بينهما غير علاقة واحدة ممكنة هي امتثال العابدين التقاة. ولعل العلاقة التالية تبين التماثل القائم بين الكونين: | |
|
| |
هبة الله الادارة
نقاط : 13559
| موضوع: رد: الشعر العذري في ضوء النقد العربي الحديث الأربعاء أبريل 01, 2009 9:58 am | |
| أ) الجهاد في القرآن ب) الشهيد في القرآن
أ) الجهاد في شعر جميل ب) الشهيد في شعر جميل
يقول "جميل": (32)
يَقُولُونَ: جَاهِدْ يَا جَمِيلُ بِغَزْوَةٍ
وَأَيُّ جِهَادٍ غيْرَهُنَّ أُرِيدُ
لذلك فالمقارنة بين العفة الدينية وعفة الشعراء العذريين تستلزم التسليم بصدق إيمان العذريين دون أن تكون النتيجة هي نفسها من الوجهة الدينية، وذلك ما ينفي القول بالانعكاس ويوجب القول بالتماثل لكي لا يشوه إدراك الشاعر للرسالة الشعرية.
إنّ الشعر العذري الذي يقوم على فكرة الحبيبة الواحدة لا يعكس صورة الإيمان لدى الشعراء العذريين بالرسالة التوحيدية أو تأثيرها فيهم، وهي نتيجة يصل إليها "الطاهر لبيب"، وللدفاع عنها يلجأ إلى تطبيق النقد المحايث للنص الشعري، ويحذر من اللجوء إلى التفسيرات الخارجية في قراءة الظاهرة لأنها ستبعث على الشك. وفي واقع الأمر أنّ دعوة "الطاهر لبيب" للنقد المحايث هنا هو تبرير للتفسير السابق، في حين أنّه لجأ إلى التفسير الأنثروبولوجي والميثيولوجي والوجودي في مواضع أخرى. ولم يبد الشك في نتائجها، لكنه عندما أراد أن ينفي فكرة الانعكاس سواء في منحاها العام التي طبقها "شكري فيصل" أم في منحاها الخاص كما تذهب إلى ذلك الدراسات النقدية الماركسية، نجده يتذرع بالنقد المحايث من أجل استبدال فكرة الانعكاس بفكرة التماثل. وعلى الرغم من ذلك نجده أيضاً يبدي تحفظاً حيال المسألة النظرية التي ناقشتها قبل حين عندما رأى بأن التماثل الذي وضع خطاطته السابقة "لا تستبعد بدوره احتمال حضور كثيف لإله أوحد متعال لدى العذريين، وإنما يوضع موضع الشك والتساؤل، هو دوماً ضرورة هذا الحضور في شعرهم باعتباره علامة على الإيمان الصادق"(33)، وهذا التحفظ فيه شيء من الصواب لأن شعر العذريين لا يمكن أن نجزم بأنه يصدر عن إيمان قوي بتعاليم الإسلام وإن كان صدى لها وإقرار بتعاليمها.
هناك صعوبتان -في نظر "الطاهر لبيب"- تواجهان "التصور العذري المطلق.
الاستحالة الفعلية لإحلال الحبيبة الخارقة للعادة محل الإله والعجز عن بلوغ الإله الواحد الصمد الذي بلغ العالم الأنثروبولوجي فوق ذلك في إبعاده لدى البدو"(34)، وهذا ما أفرز تصدعاً داخل النفس، وهي فكرة اقتبسها "الطاهر لبيب" عن "كنوبي" وطبقها على الشعر العذري، لأن التمزق الذي يعانيه العذري هو نتيجة مطامع متناقضة كحضور الله والحبيبة معاً في الصلاة. قال جميل(35).
لِيَ الوَيْلُ مِمَا يَكْتُبُ المَلَكَانِ
أُصَلِّي فَأَبْكِي فِي الصَّلاَةِ لِذِكْرِهَا
وهو تصدع نابع عن عدم التوفيق بين مبدأ اللذة ومبدأ الواقع لدى العذري. إنّ التصدع داخل النفس لا يمثل وعياً دينياً لزمرة من الزمر الاجتماعية، بل يمكن أن يكون موافقاً ذاتياً، ولكن "التقديس الشعري للمرأة والذي يمضي من التضمين الدلالي إلى الشرك لا يطابق الروح السنية، ونحن نعرف أنّ التصوف ذلك والذي هو تمجيد حسي للعشق الإلهي قد أدين باسم الدين، والحال وأنّ العذريين -وإن كانوا قد ألهموا المتصوفة- فإنهم يتغنون بالحبيب ويلحون على وجودها التاريخي"(36). فالملاحظ أنّ "الطاهر لبيب" يعطي الأولوية للعذرية في تأثيرها في التصوف لا العكس. وهي فكرة نقيضة لما يراه "غنيمي هلال" الذي يذهب إلى أسبقية الصوفية وتأثيرها في العذرية، "إذ لا شك أنّ للحالة الاجتماعية أثراً في ترغيب كثير من الناس في الزهد في العصر الأموي، إذ يئس القوم من الوصول إلى المثل الدينية التي كانوا ينشدونها في حكامهم. فضاقت نفوسهم بالحياة ذرعاً. وقد كان لهذا الاتجاه في الزهد صدى لدى الغزليين من العذريين إذ عفوا عن الملذات الحسية، وأدركوا الحب على نحو جديد يتمثل في الزهد في المتع الجسدية. وكان هذا الإدراك وليد عصرهم والدعوة الدينية إلى الزهد فيه"(37). كما أنّ طابع التقديس الذي أحيط بالمرأة في الشعر العذري يتعارض مع الروح الإسلامية، لأن فكرة تجسيد العشق الإلهي مرفوضة دينياً. ومن ذلك نستخلص أسباب رفض "الطاهر لبيب" لتفسير شكري فيصل. وهو الشيء الذي لا يستطيع أن يتجنبه.
إنّ الذي لا يستطيع أن يتحاشاه صاحب سوسيولوجيا الغزل العربي في قراءته ذلك التناقض بين دعوته إلى النقد المحايث من جهة، ولجوئه إلى السياق التاريخي في تفسير الظاهرة العذرية من جهة أخرى، مثلما نلفيه يعود "لابن الجوزية" ويورد رأيه في عفة العذريين، ويظهر التناقض بين الحب والعقل أي بين الهوى والإيمان الديني، كما أنه يعود إلى صاحب الأغاني ليقتبس نصاً يؤيد به ما يريد أن يثبته، ولا سيما إضفاء الطابع المأساوي على رؤيا الشاعر العذري.
يطبق "الطاهر لبيب" مقولة التماثل على العمل الأدبي الذي يحدده ككون رمزي تنشئه زمرة اجتماعية يمثلها المؤلف، إذ تتحول فيه المرأة الحبيبة إلى رمز وسيط يتخذ شكلاً غامضاً ومشتتاً في بيئة بدوية، لا يمكن الاعتقاد بأنها تدفع الإنسان إلى إعمال العقل الواقعي والعملي في الطبيعة الإلهية والتأمل فيها. وهذا هو السبب الذي جعل رسالة الإسلام في نظر "الطاهر لبيب" تنطلق من المدينة بدل البادية، لهذا صعب على البدوي فهمها "وهنا كان على العامل البئوي أن يملي وسيلة تشكيل" وعي ممكن" يستطيع الإيمان الديني أن يتخذ له مكاناً فيه"(38)، وهكذا يعود مرة أخرى إلى السياق التاريخي في مقاربة الظاهرة، كأن يركز على عامل البيئة في نقده، وهذا يذكرنا بمنهج "تين"(39) الذي يركز على عامل "البيئة والجنس والعصر" ويدخل ذلك في إثبات دور البيئة في تفسير الكون العذري المحدد هنا في الصحراء، وما يتصل بها من ظمأ. "فهل يمكن القول بأن هذه الرغبة المطلقة تولد حقاً عن وضع بئوي؟ نعم إلى حد ما"(40). وهذا الجزم يدل على أنّ قراءة "الطاهر لبيب" لا تتمتع بالصفاء المنهجي الذي حاولت أن تحتفظ به. وقد حصلت من خلال الأخذ بعامل البيئة في مقاربة الكون العذري، إلى أنّ الظمأ الذي يصوره الكثير من العذريين له صلة بالرغبة الجنسية التي تتحول في حالة الإخفاق إلى المازوشية. | |
|
| |
هبة الله الادارة
نقاط : 13559
| موضوع: رد: الشعر العذري في ضوء النقد العربي الحديث الأربعاء أبريل 01, 2009 9:59 am | |
| هـ- العفة شعر أم حقيقة؟
يؤكد "الطاهر لبيب" في مناقشته للعفة العذرية وجوب الفصل بين الصورة الأدبية وانعكاس الواقع، وبين التجربة التي عايشها الشاعر في الواقع والوعي الممكن الذي تظافر في تكوينه مجموعة من الملامح المختارة عشوائياً من الواقع ومن واقع المتلقي، ثم يكون للإدراك دور في إعادة تشكيله والتعبير عنه تعبيراً رمزياً، بحيث يسهم ذلك في بناء الكون الشعري.
لذلك يلح الباحث على التعبير عن ضرورة التمييز بين نوعين من العفة "إحداها عيشت حقاً، والثانية من الناحية الشعرية"(41). فهذه الثنائية مطروحة من منطلق الموازنة بين الموقف الوسط للمسلمين في نظرتهم إلى الجنس، والذي يشكل القسم الإيجابي للعفة، وبين العفة الشعرية عند العذريين، التي لا تخلو من تناقضات لم يستطيعوا الإفلات منها.
ولتوضيح الموقف الوسط لنظرة المسلمين إلى الجنس، يعمد "الطاهر لبيب" إلى قراءة القاموس اللغوي لبعض الألفاظ العربية والتي يرى فيها دليلاً على أنّ الكثير من المفردات العربية ذات دلالة جنسية. فمثلاً مصطلح إعراب "من بين دلالاته "الجماع" والمعنى نفسه يقال بالنسبة لنعت الشاعر "بالفحل" فيه معنى جنسي. فالفحولة رد إلى الوضع السلبي الخاص بالنساء. ينضاف إلى ذلك أنّ العرب المسلمين أكثروا من الحديث عن الوضع الجنسي للحياة البشرية من خلال اجتماعهم بنماذج قصصية كقصة يوسف (عليه السلام) مع "زليخة"، التي تميزت بسمو العفة على الشبقية، بتخلي "يوسف" عن إغراء الرغبة. ولكن هذه الرغبة قد أشبعت فيما بعد عند الزواج "بزليخة. وكذلك عبروا عن النظرة الجنسية من خلال الحديث عن "سليمان" (عليه السلام) الذي تقول التوراة بأنه "كان له سبعمائة زوجة من رتبة الأميرات، وثلاثمائة محظية، وأنّ نساءه شردن قلبه، وكثيرة هي النصوص الإسلامية التي تكرر أنه كان يطوف على تسعين امرأة في الليلة الواحدة: (أي بمعدل عشر دقائق لكل منهن، إذ كان يخصص للعملية الجنسية اثنتا عشرة ساعة في اليوم دون حساب للوقت الضائع. ولا محل لقوسي الاستغراب هذين بالنسبة لابن الجوزية الذي يؤكد في كتاب مهم له، أن من البديهي أن سليمان يستعيد لدى كل منهن، رغبة متجددة وحرارة تدفعه إلى الجماع"(42).
وهي أخبار في نظر "الطاهر لبيب" تقدس القوة الذكرية عند المسلمين على أساس أن الرغبة الجنسية عند المسلمين تؤكد التفوق الذكري على الأنثى لذلك شرع للذكر الزواج بأكثر من واحدة وألزم الأنثى بالالتزام بالواحد التي تشاركها فيه أخريات. وقد أكد ذلك تعديد الرسول صلى الله عليه وسلم للزوجات حتى وصلت إلى التسعة أو الإحدى عشر حسب اختلاف الروايات.
بقدر ما تقدر هذه ثقافة الجنس، فهي تنظر إليه نظرة وسيطة بعيدة عن الشبقية، فالإسلام يشجع الزواج الذي تقصيه العذرية والذي يتأكد من خلال اتفاق الأخبار والسيَّر والكون العذري في حد ذاته على إقصاء الزواج والعمل من أجل الحيلولة دونه، لأن الديمومة العذرية لا تستمر إلا بإقصاء الزواج.
فالنظرة الإسلامية للجنس تربطه بالواجب المقدس وتنظر إليه على أنّه عبادة، وأنّ العجز عنه مأساة وابتلاء إلهي. فالمسلم الذي يعرف أنّ الأمر يتعلق في نهاية المطاف بالعضو الجنسي لا يتردد في جعل هذا موضوع دعاء إلهي، بل حتى أثناء الصلاة ويستند "الطاهر لبيب" في ذلك على ما ينقله "ابن الجوزية" في "روضة المحبين" من أنّ "الليث بن سعد كان إذا غشي أهله قال: اللهم شد لي أصله. وارفع لي صدره وسهل علي مدخله ومخرجه، وارزقني لذته، وهب لي ذرية صالحة، تقاتل في سبيلك وكان جوهرياً، فكان يسمع تلك منه رضي الله عنه"(43). فالقوة الشهوانية ليست شبقة في النظرة الإسلامية، وإنما هي وسيلة مشاركة واندماج في جماعة المسلمين. فالجنس وسيلة تحقيق الذات وحفاظ على النوع وبقائه، وهو مقصد من مقاصد الشريعة الإسلامية.
واستناداً إلى ما قرره "الطاهر لبيب" حول النظرة الإسلامية للجنس، والوسطية التي تميزت بها هذه النظرة والتي بنيت فيها العفة على أساس ديني، فإنه لا يقضي على الزواج، وإنما يجعل منه وسيلة لمرضاة الله، وتحقيقاً للذات. فالعفة لا تعني إقصاء الزواج أو الإعراض عنه إذ لا عزوبة في الإسلام.
إنّ المتأمل في الظاهرة العذرية، ونظرة الإسلام للجنس في نظر "الطاهر لبيب"، يدرك فروقاً جوهرية بين الجنسية العربية الإسلامية ذات المنبع الديني، والعفة العذرية من حيث هي تعفف جنسي وأنّ تفسيرها تفسيراً دينياً يحمل نظرة فقهاء أكثر من أنّها نظرة شعراء.
فمعارضة الزواج عند العذريين هي النتيجة الرمزية لرفع الحبيبة إلى مستوى المثال، وليست النتيجة الطبيعية لرفض الرغبة الجنسية، ما دامت هذه حاضرة دوماً في الكون الشعري، فكل شيء مسموح به عند العذريين باستثناء العملية الجنسية، وبذلك يتعارض العذريون من الناحية الشعرية دوماً مع المسلم المعتدل كما يتعارضون من حيث هم شعراء مع الإباحي. فالنظرة الدينية تنظر إلى مقدمات الزنا نظرة تحريم أما العذرية فإنه يرى في التواصل الجسدي بين العاشقين على مستوى النصف الأعلى للجسم الأنثوي عاملاً أساسياً في تشكيل الرؤية العذرية، والكون الشعري لديهم. أما الذي لا يقدم عليه العذري هو العملية الجنسية التي توصل إلى النصف المتبقي من جسد المرأة (الجزء الأسفل)، لذلك نلاحظ أنّ وصف النصف السفلي من الجسد غائب عن الكون العذري، ولتعليل ذلك يلجأ "الطاهر لبيب" إلى التفسير الميثيولوجي على اعتبار أنّ العادة قبل الإسلام" كانت تشترط بين العشيقة والعاشق أنّ له من نصفها الأعلى إلى سرتها ينال منه ما يشاء، من ضم وتقبيل ورشف"(44)، وهي رواية يوردها "ابن الجوزية" في روضة المحبين" وترجع إلى حضارة الدعة.
والخلاصة التي يريد أن يصل إليها "الطاهر لبيب" هي أنّ "الجانب العفيف في الكون العذري وضعياً يحاول العذريون من خلاله معارضة تصور الحياة الجنسية العربية الإسلامية لعصرهم"(45)، وذلك ما يبعد عنهم التعفف الحقيقي الذي تستلزمه كلمة "ورع" النابعة من إيمان ديني عميق. فالقول بعفة الكون العذري قول يجانب الصواب وبخاصة إذا قصد به "العفة الدينية النابعة عن ورع وتقوى. وهي نتيجة يريد من خلالها صاحب سوسيولوجيا الغزل العربي أن يشكك في القراءة التي تفسر الظاهرة العذرية تفسيراً دينياً، وتذهب إلى أنّ الظاهرة إفراز لتربية دينية نشأ عليها جيل داخل المجتمع الإسلامي في العصر الأموي. ويبني رأيه هذا على أنّ علاقة العفة بالجمال مستوحاة من حضور جمال طبيعي فاتن على نحو خارق، أكثر مما هي مستوحاة من تعفف ديني، وأنّ العذريين يتعففون عن الاتصال الجنسي (الشق الأسفل من الحبيبة)، ولا يتعففون عن النصف الأعلى. فالعفة العذرية تقتصر من الوجهة الجنسية على رفض العملية الجنسية، لكن دون أن تكون الرغبة المؤدية إليها غائبة. | |
|
| |
هبة الله الادارة
نقاط : 13559
| موضوع: رد: الشعر العذري في ضوء النقد العربي الحديث الأربعاء أبريل 01, 2009 9:59 am | |
| 3- الزمرة الاجتماعية:
يستهل"الطاهر لبيب" حديثه عن الزمرة الاجتماعية بتقرير أنّ ما ناقشه في الفصل السابق يشمل ثلاثة أطوار يكمل بعضها بعضاً من الناحية المنهجية:
فالأول يمثل الأساس اللساني على اعتبار أنّه ناقل لمجموعة من التصورات والقيم. والثاني يمثل بنية شاملة للكون العذري من الناحية التصورية، فالعذري بخضوعه لإرادة الإله الواحد، وقع من الناحية التصورية في عالم موسع ومغلق تصورياً من الداخل. والثالث يشير إلى البنيات الصغرى التي تبدو في الظاهر متناقضة في جزئياتها، ولكنها متكاملة في بنيتها الشاملة، وتوضيح العلاقة القائمة بين الكون الشعري والكون الديني.
هذه الأطوار الثلاثة لا تمثل سوى مرحلة أولى هي مرحلة التحليل المحايث للنص، أما المرحلة الثانية، والتي خصصها للحديث عن الزمرة الاجتماعية الحقيقية التي قد تكون أصلاً للكون الشعري العذري، وبذلك انتقل "الطاهر لبيب" في قراءته للظاهرة العذرية من الفهم إلى التفسير بالمعنى الغولدماني للكلمة "فالمجتمع في نظره -حقيقة أكثر تعقيداً أو أقل قابلية للمراقبة بشكل لا نهاية له، لا سيما إذا كان تعريفه بالاستناد إلى معلومات تاريخية مشكوك فيها إلى حد بعيد"(46) وبذلك يطرح من جديد قضية توثيق الروايات التاريخية التي أرخت للمجتمع الإسلامي، واعتبرها مصدراً غير موثوق فيه لبناء عليه نتائج نقدية، ومن هنا نلاحظ أنّ الباحث يخرج في طرحه من النقد المحايث وينتقل إلى النقد السياقي وتلك إحدى المثالب التي تسقط فيها قراءته من الناحية المنهجية.
ومن الإشكاليات التي تثار حول التاريخ الإسلامي والتي يعتبرها ثغرة، هي الجانب الاقتصادي في التاريخ الإسلامي الذي ما يزال مادة خامة لم يقدر للبحث أن يهتم به، وهذا ما جعل القراءات النقدية تنحو منحى روحياً مجرداً، لا يقف على الجانب المادي للمبدعات الأدبية الكبرى، خاصة إذا أدركنا أنّ الجانب الاقتصادي "مكون أساسي لكل تاريخ البشرية"(47) لذلك فإن تحديد الزمرة العذرية يصطدم بعدة صعوبات، وهذا ما يفرض على القارئ الانطلاق من الكون الشعري بإعادة البناء الافتراضي للزمرة الاجتماعية. ولتحديد موقع الزمرة العذرية، يلجأ "الطاهر لبيب" إلى تعامل السياق العام، وهو سياق العصر الثقافي الأموي، لأن السياق السياسي الديني ليس مقياساً علمياً في نظره. فظهور الإسلام لم يغير من العصر تغييراً جذرياً، وهو بذلك يعارض الطرح الاجتماعي الذي يجعل من العامل السياسي الديني أساساً لقراءته والنتائج النقدية التي توصل إليها. | |
|
| |
هبة الله الادارة
نقاط : 13559
| موضوع: رد: الشعر العذري في ضوء النقد العربي الحديث الأربعاء أبريل 01, 2009 9:59 am | |
| ولمعرفة الأساس الاجتماعي التاريخي للكون العذري، يستخلص "الطاهر لبيب" بعض السمات العامة المهيمنة على العصر الثقافي الأموي الذي أصبح يعيش ظروفاً جديدة، فيتحدث عن الصبغة العربية للنظام الثقافي والسياسي للحكم الأموي باعتماده على العنصر العربي في تكوينه "فعصر الأمويين كان بالنسبة للعربي، وفي إطار الإسلام، أكثر تأكيد لوجودهم في التاريخ"(48) ينضاف إلى ذلك أنّ الثقافة العربية في العصر الأموي تشكل تمازجاً بين رواسب ثقافية قبل إسلامية وثقافية إسلامية، فالكون الشعري العذري لم يكن إسلامياً خالصاً، وإنّما كان مزيجاً بين الموروث الثقافي الجاهلي والثقافة الإسلامية الجديدة بكل ما تحمله من تصورات، هذا إذا لم نقل بأنّ هناك تأثيرات خارجية.
ولهذا ينطلق "الطاهر لبيب" من فكرة التناص التي تعتمد على تداخل النصوص وتعالقها، ويؤكد صعوبة تحديد أولية النص العذري، لا من حيث الجانب التاريخي المحض ولا من الموقع الجمالي البحت، ويستشهد بنص "لجيليا كريستيفا" التي تذهب إلى أنّ إنتاج النص يحدث ضمن حركة معقدة ليؤكد نصاً آخر وينفيه في الوقت نفسه، وهكذا فمن الصعب جداً أن نقر مصطلح التأسيس الذي يبدو منافياً لفكرة التناص إذ ليس هناك نص شعري عذري حسب "الطاهر لبيب" يمكن أن يكون مؤسساً للكون العذري قبل العصر الثقافي الأموي، باستثناء الشاعرين "عبد الله بن عجلان وعروة بن حزام".
ولتحديد الزمرة العذرية ينخرط صاحب سوسيولوجيا الغزل العربي في البحث التاريخي والجغرافي، ويؤكد أنّ المصادر التاريخية والعربية والاستشراقية تحصر الشعر العذري في العصر الأموي، وخاصة من خلال الترجمة لأعلامه "قيس لبنى وجميل بثينة وكثير عزة" والتي تقر بوجودهم في العصر الأموي، إلا أنّ عدم اقتناع "الطاهر لبيب" بأنّ الكون العذري ليس وليد الفترة الأموية يجعله يرجع إلى رأي "شكري فيصل" -الذي سبقت الإشارة إليه فيما سبق-. والذي يجعل الشعر العذري إفرازاً للتربية الإسلامية، فيعارضه برأي المستشرقين -بخاصة "ماسينيون"- الذين "يرون عن حق أنّ قسماً من الشعر العذري لا يمكنه أن يكون إلا منحولاً، نظم لاحقاً قصد تغذية الأسطورة العذرية التي جرى تقديرها انطلاقاً من القرن الثامن الهجري، على الأرجح بين المستوطنين اليمينيين من جند الكوفة"(49) فالمستشرقون يشككون في الحقيقة التاريخية لكثير من الشعر العذري، وعلى الرغم من ذلك فإن "الطاهر لبيب" يقر بأنّ هذا الرأي فيه جانب من الصواب ويؤكد بأنّ الهدف من ذلك ينبغي أن يكون غاية في ذاته.
ثم ينصرف تفكير الباحث بعد ذلك إلى العناية بما يسميه تأويل الحب العذري من قبل تلك القصص التي حيكت حول الشعراء العذريين، وبالتالي فإنه لا يعني بالبحث عن الحقيقة التاريخية أو عدمها بالنسبة للشعراء العذريين، وإن كانت المصادر السابقة واللاحقة لا تشكك في وجود هؤلاء الشعراء، وهذه الظاهرة بذاتها. ليعود من جديد فيحاول أن يحيط بالظروف التي أحاطت بالظاهرة من مثل انتشار القيم الإسلامية، والتوجه العربي للسياسة الأموية، التي ظلت تؤسس للعنصر العربي، لتجعل منه السلالة السيدة في كل مجالات الحياة، مع إعطاء دعم كبير لتطور الحياة الاجتماعية والاقتصادية وبخاصة في المناطق الحضرية، مما أفرز تعارضاً بين البدو والحضر، والذي كانت له مصادر في التكوين الاجتماعي القديم للمجتمع العربي. ولكن الملاحظ على طرح "الطاهر لبيب" أنّه ينتقي النصوص التي تخدم ما يذهب إليه، ويؤكد بخاصة تشكيكه في مذهب "شكري فيصل" ويميل إلى القول بأنّ الظاهرة العذرية ليست إفراز للتربية الإسلامية، وإنّما هي إفراز لخلفيات ميثيولوجية قديمة ومؤثرات اجتماعية واقتصادية جديدة. وبذلك ينفي عنها المؤثر الديني بعدما عاد إليه كما بينا في السابق.
إنّ مسألة تحديد الزمرة العذرية تطرح تساؤلاً فيما إذا كان العذريون بدوا تماماً؟ لأن المعلومات التاريخية حول هذه المسألة مبهمة مما جعل "الطاهر لبيب" عاجزاً عن تحديد الجانب البنيوي لهذه الزمرة نظراً لعامل الترحال الذي كان يميز حياة البدو الرحل، إذ ليس هناك انتماء جغرافي واحد لشعراء العذرية، وليس هناك إجماع لانتسابهم القبلي الواحد، ويفسر هذا التشتت في الأسماء والأنساب بحدوث هجرات متعاقبة للقبائل الجنوبية اتجاه الشمال بدأ من القرن السادس الميلادي، ويرجعها إلى الجفاف الذي ضرب منطقة الجوف اليمنية وتصدع سد مأرب، ويستند في تفسيره إلى رأي (فادي) الذي يبسطه في كتابه "الحس العذري في المشرق" والذي مفاده أن الأسطورة انتقلت إلى بني عذرة عن طريق النخبة المدنية المكية التي يحصرها في "النعمان بن بشير" و"ابن أبي عتيق" وينتهي في الأخير "أنّ هذه الزمرة جسدت هذا الحب، وتماهت، معه، وعبرت عنه في مرحلة أدبية مفصلية، شهدت ولادة شعر حضري صريح، ومضاد في إيروسيته. كان أحد أكبر ممثليه "خليفة ماجن" هو الوليد الثاني، من هنا فبإمكاننا، كي يجعل التحليل ملموساً أكثر نسبياً أن نعتبر هذه الزمرة عينة تمثل، بما يمكن من التمثيلية، أوائل العذريين، ونحاول الإحاطة بها عن كثب قدر الإمكان"(50). إلا أنّ الإحاطة بها صعبة، نظراً لعدم تجانس طبيعة الحجاز، فوادي القرى وهو موطن بني عذرة "معزول بوضوح عن نجد شرقاً، وتهامة غرباً، بسلسلتي جبال الحجاز المتوازيتين، وقد حد هذا التأطير الطبيعي، وجهة، اتصالات بني عذرة بالعالم الخارجي"(51)، وبذلك يحاول الباحث تحديد إطارهم الجغرافي عن طريق دراسة المناخ والتضاريس لينتهي إلى أنّ بني عذرة كانوا نصف حضريين معزولين، وعزلتهم راجعة إلى أنّ تاريخ العذريين ما قبل الإسلام كان خالياً من المآثر الحربية، وهو ما يفسر عزلتهم، ويعتمد في رأيه هذا على ما توصل إليه "فادي"، ينضاف إلى ذلك أنّ بني عذرة لم يكونوا يتميزون باستقلال اقتصادي، الأمر الذي حتم عليهم إقامة علاقات مع قريش والأوس والخزرج وهم من القبائل المتحضرة. وبذلك يحاول "الطاهر لبيب" الوصول إلى أنّ بني عذرة لم يكونوا من البدو ولا من الحضر، إنّما كانوا نصف حضريين مهمشين اقتصادياً واجتماعياً، وأنّ الكون العذري لا يحمل حساً دينياً كما تذهب إلى ذلك الكثير من القراءات "فنمو عاطفة عذرية مأساوية على نحو كوني، ضمن وسط ثقافي لا مأساة فيه عموماً كان تعبيراً عن محاولة التجريد، أو تجاوز مجموعة من القيم ذات قوى جاذبة عن طريق اللامبالاة. لقد حل محل التنافس القديم إله واحد وسلطة ملكية. الشيء الذي يدفعنا إلى استخلاص أنّ العذريين وعلى خلاف الفكرة الشائعة عنهم، كانوا بعيدين عن التكيف مع الكون الديني، الذي أوحي لهم، مع ذلك، بخطاطة كونهم الشعري بالذات، وهو لا تكيف يفضي بنا إلى زمرة واقعية، هامشية بنحو خاص، ولا سيما على الصعيد الاقتصادي"(52) وبذلك يربط "الطاهر لبيب" بين حرمان العذري من الاستمتاع بتملك الحبيبة والذي يشكل أساس الكون العذري، وبين عدم الإشباع الجنسي، والحرمان الاقتصادي والاجتماعي. وهي خلاصة غير مبررة ومنطقية من خلال العرض التاريخي الذي استند إليه في تحديد الزمرة الاجتماعية لبني عذرة، وهو تفسير يبدو أنّه يمزج بين الطرح "الفرويدي" و"الماركسي" مزجاً لا يتلاءم كثيراً مع المنهج الذي تبناه الباحث في أطروحته. | |
|
| |
هبة الله الادارة
نقاط : 13559
| موضوع: رد: الشعر العذري في ضوء النقد العربي الحديث الأربعاء أبريل 01, 2009 10:00 am | |
| إنّ الكون العذري في نظر المؤلف يحمل استراتيجية جنسية "من الممكن أن يتم البحث عن تفسير للدور المسند إلى الشخصية العذرية، على مستوى التعالق الرمزي بين الوضعية الاجتماعية الاقتصادية والموقف الجنسي المتميز. وبما أنّه لم يعد ثمة من مجال للحديث عن عفة ما، بل عن رغبة غير مشبعة، فإنّ البطل يعرف بوضعية خاصة به. أنه يجابه منعة الحبيبة في جو ملائم،عموماً، للتظاهرات الجنسية (تمجيد قوة الذكورة، والتشجيع على الزواج). ولندقق القول: أنّ هذه المنعة، التي يحس بها الشاعر العذري كأنها عائق أمام النزوة الجنسية، ليست شيئاً آخر سوى الرفض الشعري للجماع، ذلك الرفض الذي اشتق منه العذريون اسمهم، والذي تترجمه الأسطورة باستحالة الزواج، ورغم كل مخاطر الاختزال، فإن المسألة الجوهرية تظل هي التالية: ماذا يمكن أن تكون دلالة هذا الامتناع المتموضع أو المضبوط جنسياً؟"(53).
فالطرح الاجتماعي والاقتصادي الذي تتبناه قراءة "الطاهر لبيب" هو الذي جعله يقصي الطرح الديني في تفسيره للظاهرة العذرية، لأن "الظهور المتزامن للنمط العذري والدون جواني الحضري في العصر الأموي يشير إلى فترة اتسعت فيها الفوارق بين مختلف الشرائح، وخاصة، كما لابد من الإلحاح على ذلك، في مجال الملكية. ذلك أنّ مفهوم هذه الأخيرة لا يمكن أن تثيره صورة امرأة يستغلها"عمر بن أبي ربيعة" على هواه، لكي يأتي العذري فيلقاها، كل مرة، بدون جنس"(54) وهو طرح يقترب من الطرح الطبقي الذي قدمته قراءة "طه حسين" للغزل العذري.
يعود "الطاهر لبيب" للحديث عن المرحلة التاريخية التي مر بها المجتمع الإسلامي بين فترة الرسول والخلفاء الراشدين وبين الفترة الأموية ليشير إلى الفوارق الجوهرية بين الفترتين في المجالين الاجتماعي والاقتصادي. فالمرحلة الأولى حاولت إرساء مبادئ العدالة الاجتماعية والسياسية داخل المجتمع الإسلامي وحققت ذلك ميدانياً وبخاصة في فترة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، إلا أنّ الفترة الأموية شهدت انتكاسة لآمال الشعوب الإسلامية في العدالة التي رأوا نموذجها يتجسد ميدانياً في فترة "عمر بن الخطاب". بينما شهدت الفترة الأموية تفاوتاً في كل المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية "فضمن هذه البنية الاجتماعية الاقتصادية الجديدة، حيث كان أكبر قسم من الثروات يتراكم بين أيدي شريحة من المحظوظين، دون أن يواصل استخدامه للاستهلاك المباشر، بل لإعادة الإنتاج الموسع، نما الحب العذري، والحب الإيروسي على نحو متواز، وهما استراتيجيتان كانت المرأة فيهما مجرد مرادف عاطفي لرأس المال الجديد. لقد قامت دون جوانية "عمر بن أبي ربيعة" على استثمار امرأة المجتمع الراقي النبيلة والغنية، في غير تسوية منتجة فكان النجاح المتصور والمقدم باعتباره ارتقاء أرستقراطياً، من الناحيتين المادية والمعنوية يولد إحساساً بالرضى لا يحاول مطلقاً أن يضع النظام الاجتماعي القائم موضع اتهام. أما عند العذريين فإنّ الحب هو حب استلاب... فالعمل الذي يتحمل نية البطل كل أشكال العناء لا ينتهي أبداً إلى نتيجة... إنّ الظلم الذي يكثر العذريون الحديث عنه يفترض ألا يكون هذا الاستلاب مجرداً من التطلعات المطلبية، ولا يمكن لصورة حبيبة متزوجة، أي حبيبة صار عضوها الجنسي أو نتاجيتها مملوكين عن غير حق لرجل غني إلا أن تثير في الذهن سيرورة عمليات التملك الأموية"(55)، فالمرأة في الكون العذري لها بعد زمري يعبر عن التفاوت الطبقي الذي شهدته المرحلة الأموية في التاريخ الإسلامي والتي عمقت الهوة الاجتماعية بين الطبقات إذ "إنّ الشخصية العذرية مدغومة بالظلم إلى الحد الأقصى، إلا أنّ رفضها مستبطن، سري، مثله في ذلك مثل لغتها، وبكلمة واحدة، فإن رفضها سلبي... الشيء الذي يعني أنّ المجتمع الأموي لم يكن قد نمّى التعارضات فحسب، بل نمّى كذلك هامشية ثقيلة الوطأة، هامشية كانت تجد تعبيرها ضمن الكون العذري، في امتناع عن الجنس، ذلك أنّ العذري، وهو يطمح إلى العدالة كان يتعلق بحبيبة متزوجة، أي بحبيبة تعود إنتاجيتها إلى رجل غني، إلا أنّه كان ينقاد، كلما عادت إليه، إلى الاستغناء عن إنتاجيتها"(56). فالجنس في الكون العذري يحمل دلالات سياسية اجتماعية، وبذلك تتضح الاستراتيجية الجنسية للكون العذري في دلالتها الاجتماعية والسياسية. "فالتراجع أمام الجنس (أو رأس المال) المنتج أمر من الأهمية بمكان في تمييز زمرته، وهو تمييز مراد به التأكيد في مجتمع تكون القوة الجنسية فيه مثل القوة الاقتصادية وسيلة ممتازة لتأكيد الذات، من هنا فإنّ الأمر يتعلق بتعبير ذي دلالة خاصة، في سياقه الاجتماعي التاريخي"(57). فالعامل الاقتصادي في نظر "الطاهر لبيب"، والذي لم توليه القراءات الأخرى اهتماماً كبيراً بل أهملته في كثير من الأحيان، هو الأساس في تشكيل الرؤيا المأساوية التي تميز بها الكون العذري.
فالزمرة العذرية زمرة واقعية محدودة في الزمان والمكان "وهي هامشية واقعية حقاً"(58)، وهامشيتها نابعة من الملابسات الاجتماعية والاقتصادية التي أحاطت بها، بذلك ينتهي "الطاهر لبيب" من خلال هذه الخلاصة إلى رفض مقولة الانعكاس وتبني مفهوم التماثل، فهو يرفض أيضاً التفسير الذي يرى بأن الظاهرة العذرية تعبير عن المجتمع الأموي، لأنها في تصوره تعبير عن زمرة اجتماعية هامشية، جعلت من الجنس استراتيجية للتعبير عن رؤيتها للعالم، كما أنّ العفة صفة ألحقت بالعذرية قسراً بإخضاعها للعامل الديني.
وهذه النتيجة لم تتضح لنا إلا بعد أن استعرض "الطاهر لبيب" جملة من الطروحات التاريخية والاقتصادية والثقافية، وذلك من أجل تحديد صبغة الزمرة الاجتماعية العذرية، ولكنه لم يفلح في نظرنا في تحديدها تحديداً مقنعاً، وبدا رأيه، وكأنه غريب عما رسمه من معالم منهجية لدراسة الظاهرة العذرية، وكان يمكن أن يجعل من تحديد الزمرة العذرية مدخلاً لدراسة الظاهرة العذرية، ويركز فيه فقط على الجوانب التي تتصل بالكون العذري من الناحية الفنية، حتى يجسد مقولة المنهج البنيوي التكويني الذي يربط بين البنية الفنية والبنية الذهنية.
كما نلاحظ أنّ القراءة المحايثة التي طرحها في بداية القراءة كمقولة بديلة لمقولة الانعكاس قد غابت بغياب النصوص الإبداعية، والتي تتجسد من خلالها رؤيا العالم التي تشكل جوهر الكون العذري، مما جعله يسقط في القراءة السياقية وابتعد كثيراً عن القراءة البنيوية التكوينية.
إنّ قراءة "الطاهر لبيب" للظاهرة العذرية قد حاولت تطبيق منهج البنوية التكوينية "للوسيان غولدمان" كما صرح بذلك منذ بداية الدراسة بقوله: "يرتكز هذا المنهج المستوحى من بعض الأبحاث التي تمت في مجال علم اجتماع الأدب، وعلى رأسها أعمال "لوسيان غولدمان" إلى مبدأ بسيط، هو أنّه ينبغي مساءلة الشاعر، بل مساءلة شعره، ومن ثم فإن موضوعه هو التحليل المحايث للأثر، أي الإبانة عن شبكة من الدلالات الباطنية التي ينبغي الانتهاء إليها دون قسر النص"(59)، لكن السؤال يبقى مطروحاً حول مشروعية تطبيق هذا المنهج كغيره من المناهج النقدية الأخرى التي قدمناها في الفصول السابقة حول نص أدبي قديم له مواصفاته الخاصة، وطبيعته الفنية المتميزة. هل طبق هذا المنهج بحذافيره، كما نشأ أول مرة عند أصحابه أم عدل فيه، بحيث يصبح صالحاً للتعامل مع هذا النص أو ذاك؟ ومن ثم يحق التساؤل أيضاً. هي استطاع "الطاهر لبيب" أن يكيف منهج "لوسيان غولدمان" حتى يتسنى له مقاربة النص العذري مقاربة تأخذ بمشروعية الأسئلة السابقة، وتنتهي إلى نتائج مرضية عموماً؟.
في واقع الأمر أننا لا نستطيع أن نتجاهل الجهد العلمي المبذول في هذه القراءة، نظراً لأنه يتطلب استيعاب منهج جديد كل الجدة وفهمه، ثم تطبيقه على النص العذري، ينضاف إلى ذلك التنبيه إلى العامل الاقتصادي ودوره في بناء الكون العذري، والذي لم تقف عنده الكثير من القراءات السابقة، ما عدا قراءة "طه حسين"، أما القراءات الأخرى فقد أعطت للعامل السياسي والاجتماعي والنفسي والديني دوراً رائداً في تشكيل الكون العذري. ولكن التثمين لهذا الجهد الذي بذله الباحث لا يمنعنا أبداً من ملاحظات حول هذه القراءة. بحيث نلفي صاحبها يتبنى بنيوية "لوسيان غولدمان" ويطبقها على الشعر العذري دون من يزودنا بنموذج واحد من نصوص الغزل العذري ويكتفي بالاستشهاد بأبيات معدودة منتقاة ليدعم بها منهجه، علماً أنّ النص الشعري وسلطته في الدراسة المحايثة ليس بالأمر الضروري فحسب بل هو مطلوب، مما يجعلنا نلاحظ أنّ المنهج حين لا يكون منبثقاً من مادة الدراسة يؤدي إلى التعسف في التطبيق واستخلاص النتائج. | |
|
| |
| الشعر العذري في ضوء النقد العربي الحديث | |
|