المشهد الخامس:
التضحية والانقياد المطلق, فقد رجع إبراهيم في اطمئنان يزور أسرته ليجد ابنه وهو الشيخ الذي بلغه الكبر قد غدا فتى يتدرج في الفتوة، حيوية ووضاءة، ففاض قلبه تعلقا به ومحبة، إلا أن البلاء العظيم قد داهمه من خلال رؤية مفزعة، أفضى بها لابنه " إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى؟" لم يكن من الفتى وهو سليل أسرة ورث عنها التسليم المطلق لأمر الله " يا أبت افعل ما تؤتمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين".
وهكذا استطالت قامة كل منهما حتى شارفت السماوات العلى عظمة وتسليما مطلقا لأمر الله وهو المقصد الأسنى من الدين "وذلك رغم هجمات الشيطان وسعيه الحثيث لثني عزمهما "فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين. إن هذا لهو البلاء المبين".
أما وقد أسلما بلا تحفظ ولا تلجلج، فقد تحقق المقصد، فتجلت عليهما رحمة الله تمنع السكين من حزّ الرقبة، وتقدم بديلا كبشا عظيما فدية", وفديناه بذبح عظيم".
وهكذا الحجاج يستعيدون مشهد عظمة التسليم لله والانقياد لأمره من خلال العملية الرمزية حيث يتولى الحاج توجيه وابل من الجمرات (حصيات) إلى جدار صخري تمثلا للشيطان، ما هو بشيطان إبراهيم وإنما شيطانه هو، الدائب على إغوائه بفعل الفواحش والإعراض عن أمر الله.
"
الحج ساحة تدريب رمزي على مصارعة العدو ورفض الاستسلام له أو مهادنته أو التطبيع معه. وتمثل استكمالا للمشهد تلك الفدية من قبل الحاج ومن قبل كل مسلم قادر عبر التقرب إلى الله بأضحية يأكل منها وعياله تعبيرا عن فرحة العيد والنصر على الشيطان
"
إنها ساحة تدريب رمزي على مصارعة العدو، ورفض الاستسلام له أو مهادنته أو التطبيع معه. وتمثّل استكمالا للمشهد تلك الفدية من قبل الحاج ومن قبل كل مسلم قادر، من خلال التقرب إلى الله بأضحية، يأكل منها وعياله تعبيرا عن فرحة العيد والنصر على الشيطان، وتوسعة على الفقراء، وشكرا لله على نعمائه.
والحقيقة أن للمسلمين عيدين يفرح فيهما المؤمن أحدهما عيد الفطر وهو تتويج لشهر من العبادة المكثفة، وعيد الأضحى وهو الآخر تعبير عن الفرحة بالانتصار على الشيطان والاستجابة لأمر الله. إذ ليس لله شأن بما نأكل وما ننحر وإنما المدار هو مدى ما يصحب ذلك من مشاعر التقوى والتقرب إلى الله والانقياد إليه.
المشهد السادس:
"الوقوف بعرفة "يوم الحج الأكبر" احتفاء بانطلاقة البشرية والأصل والمصير: روايات كثيرة حول الواقعة التاريخية التي يحييها ويستعيدها الوقوف بعرفة.
وهي واقعة لا بد أن تكون من الأهمية التي تجعل هذه الوقفة هي الحج الأكبر بل هي ركن الحج الذي لا يجبر تخلفه بشيء . تعددت المرويات ولم تحسم لصالح واقعة تاريخية محددة تلقي ضوء على الحكمة من اختيار هذا المكان.
ومما ذكروا أن هذا الصعيد كان المسرح الذي شهد أول لقاء على الأرض بين أول زوج بشري شكّل النواة الأولى للأسرة البشرية آدم وحواء عليهما السلام، على إثر نزولهما إلى الأرض، فيكون الحج مرة أخرى عودا إلى الأصل وشكرا لله سبحانه على هذه الآية العظيمة والرحمة السابغة أن جعل لكل منا زوجا يونسه" ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة", فيكون تكريم عاطفة الحب والشوق بين الزوجين معنى عظيما من معاني الحج وتذكيرا بأصل انطلاق الاجتماع البشرية ووحدة الإنسانية.
والحقيقة أن مؤسسة الزواج مؤسسة دينية ثقافية وليست مؤسسة طبيعية. ولذلك يدب فيها الوهن وتتجه إلى الاندثار كلما دب الوهن في الأصل الذي تأسست عليه وهو الدين، فتترهل عراها لصالح شتى أنواع الانحراف فيكون ذلك إيذانا بأن حضارة قد اتجهت شمسها إلى المغيب.
إنها لوقفة مهيبة على هذا الصعيد الأجرد بعيدا عن أبهة المدينة وقصورها وزخارفها ومظاهر تفاخر أهلها بعد أن تجرد الجميع من كل ذلك.
إنها تذكر الناس بالأصل أنهم قد خرجوا إلى الدنيا مجردين من كل ضروب الزينة، وهم سيتركونها وراءهم كذلك لا يحملون منها غير خرق بيضاء شبيهة بلباس الإحرام الذي يرتدونه في حجهم.
كما تذكرهم صورة هذا الحشد الهائل بيوم يحشرون حفاة عراة مذهولين، فما يبقى أمام الحاج وسط هذا الديكور المفعم بالإيحاءات والرموز الروحية والاجتماعية إلا أن يتجه إلى ربه يسأله التوب والغفران والرضوان والعون على الإنابة الخالصة والتوبة النصوح والعزم على فتح صفحة جديدة مترعة بأعمال الخير ومجانبة الشر ومقاومته.
وفي اليوم الطويل متسع لتذكر الأهل والخلان وأحوال الأمة وجراحاتها النازفة في أكثر من موقع في فلسطين والعراق والجزائر وتونس و... وكثيرا ما يقف الخطباء يذكرون على ذلك الصعيد الناس بحجة النبي عليه السلام حجة الوداع وكانت أعظم مهرجان شهدته جزيرة العرب (مائة ألفا) وهو نفس عددهم تقريبا في منتصف القرن العشرين.. بينما هو اليوم تخطى الملايين الثلاثة.
لقد كانت حجة الوداع إعلانا عاما لحقوق الإنسان ولوحدة البشرية ومنع التظالم والتأكيد على أهمية الأسرة والايصاء بالنساء خيرا والتحذير من السماح لجشع الأغنياء أن سيتغل حاجة الفقراء.
كما مثلت حجة الوداع نقل مهمة هداية البشرية من عهدة الأنبياء إلى أمة الإسلام وقد ترشدت الإنسانية. فكان الرسول الخاتم -نفوسنا فداه- ينهي كل فقرة من وصاياه بـ" ألا هل بلّغت؟ فيجاب بصوت كالرعد: نعم.. فيقول "فليبلغ منكم الشاهد الغائب". كم هو مهيب وعظيم مشهد تسلّم أمة محمد رسالة هداية البشرية