إنه الإمام الكبير، شيخ المقرئين، والفرضيين، مفتي المدينة، إنه كاتب الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو جامع القرآن في عهد أبي بكر وعثمان، ويوم بعاث من الأيام المشهورة في الجاهلية، وهي وقعة عظيمة ومعركة طاحنة دارت بين الأوس والخزرج، فقتل فيها كثير منهم، وكان ممن قتلوا فيها أبوه ثابت بن زيد، فربي زيد يتيماً.
ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم، أسلم زيد رضي الله عنه وهو ابن احدى عشرة سنة وكان إسلامه رضي الله عنه على يد أمه النوار بنت مالك التي تزوجت بعد مقتل زوجها من عمارة بن حزم من بني النجار، وعاش زيد وترعرع بينهما، ومنذ أن أسلم زيد ازداد تعلقه بدينه، فعكف على حفظ ما أنزل الله من القرآن الكريم، خاصة بعد قدوم مصعب بن عمير رضي الله عنه الى المدينة ولم يزل زيد كذلك حتى غدا أعلم الصحابة بالفرائض- يعني علم المواريث- وصار من الحفاظ المقدمين في الفتوى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويوم بدر أراد زيد رضي الله عنه أن يشارك في صفوف المسلمين وعمره لا يجاوز الثانية عشرة، فأقبل على النبي صلى الله عليه وسلم وقال: جعلت فداك يا رسول الله، ائذن لي أن أكون معك، وأجاهد أعداء الله تحت رايتك، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم نظرة سرور وإعجاب وطيب خاطره ورده لصغر سنه.
فعاد الغلام حزيناً وأمه أكثر حزناً منه، فهي التي كانت تتمنى أن ترى ولدها الصغير يذود عن الدين ويدافع عن الإسلام والمسلمين.
وما إن رده رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وقف مع نفسه يتأمل في مواهبه وإمكاناته وكيف يستخدمها لنصرة الإسلام، وإذا به يرى أن الله قد امتن عليه بنعمة الحفظ والاستيعاب ومحبة العلم والقرآن.
فلما أخبر أمه برغبته في طلب العلم سعدت به وبالطريق الذي أراد، ثم أخبرت قومها فحملوه الى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله هذا غلام بني النجار، وقد قرأ مما أنزل عليك سبع عشرة سورة.. ولقد اعجب النبي به عندما سمع قراءته وقال: “يازيد تعلم لي كتاب يهود، فإني والله ما آمنهم على كتابي”.
قال: فتعلمته فما مضى لي نصف شهر حتى حذقته (أتقنته) وكنت أكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كتب إليهم.
وقال زيد: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم “أتحسن السريانية” قلت: لا، فقال: “فتعلمها”، فتعلمتها في سبعة عشر يوماً.
وقد أصبح زيد رضي الله عنه هو المرجع الأول للقرآن في أمة النبي صلى الله عليه وسلم، كيف لا وقد اختاره صلى الله عليه وسلم ليكون كاتباً للوحي الذي يتنزل عليه من السماء، فيا لها من عيشة ما أجملها، ويا لها من لحظات ما أعذبها، ويا لها من مهمة مباركة ما أطيبها، وظل زيد رضي الله عنه ملازماً للحبيب صلى الله عليه وسلم يكتب له الوحي حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنه راض.