هبة الله الادارة
نقاط : 13559
| موضوع: سعيد بن المسيب رجل الثبات على المبدأ الخميس مارس 19, 2009 6:33 am | |
| الوضوح كلمة غامضة بقدر ما تشع شفافية واتساقا مع الحقائق، وربما لا يلقي الكثيرون بالا لحقيقة هذه الكلمة والتفكير في أبعادها المنطقية والفلسفية لأنها شائعة ولأنها ربما مثقلة بمثالية مطلقة فيغيب التركيز فيها، وربما لأن كثرة كاثرة من الناس لا تطيق الوضوح والحق لأنه يتعارض مع أهوائهم فالوضوح والحق معناهما الثبات المطلق على المبادئ، مهما كانت نتائجهما ولو أن الوضوح والحق يسيران على الناس لكانت مهمة الأنبياء أسهل المهام، ولكن كثيراً من الناس يأبون الوضوح والحق سواء أكان التزاما أم قبولاً ويتنكبون لهما، وأقول “الكثيرون” لأن الاستثناء هنا وارد حتما ومؤكد أن أبطاله حاضرون بمثل توهج هذه الكلمة، وهي ليست ادعاء ولكن التزاما وخلقا أفصحت عنه أفعالهم، وصاحبنا الذي نقتبس اليوم من وضوح بصيرته يجسد هذا النوع من المثالية الواقعية للشخصية الواضحة الثابتة التي لا تتغير مهما اعتورها من طوارئ، وان كانت ستهلك نفسه حتى قيل عنه: ان نفسه أهون عليه في الله من نفس ذبابة.. في الله إنه الانسجام مع الذات في جميع المواقف وليس ثمة تغير أو تقهقر أو تردد أو خوف يمنع هذا الانسجام.
دعونا نستقبل حياة سعيد بن المسيب نلقي بعض الضوء على بعض جوانبها نتلمس هذا النسغ الواضح بمقدار ما تعكسه مواقفه. سعيد بن المسيب مولده في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم لسنتين مضتا من خلافة عمر، ونسبه في بني مخزوم من قبائل قريش العظيمة، ومع أن حقيقة النسب لا تشكل وزناً في قيمة الانسان الا بمقدار ما يضفي عليها صاحبها بعداً وعمقاً يكرسان شخصيته ويضفيان عليهما بعداً جديداً هيبة وجلالا. روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال: “من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه” وسعيد سرع به عمله وعلمه ولم يبطئ به نسبه.
أدرك سعيد جل الصحابة رضوان الله عليهم في المدينة فرأى عمر، وجمع أقضيته، وعثمان وعلياً، وروى عن ابن عمر وجمع حديث أبي هريرة والد زوجته واعتلى درجات العلم وضرب به بحظ وافر حتى قيل عنه: “افقه التابعين وفقيه الفقهاء وعالم العلماء” ومن رآه لم يجد افضل منه في العلم بالحلال والحرام. ولعل تبحره الفقهي افضى الى انصباغ جوانب نفسه بالوضوح التام الذي انعكس على مواقفه وضوحا ناصعا لا يقبل التلون، ولو بسطت له كنوز كسرى وقيصر، ولو أجلب عليه الخوف والموت من كل مكان فالأمر سيان.
“لا يكون في عنقي بيعتان”
كان بنو أمية يتوددونه بالعطاء فكان يرفض عطاءهم بكل ما تحمل نفس المؤمن من معاني العزة والإباء، لما ينطوي عليه هذا العطاء من استقطاب يحيد به كعالم عن جادة الصواب الذي يعتقده، وكان يكسب قوته من تجارته في الزيت، ولعل هذا ما جعل مواقفه ثابتة واضحة إزاء سلطة الحكم الأموي او أي سلطة اخرى منازعة، فقد جاءه عامل عبدالله بن الزبير على المدينة وابن الزبير يومئذ في مكة خارج على حكمهم يطلب مبايعة سعيد لابن الزبير ظناً منه أن سعيداً سيؤيد توجهه باعتبار ابن الزبير من هو في النسب والعلم، وبني أمية من هم في الغلو في العنف وسفك دماء المعارضين، واعتداء على مبدأ الحكم الذي كرسه الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون من بعده، ولكن سعيداً لا ينظر بهذا المنظار فقط، وليس للصداقة والفضل هنا أي اعتبار. ان موقف سعيد هنا سيكون بمثابة الخروج والدعوة لتقويض مؤسسة حكم قائم، أعطى فيه بيعة لصاحب الحكم فكيف يخلعها ويزيد في شقة الخلاف بين طوائف المسلمين؟ إنها الحكمة والنظر البعيد الذي لا يملكه إلا من أيد الله بصيرته بالنور والحكمة. فكان موقفه الرفض بوضوح تام. وقال: لا يكون في عنقي بيعتان، ومع أن عامل ابن الزبير حاول إجباره على البيعة، إلا أنه أصر على الرفض، وقبل منه ابن الزبير هذا الموقف لعلمه بأن سعيداً لا ترهبه شدة ولا يثنيه ترغيب.
وهو الموقف ذاته يتكرر مع بني أمية ومع عبدالملك بن مروان بالذات حين أراد مبايعة ولديه الوليد وسليمان فأبى سعيد والسبب واحد: “لا يكون في عنقي بيعتان”. ومع أن بني أمية استخدموا القسوة والعنف في ثني سعيد، حيث تعرض في شيخوخته لمحنة حيث أثقلت أحمال سنه السياط وتبان الشعر الذي لبسه في يوم قائظ الحر وطوف به في المدينة ليكون عبرة لكل معتبر، وما دروا انهم بهذا يزيدون المعارضة عددا وقوة. فسعيد عالم المدينة، والكل يتوجه بنظره اليه ليسمع ما يقول وما يفتي، ولولا حنكة عبدالملك في الاسراع ووقف تعذيبه واعادة اعتباره، لبدا من المدينة موقف تجاه بني مروان أقل ما يقال فيه انه سيغير مسار الأحداث ضد بني مروان وربما عجل في سقوطهم قبل ان يهنأوا بالحكم.
زواج بدرهمين!
لله در سعيد ما أعجب مواقفه وما أثبتها على الحق، انه الاتساق في كل جوانب الحياة ولحظاتها، فهو يصلي في الصف الأول في المسجد أربعين سنة. لا يتأخر قط حتى قالوا: ما أذن لصلاة الا وسعيد في المسجد، انه لثبات في السلوك وثبات في الطاعة والعبادة وثبات في العمل وثبات في الثبات.
انظر الى قصة زواج ابنته التي طلبها عبدالملك لابنه الوليد فرفض وزوجها لتلميذه ابن ابي وداعة الذي فقد زوجته من قريب: فغاب عن حلقة العلم التي يجلس لها سعيد لانشغاله بدفنها فسأله، فأخبره الخبر فقال له: ألم تتخذ زوجة؟ فقال: ومن يزوجني ولست أملك سوى درهمين أو ثلاثة؟ فقال سعيد: أنا، فزوجه بها في المسجد، إنها فلسفة حياته التي اختط نهجها، لا تخضع لموازين البشر الكمية، ان الغنى الحقيقي عنده هو غنى التقوى والايمان وهذه هي السعادة الحقيقية بنظره، هو لا ينظر الى الدنيا التي تقف عند قدم الانسان ولكنها النفس التواقة الى رضوان الله في الآخرة وذاك الفوز المبين، ومع أن الرجل لم يصدق نفسه للوهلة الأولى الا انه كان شديد الفرح بهذا النسب بالقدر الذي يمثله سعيد بن المسيب علما وجاها ووجاها، ونبقى مع ابن أبي وداعة نفسه يكمل لنا بقية القصة حيث يقول: فعدت إلى منزلي أفكر فيمن أستدين، فصليت المغرب في المسجد ورجعت الى منزلي وكنت وحدي صائما فقدمت عشائي أفطر وكان خبزاً وزيتاً فإذا بابي يقرع فقلت: من هذا؟ فقال: سعيد ففكرت في كل من اسمه سعيد إلا ابن المسيب فإنه لم ير أربعين سنة إلا بين بيته والمسجد، فخرجت فإذا به واقف على الباب فظننت انه بدا له فندم فقلت: يا أبا محمد؟ ألا أرسلت إلينا فأتيناك؟ قال: لا أنت أحق ان تؤتى إنك كنت رجلا أعزب فتزوجت فكرهت ان تبيت الليلة وحدك فقال عبدالله بن وداعة: فدخلت بها فإذا هي أجمل النساء وأحفظ الناس لكتاب الله وأعلمهم بسنة رسول الله وأعرفهم بحق الزوج. ان موقفه هذا انطوى على بعد فلسفي عميق يرسم منهجاً لمعايير وأسس الاختيار تبنى عليه البيوت، وطبيعة الدور الذي يجب ان يقوم به الآباء في تربية بناتهم في معرفة حقوقها وواجباتها في بيت الزوجية. هكذا مضى سعيد من أول مشهد العلم الى منتهى الرمق الأخير، مشهد متكامل بكل مواقفه ثابتا على المبدأ لا تثنيه مغريات ولا يبدله تخويف ولا تهديد، مضى سعيد الى ربه سعيداً في دنياه سعيداً في أخراه إن شاء الله تعالى بما استن وأفتى ونهج.
| |
|