بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمد ونستغفره ونتوب إليه ونصلي ونسلم علي المبعوث رحمة للعالمين محمد بن عبد الله صلي الله عليه وسلم , وبعد:هذا كلام في الرضي غير مألوف, ولكثير من الخلق مجهول غير معروف, وسيقبل عليه العقل وهو ملهوف, وكذلك القلب وهو عطوف, ولا حول ولا قوة إلا بالله الملك الرؤوف.لا شك أنك مؤمن معي بأن كل شئ حدث ويحدث وسيحدث بقدر الله تعالي خيراً كان أو شرا, ومن تمام الإيمان بالله الرضا بهذا القدر.اعلم بأن الرضا يدور علي أربعة أحكام: 1_ الرضي بالقضاء الشرعي, وذلك واجب وهو أساس الإسلام وقاعدة الإيمان
2_ الرضي بالقضاء الكوني القدري الموافق لمحبة العبد, وإرادته ورضاه _ من الصحة والعافية والغني واللذة _ وذلك أمر لازم بمقتضي الطبيعة, لأنه ملائم للعبد محبوب له , فليس فيه عبودية, بل العبودية في مقابلته بالشكر.
3_ الرضي بالقضاء الكوني القدري الجاري علي خلاف مراد العبد, ومحبته _ مما لا يلائمه ولا يدخل تحت اختياره, مثل المرض والفقر وأذي الخلق له والحر والبرد ونحو ذلك _ وذلك مستحب.
4_ الرضي بالقضاء الجاري عليه باختياره مما يكره الله ويسخطه وينهي عنه _ كأنواع الظلم والفسوق والعصيان _ وذلك حرام يعاقب عليه.
وهنا يبدو لك ثلاثة أمور, الأول : القضاء , الثاني : الرضا بهذا القضاء , الثالث : حب هذا القضاء أو بغضه.
وكذلك هناك طرفان, الأول : صاحب القضاء وهو الرب سبحانه , والثاني : المقضي فيه وهو العبد.
وهنا يأتي السؤال : كيف يجتمع الرضي بالقضاء الذي يكرهه العبد, مع كراهيته له ( مثل المرض والفقر والألم ) ؟؟ وذلك بالنسبة للعبد , كذلك بالنسبة للرب سبحانه , كيف يريد الله أمراً يبغضه ؟؟ فمثلاً إذا كان سبحانه يبغض المعاصي والفواحش لماذا قدرها وقضاها؟؟ (هناك حكم جمة وراء ذلك لكن ليس هذا موضع ذكرها ), وإذا كانت الفواحش من قدر الله, ألسنا مأمورين بالرضا بالقدر ؟؟ فنرضي بما قُدِّر علينا من الذنوب .
هذا السؤال هو الذي افترق الناس لأجله فرقاً, وتباينت عنده طرقهم وأقوالهم ,
فالجواب علي القسم الأول من السؤال وبالله التوفيق يكون : لا تنافي في ذلك فإنه يرضي به من جهة إفضائه لما يحب , ويكرهه من جهة تألمه به , كالدواء الكريه الذي يعلم أن فيه شفائه, فإنه يجتمع فيه رضاه به وكراهته له.
أما القسم الثاني من السؤال فجوابه: اعلم أن المراد نوعان: مراد لنفسه(لذاته), ومراد لغيره.
فالمراد لنفسه: مطلوب محبوب لذاته ولما فيه من الخير .
والمراد لغيره: قد لايكون في نفسه مقصوداً للمريد, ولا فيه مصلحة له بالنسبة إلي ذاته, وإن كان وسيلة إلي مقصوده ومراده, فهو مكروه من حيث نفسه وذاته, مراد له من حيث إفضائه وإيصاله إلي مراده, فيجتمع فيه الأمران , البغض والإرادة, ولا يتنافيان, لاختلاف متعلقهما, وهذا أيضا كالدواء المتناهي في الكراهة إذا علم متناوله أن فيه شفاءه.
وقد أنكر الله سبحانه وتعالي علي من جعل مشيئته وقضائه مستلزمان لمحبته ورضاه, قال تعالي: "
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ " (الأنعام : 148 ).
قال تعالي : "
وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ " (النحل : 35 ).
قال تعالي: "
وَقَالُوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ " (الزخرف : 20 ).
فإن المشيئة والمحبة ليسا واحداً ولا هما متلازمين فقد يشاء سبحانه ما لا يحبه ويحب ما لا يشاء كونه.