هبة الله الادارة
نقاط : 13559
| موضوع: ثابت بن قيس الأربعاء مارس 18, 2009 4:37 pm | |
| “في وقت، نحن فيه أحوج ما نكون إلى “النموذج”: نموذج الفرد الذي يؤدي عمله وهو يرى ربه معه، في كل ما يأتي من أمر أو ينتهي عن نهي؛ نموذج الفرد الذي يتعامل مع مجتمعه، من خلال تعامله مع ربه.. لنا أن نلقي نظرة على تاريخنا وتراثنا، تاريخنا العربي وتراثنا الإسلامي؛ نظرة نرى من خلالها بعضاً من تلك “النماذج” التي استطاعت أن تنتقل، أو تنقل نفسها بالأحرى، من رعاة إبل جفاة غلاظ يشعلون الحرب لأوهى الأسباب، إلى قادة وهداة؛ قادة إلى الحق، وهداة إلى الله الواحد الأحد، عبر آداب القرآن الكريم، وأحكامه”.
كان “حسان” شاعر رسول الله والإسلام.. وكان “ثابت” خطيب رسول الله والإسلام، حيث الكلمات تخرج من فمه قوية، صادعة، جامعة، رائعة.. وفي عام الوفود، وفد على المدينة وفد “بني تميم” وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: “جئنا نفاخرك، فإذن لشاعرنا وخطيبنا”.. فابتسم الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال لهم: “قد أذنت لخطيبكم، فليقل”.. وقام خطيبهم “عطارد بن حاجب”، ووقف يزهو بمفاخر قومه.. ولما آذن بانتهاء، قال النبي صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس: قم فأجبه.. ونهض “ثابت” فقال: “الحمد لله، الذي السماوات والأرض خلقه، قضى فيهن أمره، ووسع كرسيه علمه، ولم يك شيء قط إلا من فضله.. ثم كان من قدرته أن جعلنا أئمة. واصطفى من خير خلقه رسولاً.. أكرمهم نسباً، وأصدقهم حديثاً، وأفضلهم حسباً، فأنزل عليه كتابه، وائتمنه على خلقه، فكان خيرة الله من العالمين.. ثم دعا الناس إلى الإيمان به، فآمن به المهاجرون من قومه وذوي رحمه.. أكرم الناس أحساباً، وخيرهم فعالاً.. ثم كنا نحن الأنصار أول الخلق إجابة.. فنحن أنصار الله، ووزراء رسوله”.. هو: ثابت بن قيس.. يكنى أبا محمد، وقيل يكنى أبا عبد الرحمن. وعندما رزق بابنه الأول، حمله وهرول به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحنكه بتمرة عجوة، وسماه محمداً.. وله من البنين ثلاثة، قتلوا جميعاً في الدفاع عن الإسلام. ومن زوجاته حبيبة بنت سهل، التي رأت في خلقه شدة كما تقول فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تطلب منه أن يخلعها من ثابت. فقال النبي: أو تردين له ما أعطاك(؟!). فقالت: يا نبي الله كل ما أعطاني فهو عندي. فقال: يا ثابت خذ منها. فأرسلت به إليه، وأقامت في أهلها فترة، ثم تزوجها أبي بن كعب. هذه بعض ملامح وظلال ثابت بن قيس، الذي كان يطلق عليه قبل الإسلام خطيب الأنصار، ثم سمي خطيب الإسلام، ثم سمي خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك. شهد غزوة أحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما بعدها، وشارك بسيفه ولسانه في الدفاع عن الإسلام. وإذا كان هذا دور ثابت بن قيس في المعارك والحروب، فلقد كان له دور آخر في مجال الخطابة والمفاخرة، وتعدد المآثر. وهكذا قام ثابت بن قيس، رضي الله عنه، بدور جديد قد كلف به، فوفاه حقه، وأحسن وأجاد، وانتصر المسلمون في معركة الكلام، كما انتصروا سابقاً في معركة السيف والسنان. و”ثابت بن قيس”، هذا، الذي تفوق خطيباً، وتفوق محارباً، كان يحمل نفساً أوابة، وقلباً خاشعاً مخبتاً، وكان من أكثر المسلمين وجلاً من الله، وحياء منه.. لما نزلت الآية الكريمة: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ).. أغلق “ثابت” باب داره، وجلس يبكي.. وطال مكثه على هذه الحال، حتى نمى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره، فدعاه وسأله. فقال ثابت: “يا رسول الله، إني أحب الثوب الجميل، والنعل الجميل، وقد خشيت أن أكون بهذا من المختالين”.. فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يضحك راضياً: “إنك لست منهم، بل تعيش بخير، وتموت بخير.. وتدخل الجنة”. ولما نزل قول الله تعالي: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ).. أغلق “ثابت” عليه داره، وطفق يبكي.. وافتقده الرسول فسأل عنه، ثم أرسل من يدعوه.. وجاء “ثابت”. وسأله الرسول عن سبب غيابه، فأجابه: “إني امرؤ جهير الصوت.. وقد كنت أرفع صوتي فوق صوتك يا رسول الله.. وإذن فقد حبط عملي، وأنا من أهل النار”(!!). وأجابه الرسول صلى الله عليه وسلم: “إنك لست منهم، بل تعيش حميداً، وتقتل شهيداً.. ويدخلك الله الجنة”. وفي يوم من الأيام والمسلمون يعدون العدة، للخروج تحت قيادة أسامة بن زيد نعى الناعي إليهم رسولهم وكان وقع هذا الخبر على ثابت بن قيس كما كان على غيره شيئاً لا يطاق. ولكن بدأ يردهم إلى صوابهم، ويخفف عنهم هول الصدمة الأولى. إن لكل أجل كتاباً، وإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون..؟ وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم؟. وكان على المسلمين أن يجابهوا أمرهم بحزم وقوة، وخصوصاً بعد أن ارتد كثير من العرب عن الإسلام، وظهر بينهم الكذبة وأدعياء النبوة، يمنونهم الأماني، ويتقولون على الله ما لم يقل. وأخذ خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبو بكر الصديق، الأمر بجد كله، وسير الجيوش للقضاء على هؤلاء المرتدين عن دينهم ومحاربة الأدعياء والتنكيل بهم. وخرج ثابت بن قيس مع جيش خالد بن الوليد الذي اتجه إلى اليمامة، لمحاربة مسيلمة الكذاب مدعي النبوة والذي التف حوله مجموعة من صناديد العرب وفرسانها. والتقى الجيشان في معركة ضارية، وانكشف المسلمون في الجولة الأولى، عندما يتقدم ثابت بن قيس ومعه سالم مولى أبي حذيفة إلى مقدمة الجيش، ويصرخ في هؤلاء المنكشفين عن مواقعهم بقوله: “يا أبطال الإسلام يا جنود الرحمن، ما هكذا كنا نقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم حفر كل واحد منهما له حفرة، فثبتا وقاتلا حتى قتلا”. قتل هذان البطلان، بعد أن فتحا في صفوف الأعداء ثغرة نفذ منها فرسان الإسلام إلى قلب الأعداء.. وكأن دماءهم التي سالت على أرض المعركة، بداية النصر الكبير من الله سبحانه وتعالى لمن خرجوا من ديارهم، لا يرجون إلا إعلاء كلمته، ونشر دينه.
| |
|