يتعلق معظم الناس بالحياة الدنيا ولهوها ومتاعها وزينتها ولا يرون متعة غيرها، فتغرّهم عن آخرتهم، وتنسيهم متعتها القصيرة الخلود في الآخرة والنعيم الذي لا ينتهي. فالدنيا هي كل آمالهم، وغاية طموحاتهم، رغم التحذير القرآني في قوله تعالى “فلا تغرنكم الحياة الدنيا”.
ويتنزل القرآن الكريم بالأمثال التي يضربها لنا الخالق عز وجل ليبين لنا حقيقة الحياة الدنيا حتى نتعامل معها بما فيه الخير لنا في الدنيا وفي الآخرة، وحتى لا نندم بعد فوات الأوان.
متعة محدودة
ففي سورة الكهف يقول الحق جل وعلا “واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه الرياح. وكان الله على كل شيء مقتدراً”. فهي متعة محدودة موقوتة لا بقاء لها، كالماء ينزل من السماء فيتشربه النبات ويزهو وتزداد نضارته ويعجب صاحبه، ثم يجف وتذروه الرياح في كل مكان فلا يبقى منه شيء، وهو ما يعبر عنه قوله تعالى: “إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام. حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازيّنت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس”. (يونس - 24). فليفرح الناس بما في الحياة الدنيا، فمهما تيسرت لهم وتزينت وحَلَتْ فسوف تنتهي فجأة وبلا سابق إنذار، حين يأتي أمر الله فيمحو كل ما فيها وتعود خراباً لا حياة فيها كأنما لم يكن فيها أي نعيم أو متاع أو زينة.
ويتكرر المثل المقارب في معناه لذلك في قوله تعالى “اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد، كمثل غيث أعجب الكفار نباته. ثم يهيج فتراه مصفرّاً ثم يكون حطاماً”. (الحديد - 20). لعبٌ يلهي الناس عن غيره، وزينة تبهرهم فيقبلون عليهم، ويتنافسون ويتفاخرون بما عندهم من أموال وأولاد وكلها نعيم زائل، مثل الغيث الذي ينمي النبات ويكثره ويزيد من رونقه وبهائه فيفرح به الكفار فرحهم بما ينفقون من أموال ويحققون من متع في الحياة الدنيا تعجبهم ويتباهون بها غير مدركين أن مآلها كهذا النبات الذي يجف ويذهب رونقه وخضرته وبهاؤه ويتحول الى حطام لا فائدة منه ولا رجاء فيه، كذلك حال الدنيا لمن جعلها همّه وشاغله وطموحه، ناسياً ربه، وناسياً أنها مَعبر للآخرة ومقدمة لها.
ومهما طال عمر الإنسان في الدنيا فهو الى نهاية وموت ينهي ما فيها من لهو ولعب، ويبقى الخلود والحياة الحقيقية في الآخرة دار القرار “وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون”. (العنكبوت - 64).
حتمية البعث
ويغفل كثير من الناس عن البعث بعد الموت فيضرب لهم القرآن الكريم الأمثال من الواقع الذي يعايشونه ومما يرونه كل يوم “فانظر الى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها، إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير”. (الروم - 50). وتتكرر الأمثال مؤكدة ذلك المعنى في آيات أخرى مثل قوله تعالى: “وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج. ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير، وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور”. (الحج: 5 - 7).
يبعث الناس ويخرجون جميعاً من الأرض كما يقول الحق سبحانه وتعالى: “يوم تشقق الأرض عنهم سراعاً، ذلك حشرٌ علينا يسير”. (ق - 44).
وهل رأيت الأرض المنبسطة الميتة لا حياة فيها، وإذا بها في يوم محدد بل في ساعة محددة تتشقق ويخرج منها الجراد نافضاً عنه التراب بالآلاف المؤلفة، حيث تتغير الصورة تماماً وتدب الحياة في تلك الأرض الجرداء، فهكذا سيُبعث الناس بأمر الله سبحانه وتعالى: “خُشعاً أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر”. (القمر - 7). صورة حية ومثل معبر عن بعث الناس وخروجهم من الأرض يوم القيامة “مهطعين الى الداعِ يقول الكافرون هذا يوم عسِر”. (القمر -
.
وحين تعجّب الكافر من البعث وأنكره، وأتى الى الرسول عليه الصلاة والسلام بعظمة ميت وسحقها بين أصابعه وسأل منكراً: كيف يحيي الله العظام بعد أن تُبلى وتصير تراباً؟ كان هذا هو المثل الذي ضربه الكافر، فجاء الرد عليه آيات بينات في آخر سورة (يس) “وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه” فلو تذكر كيف خُلق من عدم وأحياه الله من موت لما تساءل ولما ضرب هذا المثل “قال من يحيي العظام وهي رميم. قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلقٍ عليم. الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً فإذا أنتم منه توقدون. أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم. بلى وهو الخلاّق العليم. إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون. فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه تُرجعون”.. وهكذا تتوالى الأمثال للرد على تعجب ذلك الكافر المنكر للبعث.. فهناك خلقه الأول من تراب ثم من نطفة. فالذي خلقها أول مرة قادر على أن يحييها مرة أخرى. هكذا يقول العقل والمنطق السليم.. وهناك الشجر الأخضر، من أودع فيه إمكانية أن يعطي ناراً؟ ومن أودع فيه تلك القوى العجيبة لتخزين الطاقة في مادته من أشعة الشمس ومن الهواء لوجود مادة اليخضور (الكلوروفيل) التي تعطيه اللون الأخضر والتي تستقطب ضوء الشمس وحرارته مع ثاني أكسيد الكربون والماء لتكون المواد التي تحترق لتعطينا الطاقة التي من دونها ما تقدم الإنسان، ألا وهي طاقة البترول الذي هو عبارة عن بقايا النباتات الخضراء في باطن الأرض منذ آلاف السنين. وطبعاً كان المعنى الذي استوعبه ذلك المنكر للبعث وقتها هو احتراق أفرع الأشجار للحصول على النار وذلك قبل مئات السنين من اكتشاف البترول واكتشاف الأيض النباتي بمادة اليخضور أو الكلوروفيل.