وحدثت جملة مفاوضات بين السلطات الإيطالية والسيد المختار لتهدئة الأحوال، وكثرت العروض المغرية لشخص المختار، ولكنه رفض كل العروض.. وبيّت الطليان النيّة على الإيقاع بالمختار وأسره، وتم الاتفاق على عقد هدنة لمدة شهرين تبين للمختار بعدها أنها مجرد مراوغة من إيطاليا لكسب الوقت، وأنها ترمي إلى القضاء على كل حركة تعمل لتحرير ليبيا من الغزاة.
وجاء جرازياني إلى برقة حاكمًا عليها، وكان مزودًا بتعليمات صريحة من قبل الحكومة الفاشستية بضرورة القضاء على المقاومة في برقة. فأنشأ المحكمة الطائرة عام 1930م، وكانت هذه المحكمة تنتقل على متن الطائرات من مكان إلى آخر لإصدار الأحكام السريعة ثم تنفيذها في الحال.
ثم أخذ جرازياني يعمل على حل زوايا السنوسيين ومصادرة أملاكها، وفي الوقت نفسه بدأ ينفذ سياسة عزل الأهالي عن المجاهدين، فحشدهم في معتقلات امتدت من العقلية إلى السلوم. واستمر هجوم المجاهدين على مراكز الطليان، ونشبت معارك كثيرة، وفي إحدى المعارك عثر الطليان عقب انتهائها على نظارات السيد المختار، كما عثروا على جواده مجندلاً في ميدان المعركة، وأصد جرازياني منشورًا ضمنه هذا الحادث. وزحف الطليان لاحتلال الكفرة فاشتبكوا مع المجاهدين في معركة استخدموا فيها الطائرات.. وقاتل المجاهدون جميعًا بشجاعة وبسالة نادرة واستشهد منهم مائة في واقعة الهواري، وأسر الطليان ثلاثة عشر، واحتلوا الكفرة.
وكان لسقوط الكفرة أعظم الأثر في موقف المختار في الجبل الأخضر، ذلك أن جرازياني استطاع بذلك إغلاق الحدود المصرية إغلاقًا تامًا بمد الأسلاك الشائكة على طولها.. ومع ذلك فقد ظل المختار في الجبل يقود المعارك ويقاوم الطليان.
يقول جرازياني في بيان له عن الوقائع التي نشبت بين جنوده والسيد عمر المختار: إنها "كانت 263 معركة في خلال عشرين شهرًا". هذا عدا ما خاضه المختار من المعارك خلال عشرين سنة قبلها.
ولما أراد الله أن يختم له بالشهادة ذهب كعادته في نفر قليل يقدر بأربعين فارسًا، يستكشف مواقع العدو، ويتفقد مراكز إخوانه المجاهدين. ومرّ بواد صعب المسالك كثير الغابات، وعلمت به القوات الإيطالية بواسطة جواسيسها، فأمرت بتطويق الوادي، فما شعر المختار ومن معه إلا وهم وسط العدو، ودارت معركة، وعلى الرغم من كثرة عدد العدو واحتياطاته تمكن المجاهدون من خرق صفوفه ووصلوا إلى غربي سلطنه.. ففاجأتهم قوة طليانية أخرى، وكانت ذخيرتهم على وشك النفاذ، فاشتبكوا في معركة جديدة قتل فيها جميع من بقي مع المختار، وقتل حصانه أيضًا ووقع عليه، فتمكن من التخلص من تحته، وظل يقاوم وحده إلى أن جرح في يده، ثم تكاثر عليه الأعداء وغلب على أمره، وأسروه وهم لا يعرفون من هو. ثم عُرف وأُرسل إلى سوسة، ومنها أُركب الطراد إلى بنغازي حيث أُدوع السجن.
وعزا المختار في حديثه عند قدومه إلى بنغازي سبب وقوعه في الأسر إلى نفاذ ذخيرته، وأكد للمتصرف الإيطالي أن وقوعه في الأسر لا يضعف شيئًا من حدة المقاومة، إذ أنه قد اتخذ من التدابير ما يكفل انتقال القيادة من بعده إلى غيره. وختم المختار قوله بكلمات خالدة لابد أن نلقنها أبناءنا جيلاً بعد جيل لتكون مثلهم الأعلى في التوكل على الله والثبات على الحق، فقال: إن القبض عليه، ووقوعه في قبضة الطليان إنما حدث تنفيذًا لإرادة المولى عز وجل، وإنه وقد أصبح الآن أسيرًا بأيدي الحكومة، فالله سبحانه وتعالى وحده يتولى أمره.. ثم أشار إلى الطليان وقال: "وأما أنتم، فلكم الآن وقد أخذتموني أن تفعلوا بي ما تشاؤن، وليكن معلومًا أني ما كنت في يوم من الأيام لأُسلم لكم طوعًا!".
وكان جرازياني وقت القبض على المختار يقضي أجازته في روما، فوصله الخبر يوم 12 سبتمبر 1931م وهو بالقطار الذاهب إلى باريس، فقطع رحلته واستقل طائرة أوصلته إلى بنغازي، ودعا "المحكمة الخاصة" إلى الانعقاد.. وجاء الطليان بالسيد عمر المختار إلى قاعة الجلسة مكبّلاً بالحديد وحوله الحرس من كل جانب.. وكانت محاكمة صورية شكلاً وموضوعًا، وكانوا قبل بدء المحاكمة بيوم واحد قد أعدوا "المشنقة" وانتهوا من ترتيبات الإعدام وتنفيذ الحكم قبل صدوره.. لقد استغرقت المحاكمة من بدئها إلى نهايتها ساعة واحدة وخمس عشرة دقيقة، وصدر الحكم بإعدام المختار.. فقابل ذلك بقوله: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رٰجِعونَ [البقرة:156].
وجمعوا حشدًا عظيمًا لمشاهدة التنفيذ وأرغموا أعيان برقة وبنغازي وعددًا كبيرًا من الأهالي لا يقل عن عشرين ألفًا على حضور عملية التنفيذ.
وفي صباح يوم الأربعاء 11 سبتمبر 1931م نفذ الطليان في "سلوق" حكم الإعدام شنقًا في الشيخ عمر المختار.. وعندما وجدوا أنه لم يمت أعادوا عملية الشنق مرة ثانية. وكأنما الرعب يملأ قلوبهم من البطل حتى بعد وفاته، فما إن أتموا عملية الشنق حتى نقلوه إلى مقبرة الصابري بناحية بنغازي، ودفنوا جسده الطاهر في قبر عظيم العمق بنوه بالأسمنت المسلح، وأقاموا على القبر جندًا يحرسونه زمنًا طويلاً خوفًا من أن ينقل المواطنون جثمانه الطاهر.