ماشطة ابنة فرعون -امرأة تتحدى الطغيان-
جلست مع صويحبات لي نتذاكر في أمور شتى تخص النساء. دار الحوار حول العلاقة الزوجية وعلاقة الآباء بالأبناء، وفاجأتنا إحدى الـمَرِحات بقولها: لماذا لا نغير الموضوع؟ فلنتكلم عن آخر الموضات في اللباس والألوان، وأحدث الصيحات في العطور العالمية؟ حينها وجدت ذهني مشدودا إلى كلمة عطور، وشرد بعيداوحلق في أفق آخر... هناك... إلى رحلة الإسراء والمعراج لما شمّ الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم رائحة ملأ أريجها مابين السماء والأرض، رائحة مؤمنة صابرة محتسبة وأولادها.
فما قصة هذه المرأة؟ وما شأن الرائحة العطرة التي ميّزها رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين كل طيب الجنة، والجنة كلها طيب كما أخبرنا الحبيب عليه أزكى الصلاة وأطيب السلام؟
صدع بالإيمان بعد كتمان
فتعالوا بنا نتلقى الخبر من في -فم- رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فعن ابن عباس قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما كانت الليلة التي أسري بي فيها أتت عليّ رائحة طيبة فقلت: يا جبريل ما هذه الرائحة الطيبة؟ فقال: هذه رائحة ماشطة ابنة فرعون وأولادها. قال: قلت: وما شأنها؟ قال: بينما هي تمشط ابنة فرعون ذات يوم إذ سقطت المُدرى-المُشط- من يديها فقالت: بسم الله. فقالت لها ابنة فرعون: أبي. قالت: لا ولكن ربي ورب أبيك الله. قالت: أخبره بذلك؟ قالت: نعم" أخرجه الإمام أحمد رحمه الله في مسنده.
أي ثبات هذا،وأية قوة في الحق التي جعلت تلك المومنة الكاتمة لإيمانها تصدع به وهي تعلم مصيرها بعد ذلك؟ بل ولـمّا تُسأل: أيخبر جبار الأرض في زمانها بذلك؟ تجيب في قوة الموقن بموعود الله: نعم!!!
أليس حب الله الذي ملأ شغاف القلب والجوارح، ومعه موافقةقدر الله من حمل هذه المؤمنة على الجهر بالحق في وجه عدو الله؟
ماشطة تتحدى فرعونا
تقول الرواية: "فأخبرته فدعاها فقال: يا فلانة وإن لك ربا غيري؟ قالت: نعم ربي وربك الله، فأمر ببقرة من نحاس (البقْرة: من البقْر، وأصله من الشق والتوسعة والفتح، ويراد بها في النص إناء كبير من نحاس)، فأحميت ثم أمر بها أن تلقى هي وأولادها فيها، قالت له: إن لي إليك حاجة، قال: وماحاجتك قالت: أحب أن تجمع عظامي وعظام ولدي في ثوب واحد وتدفننا قال: ذلك لك علينامن الحق" أخرجه الإمام أحمد رحمه الله في مسنده.
وفي عز المحنة، وحرج الموقف، تشترط أن تجمع العظام الطاهرة لها ولأبنائها وتدفن معا. من أين أتت هذه القوة لهذه الماشطة أمام فرعون وجها لوجه، معلنة كفرها بالطاغوت وإيمانها بالله ومتحدية إياه بل مشترطة عليه؟ إنه الإيمان، والإيمان وحده. ولن يقوى على قول الحق والثبات عليه حتى الشهادة من لم يصل صلاة مودع.
التفنن في التعذيب دأب الفراعنة
جاء في الحديث نفسه: "قال: فأمر بأولادها فألقوا بين يديها واحدا واحدا".
تشير الرواية إلى أن فرعون بدأ بقتل أكبر أولادها، حتى يوهن من ثباتها، بعد أن أرته من نفسها قوة وشهامة وهو الذي ألف رؤوس "الرجال" خانعة، والجباه ساجدة. وهذا شأن الفراعنة في كل زمان ومكان، يجتهدون في البحث عن أساليب وألوان للتعذيب ويتفننون فيها، كي يضعفوا العزائم ويثبطوا الهمم، ولكن هيهات أن يذل من أعزه الله عز وجل وأعلى شأنه بقوله "ولا تَهِنُوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مومنين" آل عمران، الآية139.
ثبات يتبعه تأييد
ويختم رسول الله صلى الله عليه وسلم القصة بقوله: "..إلى أن انتهى ذلك إلى صبي لها مُرضَع، وكأنها تقاعست من أجله قال: يا أمه اقتحمي فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فاقتحمت" أخرجه الإمام أحمد رحمه الله فيمسنده.
ونقف عند كلمة تقاعست، تحركت عاطفة الأمومة فكشفت عن ضعف بشري فطري، هوقمة القوة في علاقة الأم بأولادها، وكيف لأم أن ترى فلذات كبدها يرمون في النارواحدا تلو الآخر ولا تحرك ساكنا، إلا إذا أبى الحنّان المنّان أن يؤيدها بنصره، ويزيدها ثباتا، فيُنطِق الصبيَّ قبل أوان الكلام؟
معجزة... ولكن أننتظر نحن في زماننا أن ينطق الرضيع وتقع المعجزات وتظهر الكرامات لنثبت؟ أم إن سنة الله اقتضت أن يَنصر من ينصرُه كيف شاء، وبما شاء.
ونحن نودع هذه الطيبة العطرة من النساء، نسأل الله العلي القدير أن يمنَّ على كل مبتلى من المسلمات والمسلمين في كل بقاع الأرض بالثبات على الحق وبالتأييد والنصر المبين، الذي نرجوه قريبا.
آمين.. والحمد لله رب العالمين.