إن التفكير بحرية معناه التحلل من الأحكام المسبقة التي يعتقد الاستبداد أنها لازمة لحمياته ودعمه» (دولباخ).
يقال بأن المجتمع الغربي هو مجتمع المابعديات، فنسمع عن ما بعد الصناعة، ما بعد التاريخ، وما بعد الرأسمالية، ما بعد الإنسانية، وما بعد الحداثة وغيرها، ليطرح سؤال: ماذا تحقق من هذه المقاربات المختلفة؟ أعتقد بأنه قد تحقق الشيء الكثير من خلال محاولة تسييد الدينامية بدل الدوكما التي لا ترى في الاختلاف إلا شرا يهدد تماسكها ووجودها. فلماذا إذن ما بعد الأمازيغية؟فما بعد الحداثة مثلا قامت على أساس تقويض أو تجاوز أو إعادة قراءة الأركان التي قامت عليها الحداثة، وذلك في إطار شمولي متجانس وروح المرحلة أو الراهنية، هذه الراهنية التي حاول الفكر الغربي تكييفها مع المستجدات والاجتهادات المرحلية، ليصل، مما وصل إليه، إلى اعتبار ما بعد الحداثة مرحلة لا تنفصل من حيث السيرورة عن الحداثة، بل هي مرحلة أسرع وأعمق من الحداثة. فبودلير الذي مثل الحداثة الفكرية على أساس أنها علمنة كل الفنون، في حين رأى آخرون في هذا التحديد نوعا من التراجع في مقابل القراءة التي ترى في نفس العنصر على أنه إضفاء لصفة التقنية على الفكر والثقافة بالرغم من اعتبار ما بعد الحداثة على أنها نوع من المثالية اللغوية تقوم على الفيلولوجيا وليس على النقد الاجتماعي وتصف كل نظرية عامة بالإمبريالية(1). وما بعد الأمازيغية لا يعني تقويض كل الأسس التي بني عليها الخطاب الأمازيغي بل محاولة إيجاد صيغ/ أركان جديدة للسير بدينامية الحركة الأمازيغية إلى الأمام، على غرار نظيره الغربي في محاولة لتجديد آليات عمله.ولا أحاول من خلال هذه المقاربة إسقاط النموذج الغربي على نظيره الأمازيغي بقدر ما أن الاستفادة من تجارب الأمم والشعوب الأخرى في إطار تفاعل إيجابي معها هو المخرج من الانغلاق على الذات، على اعتبار أن الانفتاح هو أحد أوجه الحداثة في جانبها الاجتماعي، والتي لن تتقوض ربما في موجة المابعديات. يقول الشهيد الدكتور قاضي قدور في نص العرض المقدم إلى ندوة الأمازيغية بين التقليد والحداثة بالجامعة الصيفية بأكادير صيف 1991: "بشكل عام تم استقلال المغرب في ظل أيديولوجية غلب عليها الوظيفية والمركزية مما أدى إلى حصول هوة بين هذه الأيديولوجية وبناء استراتيجية عامة للتطور الاقتصادي والثقافي واللغوي".فهذه الشمولية التي ترفض الاختزالية أو التبسيطية هي الإجابة عن سؤال المنطلقات الجديدة للحركة الأمازيغية.البدايات:يجمع الكل على أن تبلور الخطاب الأمازيغي بشكل حداثي لم يبرز من داخل النسق الاجتماعي المغربي إلا في بداية النصف الثاني من القرن العشرين. هذه المرحلة التي عرفت انقلاب المعادلة الاقتصادية التي كانت المحدد الأساسي للسياسيات وأصبح أن لا حديث عن اقتصاد دون نظرة سياسية، وأن العامل الثقافي هو المبلور الأساس لكل تدبير سياسي.وهذا التغير الفكري ساهم في تحولات وطنية ودولية كبيرة، سواء تلك التي حملت على عاتقها إسقاط منظومات فكرية وتعويضها بأخرى، ترى فيها الإجابة النهائية وبالتالي نهاية التاريخ على الشاكلة الفوكويامية الجديدة، والتي ترى بأن نجاح المشروع الليبرالي بكل تجلياته هو نهاية للتاريخ، وهو نفس ما قالت به أيديولوجيات أخرى كالنازية والشيوعية وغيرها.في خضم هذه التحولات ستظهر مجموعة من الجمعيات التي حملت على عاتقها الدفاع عن الأمازيغية. فكانت البداية بتأسيس جمعية AMREC بالرباط في 10 نونبر 1967، ثم بعدها جمعية الانطلاقة الثقافية بالناظور أواخر يناير 1976. وقريبا من مركز القرار، أي الرباط تأسست في16 أكتوبر 1978 جمعية تامينوت، ثم جمعية الجامعة الصيفية بأكادير في 9 أكتوبر 1979. لتعقد دوتها الأولى في 1980. ليصبح هم هذه الجمعيات ليس فقط الاهتمام بالتراث، بل محاولة استقراء الماضي الحضاري الأمازيغي من خلال الاهتمام بالثقافة الأمازيغية. هذا العمل توج بصدور ميثاق أكادير حول اللغة والثقافة الأمازيغية في 5 غشت 1991 بمحاوره الخمسة.ما بعد المرحلة:شهدت مرحلة ما بعد ميثاق أكادير انتعاشة كبيرة للقضية الأمازيغية من خلال البحث عن التنسيقات الجهوية والوطنية، وتدويل القضية الأمازيغية تماشيا مع المفاهيم الجديدة لحقوق الإنسان والمد الحقوقي العالمي. مع فضح وسقوط بعض الأنظمة الشمولية اليعقوبية التي وشمت التاريخ الإنساني وأساءت إليه كثيرا لتتعقد المفاهيم والتنظيرات وتنتقل من الاختزالية والبساطة إلى التعقيد الذي يقول عنه إدغار موران بأنه ظاهرة كمية، أي الكمية القصوى للتفاعلات والتداخلات بين عدد كبير من الوحدات.... بل يشتمل أيضا على عدد من اللايقينيات واللاتحديدات والظواهر الصدفوية بمعنى ما، إذ للتقعيد دائما صلة بالصدفة"(2).الأمازيغية بكل مكوناتها الحضارية الكبيرة في تفاعلها العميق مع كل من توافد إليها، اصطدمت بمحاولات البعض تهذيبها وصقل تنوعها بشكل اختزالي يتجاهل العناصر التي ينبغي أخذها بعين الاعتبار.فبالرغم من أن القوانين الأساسية للجمعيات الأمازيغية والمنطلقات الفكرية لباقي مكونات الحركة الأمازيغية حاولت عدم اختزال القضية الأمازيغية في اللغة والثقافة وفقط، إلا أن ممارستها العلمية أثبتت أنها حبيسة هذه المقاربة، الشيء الذي لم يخدم الأمازيغية ونظر إليها من زاوية ضيقة سهلة الاحتواء، لأنها بكل بساطة اختزلت في محاور دون غيرها. ويمكن تمثيل هذا الاختزال في تناول الأمازيغية من خلال غرفتين على شاكلة تناول [جانيس] للأفراد في الحضارات القديمة(3)، غرفتان لم تتواصلا منذ ظهور اللبنات الأولى للخطاب الأمازيغي، غرفة احتوت على الثقافة الأمازيغية بكل محاورها من آلة وتيوقراطيا وقيم. وغرفة بقيت من اللامفكر فيها يشغلها الوجود والسلطة والقوة. واللامفكر فيه هذا بقي مكبوتا ومخيفا!.لاينصح عادة بالاقتراب منه، على اعتبار أن التجارب التي مر بها الإنسان الأمازيغي جعلته يكسب مناعة سلبية من الخوض فيه. ويتشكل بالأساس من التمثيلية السياسية أو محاولة الاستحواذ على مراكز العنف الإيجابية.المرحلة الجديدة:هذه المرحلة هي بالأساس تقييم للبدايات، واستقراء لتأثيراتها الإيجابية أولا للاستفادة منها، والسلبية ثانيا لمحاولة تجاوزها. لأنه لا يمكن أن تقيم حاضرا مجردا من تأثرات الماضي بكل تعقيداته.إن ما أسميه بما بعد الأمازيغية على، غرار المابعديات، هي محاولة إيجاد صيغ عمل جديدة أرى أنها إحدى الإجابات المرحلية للدفع بالقضية الأمازيغية إلى الواجهة من جديد. ويمكن أن أمحورها في محورين أساسيين وهما: