ما هي العمارة وما هو الفن؟
في أي مرحلة من مراحل العصور المختلفة التي مرت على العالم سواء في الشرق أو الغرب، سواء قبل التاريخ أو بعده، فنجد أنه لا يمكن الفصل بين الفن والعمارة، وإذ ما تحدث المؤرخون عن العمارة فيصفونها بأنها عمل إنشائي تكويني، نجد أنهم يطرقون باب الفن فيها، ويتحسسون مواضعه، ويحددون مكانه ومكانته، ويبرزون صور الفنان المختلفة فيها، ويطغون بذلك على العمارة، حتى رأينا أنهم في الماضي وصفوا العمارة بأنها فن، وأطلق عليها قدماء اليونان (أم الفنون)، وكان اليونان على حق في هذا التعريف؛ لأن العمارة كانت في تلك العصور لا تختلف عن النحت أو الرسم، وكان الفن هو المتغلب عليها وأخرجها عن الغرض من كيانها.ولقد مرت على العمارة عصور وأجيال كثيرة وهى وقف على الحجر والصخر، وعلى المواد التي وجدها الإنسان حوله من الطبيعة، وعرف الإنسان كيف يستغل تلك المواد استغلالاً صحيحاً، فظهرت العقود والقباب والقبوات، وكلها نشأت على أساس علمي إنشائي صحيح، لا على أساس فني. ثم وجَّه الإنسان همه إلى إخفاء تلك الأحجار الصلبة تحت رداء من الزخارف والحليات والكرانيش بطبقات من البياض، فخرجت العمارة من يد المعماري إلى يد الفنان النحات مثل: (مايكل أنجلو - رفائيل - برنينى - سانجالو.. وغيرهم)، وأخرجت معاولهم تحفاً فنية، ولكنها ليست بمبانٍ سكنية بقدر ما هي نماذج كقطع الأثاث والزينة.. ينظر إليها الإنسان ويعجب من صنعها كحلية، ويتعجب من كونها بنيت للسكن.ولما أخرج اليونان العمارة من مثلث الفنون (النحت - التصوير - العمارة)، وسَمُّوا العمارة بأنها أم الفنون؛ ذلك لأنهم لمسوا بأنفسهم أن العمارة هي التي تكتب تاريخ الفن وتحدد طابعه؛ لأن التصوير والرسم والنحت رهن بوحي الفنان، أما العمارة فهي التي تسخر وحي الفنان المعماري لبناء مطالب الشعب الذي عاصرها، وبذلك جمعت العمارة بين ثقافة العصر وعلومه، واحتياجاته ومطالبه وبين وحي المهندس المعماري وطبعها بطابع الجمال، فجمعت العمارة تحت سيطرتها مجموعة من نواحي الفن المكملة كالنقش والحفر والزخرفة والألوان والإضاءة والأثاث إلى غير ذلك من الفنون الأخرى. عمارة المدن الإسلامية
دائمًا ما أخذت الدراسات التي تتناول عمارة المدن أو تخطيطها طابعًا جافًّا جعل الكثيرين يعزفون عن قراءتها، وبالتالي لم تتكون ثقافة واسعة لأهمية هذه المدن وتراثها. ويجيء في هذه الدراسات (التراث الحضاري والمعماري للمدن الإسلامية) كمحاولة لربط تراث المدن الإسلامية من حيث الشكل والمضمون والمكونات ببعضه، فتستعين تارة بالدراسات التاريخية، وتارة أخرى الاجتماعية، وثالثة المعمارية، ورابعة بعلم أصول الفقه، وخامسة بتخطيط المدن، فمن حيث مصادرها نراها متنوعة، ولكنها أخرجت منها رؤية محددة المعالم متكاملة الأركان . الرسول وأسس العمارة الإسلامية
تبدأ الدراسات بالبحث عن جذور تخطيط وعمارة المدن الإسلامية في المدينة المنورة في العصر الأول، فعندما استقر الرسول صلى الله عليه وسلم بها قام بتحديد الوظائف الأساسية للمكان، ومنها محورية المسجد الجامع، وبساطة وفاعلية المسكن، والسوق، ودور الضيافة، وغيرها... وكلها الأسس المبكرة للمدن الإسلامية والتي قامت على استيعاب تراث السابقين وتقديم الجديد الذي يتلاءم مع روح الدين الإسلامي وقيمه. تقودنا البحوث بعد ذلك إلى المدينة في التراث العلمي الإسلامي ، مبرزة أحوال الإنسان في الاجتماع والأسباب الموحية لاتخاذ المدن، فالاجتماع الإنساني فطرة مجبول عليها الإنسان للحصول على منافعه في الدنيا والآخرة، بدأت بالعجز الفطري الذي دفع إلى الخضوع للخالق، ومن ثَم البحث عن الرزق، ثم التعاون لسد حاجات البعض للبعض لتنتهي إلى اتخاذ المدن، وهي الصورة الإنسانية للاستقرار المؤقت الذي يدوم بدوام الحياة، وينتهي عندما يرث الله عز وجل الأرض ومن عليها. ونتعرف على أهمية المدينة عند علماء الحديث، فقد ربطت بين علم وعلماء الحديث وبين المدن، فحينما تذكر مدينة بمعالمها يذكر معها علماء الحديث بها وطبقاتهم، أما المدينة عند الفقهاء فقد اهتموا بأحكام البناء بها، كما كان لهم دور كبير في صياغة أحكام الأوقاف التي كان لها دور فاعل في نمو المدن. جغرافية المدن خارجيًّا وداخليًّا
وتستطرد في رؤية الجغرافيين المسلمين للمدينة، الذين درسوا المدن وفق قالبين منهجيين: الأول منهج دراسة المدن من الخارج ويندرج تحته كتب الزيوج والجداول الجغرافية، وهي الكتب التي تحدد مواقع المدن باستخدام خطوط الطول ودوائر العرض. ومنهج دراسة المدن من الداخل يندرج تحت كتب الخطط كما هو في الكتب التي وضعت عن خطط مصر منذ النصف الثاني من القرن الثالث الهجري مثل ما كتبه ابن عبد الحكم والكندي والمقريزي، والأخير وضع دراسة مفصلة مشهورة لخطط مصر. ويندرج تحت هذا المنهج الكتب التي أفردت لتواريخ المدن الكبرى كمكة المكرمة وبغداد ودمشق. وكتب الرحلات الجغرافية، وكتب الحضارة والعمران، وهذه تبحث في مدينة العرب وأحوال البوادي والأرياف وعن خصائص مواقع ومواضع المدن، وضوابطها البشرية والطبيعية وعوامل قيامها وزوالها، ومن أشهرها مقدمة ابن خلدون، فأفرد المؤلف هذا الفصل لدراسة تحليلية مفصلة لشروط اختيار مواقع المدن وصفات مواضعها، فابن خلدون يرى أن من شروط اختيار المدن، أن تحاط بسور يدفع المضار، أن تحتل موضعًا ممتنعًا من الأمكنة على هضبة أو على نهر أو باستدارة بحر، مع مراعاة اتخاذ الموقع الذي يتمتع بطيب الهواء للسلامة من الأمراض. وسهولة جلب الماء بأن يكون البلد على نهر أو بإزائه عيون عذبة. طيب المراعي لسائمتهم، ومراعاة المزارع فإن الزروع هي الأقوات. شروط اختيار المدن
يرى ابن الأزرق في كتابه "بدائع السلك في طبائع الملك"، الذي يُعَدّ أول من تناول مقدمة ابن خلدون بالشرح، أن ما يجب مراعاته في أوضاع المدن أصلان مهمان: دفع المضار، وجلب المنافع، ثم يذكر أن المضار نوعان: أرضية ودفعها بإدارة سياج السور على المدينة، ووضعها في مكان ممتنع، إما على هضبة متوعرة من الجبل، وإما باستدارة بحر أو نهر حتى لا يوصل إليها إلا بعد العبور على جسر أو قنطرة فيصعب منالها على العدو، والنوع الثاني من المضار سماوي ودفعه باختيار المواضع طيبة الهواء لا ما خبث منه بركوده أو تعفن بمجاورته مياهًا فاسدة، أو منافع متعفنة أو مروجًا خبيثة يسرع المرض فيها للحيوان الكائن فيه لا محالة. ويكشف عن أن هناك علاقة طردية بين كثرة ساكني البلد وحركة الهواء فيها، ويضرب لذلك مثلاً بفاس التي كانت عند استبحار العمران بأفريقيا كثيرة السكان فكان ذلك معينًا على تموج الهواء وتخفيف الأذى عنه، وعندما خف ساكنوها ركد هواؤها المتعفن بفساد مياهها فكثر العفن والمرض. والأصل الثاني جلب المنافع، وهو يتأتى بمراعاة أمور منها، توفر الماء وقرب المزارع الطيبة؛ لأن الزرع هو القوت، ولا خفاء في أن هذه الأمور تتفاوت بحسب الحاجة وما تدعو إليه ضرورة السكان.