تتــبع الموضوع يمثل هذا التناول نقلة منهجية في فن التفسير الموضوعي، تجاوزت إطار التعامل مع كلمة قرآنية واحدة في استخدامات القرآن لها إلى التعامل مع موضوع معين يتعرض له القرآن الكريم بأساليب متنوعة، فيُعنى الباحث بتتبع الموضوع في سور القرآن، مستخرجاً الآيات التي تناولته، محيطاً بطرق المفسرين في عرضها، مستنبطاً عناصره من القرآن ذاته، في محاولة لتقديم العلاج القرآني لتلك القضية أو إلقاء أضواء قرآنية عليها.
ولا شك أن عملية التصور الأولي لأبعاد الموضوع جزء من نجاح الباحث في خدمة هذه الطريقة؛ إذ الفهم يأتي بعد التصور. ويأتي من بعد ذلك اختيار العنوان وجمع الآيات المتعلقة به وترتيبها بحسب نزولها؛ لأن ما نزل بمكة كان في الأعم الأغلب يتعلق بأسس عامة، بخلاف التنزيل المدني الذي اتسم بتحديد معالمه، ثم يأتي دور تفسير هذه الآيات وفهم دلالتها وما ترمي إليه ألفاظها وما تحمله من الروابط بينها، مع الإحاطة قدر الإمكان بمعانيها مجتمعة، وفهم التوجيهات القرآنية التي تحيط بها وتنساب في ثناياها، والاجتهاد في تلمس الهدايات القرآنية المنبثة في نصوصها الكريمة.
والواقع أن هذا النوع من التفسير الموضوعي هو الأشهر في عرف أهل الاختصاص؛ بحيث إذا أطلق اسم التفسير الموضوعي يكاد الذهن لا ينصرف إلا إليه. ويمكن تفسير نقاط العمل فيه على النحو الآتي:
1 - تصور الموضوع ومحاولة تحديده وعنونته.
2 - تتبعه في سور القرآن الكريم وجمع الآيات التي تعرضت له.
3 - الوقوف على أقوال أهل التفسير في تلك الآيات وترتيب نزولها وأماكنها.
4 - استنباط عناصر الموضوع من طرق عرض القرآن الكريم له، وأقوال أهل التفسير فيه.
5 - التنسيق بين تلك العناصر بما تقتضيه طبيعة البحث والتسلسل المنطقي لأفكاره.
6 - وضع مقدمة تكشف عن طريقة القرآن الكريم في عرض أفكار ذلك الموضوع.
7 - تقسيم الموضوع إلى أبواب وفصول ومباحث ومسائل، مستدلاً على ذلك التقسيم بالآيات ذاتها.
8 - ربط الموضوع بواقع الحياة ومشكلاتها محاولاً تقديم الحلول القرآنية لها(
.
ولقد كثرت المصنفات التي تناولت هذا النوع قديماً، فطالت:
1 - إعجاز القرآن. 2 - الناسخ والمنسوخ.
3 - أحكام القرآن. 4 - أمثال القرآن.
5 - مجاز القرآن. 6 - تأويل مشكل القرآن(9).
أما الحديث منها فلا تكاد تنتهي موضوعاته؛ إذ كلما جدّت صنوف المعارف جدّ البحاثة من أهل العلم في استشراف هدايات القرآن بحثاً عن التوجيهات الربانية في هذا الشأن سواء ما تعلق منها بالكون في أرضه وسمائه، أو بالإنسان في خلقه وتكوينه وغرائزه وعقله وأخلاقه، أو بالحياة الاجتماعية وأخذ العبر من سير الأقوام والأمم الماضية، أو بالعلاقات الدولية وأمور الاقتصاد والسياسة وأنظمة الحرب والسلم، أو حتى ما يتعلق بأحوال الغيب.
ومن قواعد المنهجية العلمية الصحيحة لهذا النوع من التناول خاصة، أن يتجنب الباحث الإسرائيليات والروايات الضعيفة والقصص والتاريخ، ويُعنى بشرح الكلمات الغريبة وتوجيه القراءات وإبراز النكت البلاغية التي تعرض له أثناء البحث وذلك في الحاشية.
وأن يحافظ في وعي على تسلسل أفكار بحثه، وتعانق فقراته، وسلاسة أسلوبه، وإشراقة بيانه؛ فإن عمله إنما يدور حول أشرف الكلام وهو كلام رب العالمين.
وقد عُني بذلك المنهج لفيف من أهل العلم من أمثال: الدكتور عبد الغني الراجحي في كتابه: (المناهج الجديدة)، والدكتور محمد البهي في كتابه: (نحو القرآن)(10)، والدكتور محمد محمود حجازي في رسالته للدكتوراه المعنونة بـ «الوحدة الموضوعية في القرآن» وفيها يقول: «قد عرفنا أن القرآن نزل منجماً، وكل وحدة في النزول ضُمت لأخواتها في مجموعة واحدة [السورة القرآنية]، هذه الوحدة إذا ضمت إلى وحدات أخرى لم تكن كالوحدة الحسابية إذا ضمت إلى زميلتها؛ وإنما هي وحدة ضمت إلى وحدة كما يضم العضو في الجسم إلى العضو الآخر»(11) ثم يقول: «وأعجب العجب أن هذه الوحدة التي نزلت في موضوع خاص إذا أخذتها وضممتها إلى الوحدات الأخرى التي نزلت في هذا الموضوع نفسه لرأيت العجب تماسكاً وتكاملاً وارتباطاً ووحدة في الموضوع»(12)، وقدّم صورة لهذه الوحدة الموضوعية عند كلامه على سورة المائدة، فقال بعد عرضه لموضوعية السورة: «أرأيت أن الوحدة الموضوعية لم تتم إلا بضميمة كل ما ذكر من آيات في السور كلها، وهذا ما نريد أن نصل إليه. فنقول: لا يمكن تحقق كمال الوحدة الموضوعية بالنسبة لكل سورة فيها الموضوع على انفراد، وها نحن عرفنا أن سورة المائدة كغيرها من السور اشتملت على عدة موضوعات لا تعطينا وحدة كاملة إلا إذا ضم لها ما ذكر في غيرها. وكل ما ذكر في السور الأخرى له وجهان: وجه اتفاق ووجه اتحاد يتعاونان في تكوين موضوع واحد يتكامل مع بقية أجزائه المذكورة في السور الأخرى»(13).