منبر الجمعة
الـتَّربيَةُ الـفِكْرِيــَّةُ
الحَمْدُ للهِ الذِي جَعَلَ العِلْمَ دَلِيلَ عِبَادِهِ المُؤمِنينَ، وَنُورًا يَمْـنَحُهُ السُّعَدَاءَ المُتَّقِينَ، وَأَشْهَدُ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، خَلَقَ الخَلْقَ مِنَ العَدَمِ، وَأَكْرَمَنا بِأَنْ جَعَلَنا مِنْ خَيْرِ الأُمَمِ، وَمَيَّزَنَا بِمَا شَاءَ مِنْ رَفِيعِ الصِّفاتِ وَنَبِيلِ القِيَمِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، وَصَفِيُّهُ مِنْ خَلْقِهِ وَحَبِيبُهُ، - صلى الله عليه وسلم - وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الأَطْهَارِ، وَتَابِعِيهِمُ البَرَرَةِ الأَخْيارِ، مَا تَعَاقَبَ اللَّيلُ وَالنَّهَارُ.
أَمَّا بَعْدُ، فَأُوصِيكُمْ وَنَفْسِي - عِبادَ الله - بِتَقْوَى اللهِ، وَالعَمَلِ بِمَا فِيهِ رَضَاهُ، فَإِنَّكُمْ (إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)، وَاعلَمُوا - رَحِمَكُمُ اللهُ - أَنَّ عُنْوانَ تَقَدُّمِ الأُمَمِ وفَخارِها، وَمبْعَثَ أَمْنِها وَأَمَاَنِها، وَمصْدَرَ عِزِّها وَاستِقرَارِها، فِي سَلاَمَةِ عُقُولِ أَفرَادِها، وَنَزَاهَةِ أَفكَارِ أَبنَائِها، وَمَدَى ارتِبَاطِهِمْ بِثَوابِتِ حَضَارَتِهِمْ، وَاعتِزَازِهِمْ بِمَعَالِمِها الثَّقَافِيَّةِ، وَمِنْ مَحاسِنِ شَرِيعَتِنا الغَرَّاءِ أَنَّها جَاءَتْ بِحِفْظِ العُقُولِ وَالأَفْكَارِ، وَجَعَلَتْ ذَلِكَ إِحدَى الضَّرورَاتِ الخَمْسِ الوَاجِبِ حِفْظُها مِنَ الإِضْرارِ، تَحقِيقًا لِمَصَالِحِ العِبَادِ فِي أُمُورِ المَعَاشِ وَالمَعَادِ، فَالتَّربِيَةُ وَالتَّعلِيمُ أَسَاسَانِ مُهِمَّانِ لِصِنَاعَةِ الأَجيَالِ، وَالتَّوجِيهُ السَّلِيمُ لِفِكْرِهِمْ وِقَايَةٌ لَهُمْ مِنَ الانْحِرافِ وَالضَّلاَلِ، وَشَتَّانَ بَيْنَ أُمَّةٍ تَفْخَرُ بِجِيلٍ مُفَكِّرٍ، وَأُخْرَى تَنُوءُ بِشَبابٍ جَاهِلٍ غَيْرِ مُتَبَصِّرٍ، قَالَ تَعَالَى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ)، لِذَا كَانَ غَرْسُ العِلْمِ وَصِيَاغَةُ الفِكْرِ أَوَّلَ هَدَفٍ لِلرِّسَالَةِ، كَيفَ لاَ ؟ وَقَدِ استَغْرَقَ ذَلِكَ ثَلاَثَةَ عَشَرَ عَامًا فِي مَرحَلَتِها المَكِّيَّةِ، وَلَمْ تَخْلُ مِنْهُ تَوجِيهَاتُ عَشَرَةِ أَعْوَامٍ مِنَ المَرحَلَةِ المَدَنِيَّةِ، وَعِنْدَما أَسلَمَ عُمَيْرُ بنُ وَهْبٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ - صلى الله عليه وسلم- لأَصْحَابِهِ: (فَقِّهِوا أَخَاكُمْ فِي دِينِهِ، وَأَقرِئوهُ القُرآنَ)، وَالنَّاظِرُ فِي تَأْرِيخِ أُمَّـتِنَا القَوَيمِ، يَجِدُ أَنَّ مَنْهَجَ الإِسلاَمِ فِي ذَلِكَ أُنْمُوذَجٌ فَرِيدٌ، وَتَكَامُلٌ بَدِيعٌ بَيْنَ العِلْمِ وَالتَّربِيَةِ الإِيمَانِيَّةِ الرَّاسِخَةِ، يَجتَمِعَانِ لِتَنشِئَةِ جِيلٍ رَبَّانِيٍّ يَعْمُرُ الحَيَاةَ وَيَبْنِي الأَرْضَ، فَتَكُونُ سِمَةُ المُخْرَجَاتِ جَسَدًا طَاهِرًا، وَقلْبًا مُؤمِنًا، وَعِلْمًا نَافِعًا، وَحَضارةً تَستَنِيرُ بِهُدَى اللهِ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ :
إِنَّ أَوَّلَ خُطُواتِ التَّعلِيمِ فِي الإِسلاَمِ التَّعْرِيفُ بِأَدَبِ النُّبُوَّةِ فِي الأَمَانَةِ وَالصِّدقِ وَالاستِقَامَةِ، وَالعَدلِ وَالإِخلاَصِ وَصَلاَحِ الظَّاهِرِ وَطَهارَةِ السَّرِيرَةِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ المُثُلِ العُلْيا، قَالَ تَعالَى: (أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)، وَالمَنَاهِجُ وَالنُّصُوصُ مَهْما كَانَتَ سَامِيةً لاَ يَكُونُ لَهَا تَأْثِيرٌ فَعَّالٌ إِلاَّ إِذَا تَحَوَّلَتْ إِلَى وَاقِعٍ مُتَحرِّكٍ وَتَرْجَمَةٍ عَمَلِيَّةٍ فِي التَّصَرُّفاتِ وَالسُّلُوكِ وَالمَشَاعِرِ وَالأَفكَارِ، فَحَاجتُنا إِلَى القُلُوبِ العَامِرَةِ بِالإِيمَانِ، وَالجَوارِحِ الفَاعِلَةِ لِلْبِرِّ وَالإِحسَانِ، لَيْسَتْ دُونَ حَاجَتِنَا إِلَى العُقُولِ المَشْحُونَةِ بِالمَعلُومَاتِ، إِنَّ مُهِمَّةَ التَّعلِيمِ قَبْـلَ إِعطَاءِ المَعلُومَاتِ تَكْمُنُ فِي تَكْوِينِ العَقْلِ الذِي يَستَعْمِلُ المَعلُومَاتِ لِلْخَيْرِ لاَ لِلشَّرِّ، وَلِنَفْعِ البَشَرِيَّةِ لاَ لِضَرَرِها، وَلاَ سَبِيلَ لِذَلِكَ إِلاَّ بِتَربِيَةٍ تُرَسِّخُ تِلْكُمُ المَفَاهِيمَ وَتَغْرِسُها فِي أَعمَاقِ النَّفْسِ؛ لِتَجْعَلَها تَتَعَلَّقُ بِمَعَالِي الأُمُورِ وَتَتَرَفَّعُ عَنْ سَفَاسِفِها، وَإِذَا كَانَ العِلْمُ مُجَرَّدًا مِنَ التَّربِيَةِ خَواءً مِنَ المَبادِئِ فَهُوَ نَاقِصٌ؛ وَلِذا ارتَبَطَتِ التَّربِيَةُ بِالتَّعلِيمِ، وَالعِلْمُ بِالعَمَلِ، قَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ)، هَذا وَإِنَّ أَوَّلَ مَا يَجِبُ تَغْذِيَةُ الفِكْرِ بِهِ هُوَ صَحِيحُ المُعتَقَداتِ، وَسَلِيمُ الأَفْكَارِ وَالتَّصَوُّراتِ، نَحْوَ اللهِ وَسَائرِ المَوجُودَاتِ، فَعَنِ ابنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- قَالَ: كُنْتُ رَدِيفَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَومًا فَقَالَ: (يَا غُلاَمُ، إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ، احفَظِ اللهَ يَحفَظْكَ، احفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تِجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسأَلِ اللهَ، وَإِذَا استَعَنْتَ فَاستَعِنْ بِاللهِ، وَاعلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ، وَلَوِ اجتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْـكَ، رُفِعَتِ الأَقلاَمُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ)، إِنَّهُ تَوجِيهٌ مُبَاشرٌ لِمَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ فِكْرُ المَرءِ وَهُوَ يَشُقُّ عُبَابَ هَذِهِ الحَيَاةِ.
أَيُّها المُؤمِنونَ :
إِنَّ تَقَدُّمَ الأُمَمِ يُقَاسُ بِقَدْرِ التِزَامِهَا بِالقِيَمِ وَتشَبُّعِها بِالمَبَادِئِ وَتَمَثُّلِها بِالأَخلاَقِ، وَأَيُّ أُمَّةٍ لاَ تَقُومُ مُؤسَّساتُهَا عَلَى التَّربِيَةِ الرّشِيدَةِ وَاقِعًا عَمَلِيًّا وَسُلُوكًا مُشَاهَدًا لاَ يُمْـكِنُ أَنْ تَسِيرَ طَوِيلاً مَهْمَا ارتفَعَتْ وَتَفنَّنَتْ فِي الوَسَائلِ وَالتَّقْنِيَةِ، وَالوَاجِبُ يَقْتَضِي تَحْصِينَ الأَجيَالِ بِالفِكْرِ المُستَنِيرِ، فَالفِكْرُ فِي حَيَاةِ الأَفْرَادِ وَالأُمَمِ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنَ الجَسَدِ، لِمَا لَهُ مِنَ الصِّلَةِ الوَثِيقَةِ بِهُوِيَّةِ الأُمَّةِ وَشَخْصِيَّتِها الحَضَارِيَّةِ، فَإِذا اطَمأَنَّ النَّاسُ عَلَى مَا عِنْدَهُمْ مِنْ أُصُولٍ وَثَوابِتَ، وَأَمِنُوا عَلَى مَا لدَيهِمْ مِنْ قِيَمٍ ومُثُلٍ وَمَبادِئَ، فَقَدْ تَحَقَّقَ لَهُمُ الأَمْنُ فِي أَسمَى صُوَرِهِ وَأَجلَى مَعَانِيهِ، لِذَلِكَ حَرَصَتْ شَرِيعَتُنَا الغَرَّاءُ عَلَى سَلاَمَةِ فِكْرِ أَبنَائِها بِمَا يُحَافِظُ عَلَى مُكَوِّنَاتِ شَخْصِيَّتِهِمْ وَتَمَيُّزِ ثَقَافَتِهِمْ وَمَنْظُومَتِهمُ الفِكْرِيَّةِ، لأَنَّ الخَلَلَ الفِكْرِيَّ طَرِيقٌ إِلَى الخَلَلِ السُّلُوكِيِّ وَالاجتِمَاعِيِّ، فَجَاءَ النَّهْيُ وَاضِحًا وَصَرِيحًا، عَنِ اتِّبَاعِ الآخَرِينَ إِلاَّ فِيمَا كَانَ نَافِعًا وَصَحِيحًا، وَإِذَا كَانَ الفِكْرُ بِهَذِهِ الأَهَمِّـيَّةِ، فَإِنَّ الوَاجِبَ التَّنَبُّهُ لِلأَفْكَارِ المُنْحَرِفَةِ، وَعَدَمُ التَّفْرِيطِ في مُقَوِّمَاتِنَا الرّاسِخَةِ، وَهُوِيَّـتِنا الوَاضِحَةِ، هُوِيَّةٍ لاَ تَنْسَى المَاضِيَ العَرِيقَ، وَلاَ تُهْمِلُ الحَاضِرَ المُشْرِقَ، بَلْ تَستَشْرِفُ آفَاقَ المُستَقْبَلِ الوَاعِدِ بإِذْنِ اللهِ.
أقُولُ قَوْلي هَذَا واسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لي وَلَكُمْ، فَاسْتغْفِرُوهُ يَغْفِرْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ.
*****
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.