لا يختلف مؤرخو الأدب على أن كعب بن مالك الأنصاري كان أحد الشعراء الثلاثة الكبار الذين جاهدوا في سبيل الدعوة الإسلامية ووقفوا إلى جانب الدين الجديد، وناصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم ودافعوا عنه في مواجهة الهجمات الشرسة المسعورة التي قادها ضده شعراء الوثنية والشرك في مكة، أما الشاعران الآخران فهما حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة.
وكعب بن مالك شاعر خزرجي، فأبوه مالك بن أبي كعب، وأمه ليلى بنت زيد بن ثعلبة، وكلاهما، الأب والأم، من بني سلمة من الخزرج.
ولم يعثر مؤرخو الأدب المعاصرون على شعر ينسب لكعب بن مالك في الجاهلية، ويرى البعض أن شعره الجاهلي ضاع مع ما ضاع من شعر غيره من الشعراء، ويرى آخرون عدم وجود شعر له في الجاهلية يستحق التسجيل، لكن ما رواه ابن هشام عن كعب بن مالك يؤكد أنه كان شاعرا معروفا في الجاهلية. حيث يروى ان كعباً دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلسه قبل الهجرة ومعه أحد الأنصار، وكان العباس يجلس إلى جوار النبي، يقول كعب: دخلنا فسلمنا ثم جلسنا إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: هل تعرف هذين الرجلين يا أبا فضل؟ قال نعم: هذا البراء بن معرور سيد قومه، وهذا كعب بن مالك، فوالله ما أنسى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: الشاعر؟
قال: نعم.
وتحدثنا الروايات أن معظم المؤرخين ذكروا أن كعبا توفي حوالي سنة خمسين هجرية عن سبعة وسبعين عاما، ومعنى ذلك أنه ولد قبل الهجرة بحوالي سبعة وعشرين عاما.
يقول الشاعر والأديب صلاح الدين السباعي: إذا صح ما رواه ابن هشام وصح معه أن كعبا عاش سبعة وسبعين عاما، وأنه توفي سنة خمسين هجرية فمعنى ذلك أننا أمام شاعر يتمتع بموهبة نادرة كشفت عن نفسها في مرحلة مبكرة جدا من حياته، وأتاحت لصاحبها أن يعبر من خلالها عن أفكاره وأحاسيسه بشعره قبل الإسلام، وهو بلا شك شعر بلغ من الجودة درجة نقلته خارج حدود المدينة وحققت له من الذيوع والانتشار على ألسنة الرواة ما حمله إلى مكة، وأتاح للرسول صلى الله عليه وسلم أن يعرفه، وأن يستفسر عن شخصية صاحبه.
وهذا يدعم الرأي القائل إن لكعب شعرا جيدا قبل إسلامه، وان هذا الشعر قد فقد كما فقد كثير من إنتاج الشعراء العرب.
دفاع عن الحق
ما يهمنا هنا هو إنتاج كعب بن مالك بعد أن هداه الله إلى الإسلام، وفي ديوان كعب الذي حققه الأديب الدكتور سامي مكي نجد أنفسنا أمام شعر لا يكاد صاحبه يخرج به عن الدائرة الإسلامية إلا نادرا فالمحور الأساسي الذي يدور عليه معظم ما في الديوان من شعر هو الإسلام بشرائعه وتعاليمه وقيمه الإنسانية العليا.
ففي قول كعب على سبيل المثال:
وكان رسول الله قد قال أقبلوا
فولوا وقالوا إنما أنت ساحر
تأثر بالمعنى القرآني في قول الحق سبحانه “وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب”.
وكذلك قوله:
بأن الله ليس له شريك
وأن الله مولى المؤمنينا
مأخوذ من قوله تعالى: “لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين”.
وقوله تعالى: “والله ولي المؤمنين”.
أما قوله:
نطيع نبينا ونطيع ربا
هو الرحمن كان بنا رؤوفا
فقد نظر فيه إلى قوله تعالى: “ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد”.
ولعل شيوع المعاني الإسلامية في شعر كعب، كما يقول صلاح الدين السباعي، كان يرجع إلى إيمانه القوي من ناحية وإلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يرشده إلى هذه المعاني من ناحية أخرى، وكان كعب شديد الاعتزاز بتوجيهات رسول الله صلى الله عليه وسلم فتراه يفتخر بذلك قائلا: “ما أعان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا في شعره غيري”.
ومن أمثلة ذلك أن كعبا عندما افتخر بأن قومه يدافعون عن دينهم بالكتائب العظيمة التي اعتادت القتال وذلك في قوله:
مدافعنا عن ديننا كل فخمة
مذربة فيها القوانس تلمع
فإن صدر البيت كان “مدافعنا عن جذمنا كل فخمة” فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام كما جاء في الأغاني لا تقل عن جذمنا ولكن قل عن ديننا.
وهكذا خرج البيت بفضل توجيه النبي من دائرة الروح الجاهلية التي تعتمد في الفخر على الأنساب إلى الروح الإسلامية التي تعتمد على الدفاع عن العقيدة والقيم الفاضلة.
وكما سيطرت المعاني الإسلامية على شعر كعب فإن ألفاظه وعباراته كانت متأثرة إلى حد كبير بالمعجم الإسلامي والمصطلحات الجديدة التي استحدثها الإسلام.
ومن ذلك مثلا قوله:
نصرنا رسول الله إذ حل بيننا
وبيض اليماني المثقفة السمر
ولفظ النبوة في قوله:
قرم تمكن من ذؤابة هاشم
حيث النبوة والندى والسؤدد
ولفظ “جهنم” ولفظ “الجنان” في قوله:
شتان من هو في جهنم ثاويا
أبدا ومن هو في الجنان مخلد
ولفظ “كفور” في قوله:
فأمسوا وفود النار في مستقرها
وكل كفور في جهنم صائر.
منزلة رفيعة
ولكعب بن مالك منزلة شعرية رفيعة جعلته موضع اهتمام المشتغلين بالأدب واللغة والتاريخ والجغرافيا، وقد شهد له القدماء بعلو المنزلة ووصفوا شعره بالجودة، فقد قرر ابن سلام انه أحد شعراء الخزرج الفحول، ووصفه بأنه شاعر مجيد، وقال عنه ابن عبد البر: إن له أشعارا حسانا جدا في المغازي وغيرها، كما وصفه البغدادي بأنه شاعر مطبوع، وكانت السيدة عائشة رضي الله عنها تستحسن شعره وترويه.
وأمام إجماع القدماء على أن شعر كعب يتسم بالجودة، فلعله من المفيد أن ننتقل بين عدد من قصائده نستمتع بما في أبياتها من رقة وعذوبة وبما تحمله إلينا عبر الزمن من أصداء جليلة، ونفحات عطرة، وإشعاعات مقدسة أشرقت على العالم مع بزوغ فجر الإسلام منذ أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمان.. قال في يوم أُحد:
أبلغ قريشا وخير القول أصدقه
والصدق عند ذوي الألباب مقبول
أن قد قتلنا بقتلانا سراتكم
أهل اللواء ففيم يكثر القيل
إن تقتلونا فدين الحق فطرتنا
والقتل في الحق عند الله تفضيل
وإن تروا أمرنا في رأيكم سفها
فرأي من خالف الإسلام تضليل
وقال في يوم الخندق:
لقد علم الأحزاب حين تألبوا
علينا وراموا ديننا ما نوادع
يذودوننا عن ديننا ونذودهم
عن الكفر والرحمن راء وسامع
إذا غايظونا في مقام أعاننا
على غيظهم نصر من الله واسع
وذلك حفظ الله فينا وفضله
علينا ومن لم يحفظ الله ضائع
هدانا لدين الحق واختاره لنا
ولله فوق الصانعين صنائع
وقال في الفخر:
فكفى بنا فضلا على من غيرنا
حب النبي محمد إيانا
وقال أيضا:
ونحن أناس لا نرى القتل سبة
على كل من يحمي الذمار ويمنع
ولكننا نقلي الفرار ولا نرى
الفرار لمن يرجو العواقب ينفع
جلاد على ريب الحوادث لا ترى
على هالك عينا لنا الدهر تدمع
وقال يرثي الرسول صلى الله عليه وسلم:
وباكية حراء تحزن بالبكا
وتلطم منها خدها والمقلدا
على هالك بعد النبي محمد
ولو علمت لم تبك إلا محمدا
فجعنا بخير الناس حيا وميتا
وأدناه من رب البرية مقعدا
لقد ورثت أخلاقه المجد والتقى
فلم تلقه إلا رشيدا ومرشدا
وقال يرثي حمزة:
ولقد هددت لفقد حمزة هدة
ظلت بنات الجوف منها ترعد
ولو انه فجعت حراء بمثله
لرأيت رأس صخورها يتبدد
وكما كان كعب بن مالك شاعرا فذا كان قائدا شجاعا، فقد شارك في معظم غزوات الرسول عليه السلام ما عدا غزوتي بدر وتبوك.
كما كان كعب بن مالك صحابيا جليلا يروي حديث الرسول عليه الصلاة والسلام ومجاهدا صادقا في ذوده عن النبي، ومقاتلا جريئا مخلصا في الدفاع عن الإسلام من خلال العديد من الغزوات التي شارك فيها.