“واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماءٍ أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح، وكان الله على كل شيء مقتدرا” (الكهف: 45).
تسقط الامطار فينمو الزرع وتخضر الأرض وتمتلئ بالحياة، وتتعدد ألوان الاوراق والازهار لفترة قصيرة، تموت بعدها كل تلك النباتات وتجف اوراقها وسيقانها وتتحطم وتصبح هشيما لا قيمة له ولا وزن ولا ارتباط بالأرض، فتأتي الرياح لتذروه في الهواء بعيدا تاركة الأرض جرداء خاوية على عروشها لا حياة فيها ولا أثر للحياة، بعد ان كانت عامرة مزدهرة تسر الناظرين.
نهاية حتمية
هكذا الحياة الدنيا، متاع قليل، وزينة فانية لا بقاء لها، ونبات الى فناء، وازدهار خادع لا استمرار له، وهذا هو مثلها الذي ضربه لنا الحق تبارك وتعالى في القرآن الكريم في أكثر من موضع، كما جاء في سورة الكهف في الآية المذكورة آنفا، وكما جاء في سورة يونس “إنمّا مثل الحياة الدنيا كماءٍ انزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس، كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون” (يونس:24) فهل يتفكر الناس ويتدبرون هذا المثل المعبر ابلغ التعبير والذي يعاصرونه طوال حياتهم، حيث لا يبقى شيء ولا أحد على حال، ولكل بداية في الحياة الدنيا نهاية حتمية يحددها المولى عز وجل.
وتطالعنا الآية “21” من سورة الزمر بصورة أخرى قريبة من مدلولها ومعانيها حيث تقول الآية الكريمة “ألَمْ تَرَ أن الله انزل من السماء ماءً فسلكه ينابيع في الأرض ثمّ يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرا ثمّ يجعله حطاما ان في ذلك لذكرى لأولي الألباب”.
هكذا خلق الله سبحانه الدنيا وجعلها مرحلة قصيرة من مراحل الوجود الانساني الذي بدأ بالتراب والماء وسينتهي بالخلود، إما في جنة وإما في نار.. وكل شيء هالك إلا وجه الله، وكل مخلوق له نهاية مهما طال عمره أو قصر، فالإنسان له عمر محدود لا يتعداه.. عشرات من السنين يأتيه بعدها الموت وقد يأتيه في أي مرحلة من مراحل عمره، في أي يوم أو في أي لحظة من حياته بأمر الله من دون سابق انذار، والجنس البشري كله له عمر على الأرض يفنى بعده بقيام الساعة، والأرض والشمس والقمر والكواب والنجوم كل منها له عمر وأجل محدود وإن امتد ملايين السنين، بل ان الكون كله له نهاية كما كانت له بداية ينتهي بعدها ولا يبقى منه شيء “كل شيء هالك إلا وجهه” (القصص: 88) ويقول سبحانه وتعالى “يَوْمَ نطوي السماء كطي السجل للكتب، كما بدأنا أول خلق نعيده، وَعْداً علينا، إنا كنا فاعلين” (الانبياء: 104). والحياة الدنيا لا بقاء لها ولو تفكر الانسان قليلا وتدبر ما يحدث أمام عينيه كما تبين الأمثال السابقة، لتعامل مع الدنيا على هذا الأساس ولنزعها من قلبه وجعلها طريقا لصلاح الآخرة ولم يجعلها غاية همه ولا نهاية طموحاته التي ستزول حتما بزوال الدنيا أو بزوال اعراضها أو بزواله هو نفسه من الدنيا.
دار التحديات
ورغم قصر الحياة الدنيا ومحدوديتها إلا أنها أهم مراحل الوجود الانساني، فهي دار التحديات، ودار العمل بلا حساب. اعمل أو لا تعمل فهذا هو منهج الله في الأرض وصراطه المستقيم. لك الحرية وعليك الاختيار والعمل. آمن اذا شئت واكفر اذا شئت. لا إكراه في الدين، ولكن اعلم جيدا ان كل ما تقوله وما تعمله مكتوب، ومسجل ومستنسخ وستراه يوم البعث أمام عينيك لتحاسب عليه بالحق والعدل، لقوله سبحانه وتعالى: “اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم” (غافر: 17).
والدنيا مع ذلك، دار متاع ولهو ولعب وتكاثر بين الناس وتفاضل واستعلاء واستكبار وزينة.. دار شهوات وغرائز وفتن وتحديات لا تنتهي إلا بالموت.
وهي بعد ذلك لا تساوي عند الله جناح بعوضة ولا قيمة لها، وكما قيل فإن الله لم يجعل الدنيا ثوابا لمؤمن ولم يجعلها عقابا لكافر وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الدنيا لو كانت تساوي عند الله جناح بعوضه لما رزق الكافر فيها شربه ماء. وستنتهي الدنيا كما بدأت، وسيموت كل إنسان حتما “إنك ميت وانهم ميتون”، لا استثناء من الموت لنبي مرسل أو لغيره من البشر، حتى لو عاش ألف سنة كما عاش نوح عليه السلام ثم مات.
فمن تنبه الى حقيقة الدنيا نزعها من قلبه، وعاش فيها ولم يجعلها تعيش فيه، ولما اغتر بها وجعلها شغله الشاغل، ولأخذ منها وأعطاها ما أمره الله به وجاءت به الرسل الكرام، حتى تكون له طريقا الى السعادة والخلود الأبدي في الجنة إن شاء الله.
لعب ولهو
وباستعراض آيات الكتاب الكريم التي تضرب لنا الأمثال للدنيا وتبين لنا حقيقتها، وبعد ما تعرضنا له من شرح سندرك حقيقة الدنيا وما فيها وبعض سننها التي اودعها فيها الخالق سبحانه وتعالى، ففي سورة الانعام “وما الحياة الدنيا إلا لعبٌ ولهوٌ، وللدار الآخرة خير للذين يتقون، أفلا تعقلون” (آية 32) وفي سورة العنكبوت “وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب، وإنّ الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون” (آية 64).
واستكمالا للمعنى وبيان فضل الآخرة “قُلْ متاع الدنيا قليلٌ، والآخرة خير لمن اتقى، ولا تظلمون فتيلا” (النساء:77) وفي سورة الجمعة “واذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا اليها وتركوك قائما. قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين” (آية 11).
وانظر وتدبر تلك الآية في سورة الحديد “اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد، كمثل غيث اعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان. وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور” (آية 20) فهذا متاع الدنيا الزائل وصوره الزائفة، وهذا مقابله في الآخرة حيث يبدأ الحق تبارك وتعالى بذكر العذاب الشديد تنبيها للعقول الغافلة والقلوب النائمة المغلقة.
كما تقرر الآية الكريمة في سورة آل عمران “زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والانعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب” (آية 14) كلها متاع يزول، يغرّ ويلهي، ولكن لو تفكر الانسان في المآب والمآل لآثر ما عند الله من الخير الدائم ولكان من الفائزين.