في تاريخ الشعر العربي عدد من الشعراء الفحول لا تنحسر عنهم دائرة الضوء، فأسماؤهم دائما بارزة في قوائم المبدعين ووجودهم ساطع متألق لا يخبو وميضه مع حركة الزمن، ولا تنقصف أعواده من مهب الريح والأعاصير.
ويبرز من بين هذا الوجود الشامخ، والحضور المتوهج حسان بن ثابت الأنصاري، لا باعتباره طاقة شعرية هائلة فحسب، بل باعتبار انه شاعر استطاع في مرحلة من مراحل حياته أن يوظف هذه الطاقة لتؤدي دورا هو
بلا شك أجل وأعظم دور قام به شاعر في تاريخ الشعر العربي كله.
وهل هناك ما هو أشرف وأعظم من الدفاع عن الإسلام، والوقوف إلى جانب النبي عليه الصلاة والسلام في مواجهة الشرك والوثنية، وتأييد الدعوة التي جاء بها رسول الله لتخرج الناس من الظلمات إلى النور، والإشادة بما تنطوي عليه من قيم إنسانية عليا، والتغني بانتصارات المسلمين على طريق نشر الدعوة الإسلامية ورثاء شهدائهم الأبرار، وهل يمكن أن يعمل إنسان شاعرا كان أو غير شاعر لغاية أشرف من هذه الغاية؟
حسان بن ثابت من أهل المدينة ينحدر من بيت شريف من بيوت الخزرج، وينتمي إلى بني النجار أخوال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما أبوه فهو ثابت بن المنذر الخزرجي من سادة قومه، ومن أشرفهم، وأما أمه فهي الفزيعة بنت خنيس بن لوزان بن عبدون وهي أيضا خزرجية.
وحسان بن ثابت أحد المخضرمين الذين أدركوا الجاهلية والإسلام، عاش ستين سنة في الجاهلية ومثلها في الإسلام، ولد بالمدينة، ونشأ في الجاهلية، وعاش على الشعر، فكان يمدح المناذرة والغساسنة، وبالغ في مدح آل جفنة من ملوك غسان فأغدقوا عليه العطايا، وملأوا يديه بالنعم، ولم ينكروه بعد إسلامه فجاءته رسلهم بالهدايا من القسطنطينية، ولما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أسلم حسان مع الأنصار، وانقطع إلى مدحه والذود عنه، وأصبح الشاعر المنافح عن دين الإسلام، فاشتهر بذلك ذكره، وارتفع قدره، وعاش ما عاش موفور الكرامة مكفي الحاجة من بيت المال حتى توفي سنة 54 للهجرة بالغا من العمر مائة وعشرين سنة، وقد كف بصره في آخر أيامه.
صورتان فنيتان
يقول الأديب الدكتور محمد مصطفى سلام: لقد كان حسان يتغنى بالشعر، وربة الشعر تطاوعه في جاهليته وإسلامه حتى ملأ به القلوب والأسماع، وأجمعت العرب على انه اشعر أهل المدر، وشعره كشعر غيره من المخضرمين يجمع بين صورتين فنيتين صادقتين للشعر، إحداهما جاهلية، والأخرى إسلامية تعد مظهرا قويا لتأثر الأدب الإسلامي بالقرآن والحديث وأحداث الإسلام وعقائده.
لقد دعا حسان إلى التغني بالشعر، وأجود الشعر عنده ما جادت به القريحة مطابقا للواقع وسلامة المنطق، وشاعريته محلقة تستلهم السماء فتوحي إليه بالعذب المعجز، وهو أمير نفسه في شعره، فلم يلتزم مذاهب غيره من شعراء عصره كزهير والنابغة والأعشى والحطيئة وغيرهم، ولم يعمد إلى التكلف في شعره، ولم يحفل بتنقيحه بل كان يرسله كما أوصت به القريحة وحدثت به النفس ودعت إليه الحال وكثيرا ما اضطرته بعض المواقف الإسلامية إلى الارتجال، فلا غرابة أن تتنوع أساليبه ومعانيه وتتباين ألفاظه ومبانيه، وأن تجتمع في قصائده الفخامة واللين والغريب والمألوف.
حول موهبة حسان وشاعريته يقول الشاعر الإسلامي صلاح الدين السباعي: لقد عاش حسان في الجاهلية شاعرا قبليا يصوغ شعره في روية وأناة ويراجعه ويجوده قبل أن يخرج به على الناس، مما وفر لقصائده مستوى فنيا عاليا، وعندما دخل حسان الإسلام اكتشف أن دوره في تأييده ومؤازرة النبي صلى الله عليه وسلم والدفاع عنه في مواجهة المشركين، يفرض عليه جانبا تسجيليا وتاريخيا للمواقف والأحداث التي شهدتها الدعوة الإسلامية، ولم يكن حسان يمتلك أداة للتسجيل والتأريخ افضل من الأداة التي تمرس على استخدامها طويلا قبل الإسلام، وهي هذه الأوزان العروضية التي كان في الجاهلية يعبر من خلالها عن أفكاره ومشاعره.
وهكذا اتخذ حسان من هذه الأوزان وسيلة لتسجيل تلك المواقف والأحداث شأن أي مؤرخ حريص على تدوين حقائق التاريخ، ومن هنا جاء إنتاجه بالنسبة لهذا الجانب التسجيلي خاليا تماما من نبض الشعر ودقته وحرارته، بمعنى انه عندما كانت الأحداث تتوالى فإن كل اهتمامه كان ينصرف إلى الحرص على تسجيلها فقط، وبالتالي فإنه يتحول من حين إلى آخر إلى ناظم وفقا لحركة الأحداث. وعندئذ تغطي عنده الحقيقة التاريخية على الحقيقة الشعرية وبحيث تتوارى، وذلك على نحو ما نرى في رده على أبي سفيان بن حرب وفخره على حسان بمقتل عدد من المسلمين من بينهم حمزة عم الرسول في واقعة أحد:
ذكرت القروم الصيد من آل هاشم
ولست لزور قلته بمصيب
أتعجب أن أقصدت حمزة منهم
نجيبا وقد سميته بنجيب
ألم يقتلوا عمرا وعتبة وابنه
وشيبة والحجاج وابن حبيب
غداة دعا العاص عليا فراعه
بضربه عضب بله بخضيب
فهذه الأبيات كما نرى ليس فيها إلا تذكير لأبي سفيان بانتصار المسلمين في واقعة بدر وتسجيل لأسماء سراة المشركين الذين قتلوا فيها.
وفي شعر حسان الكثير والكثير جدا مما يسجل هذه الأحداث والمواقف ومما يؤرخ لحياة الرسول مما أشاع الاستشهاد بشعره في الكتب التي تناولت السيرة النبوية.
بين الجاهلية والإسلام
يؤكد النقاد أن شعر حسان بعد إسلامه لم يكن في قوته وجزالته في الجاهلية حيث افتقر شعره الإسلامي من وجهة نظر بعض النقاد وأساتذة الأدب العربي إلى الجزالة وقوة الصياغة التي كانت له في الجاهلية.
لكنه في مقابل ذلك كان يتمتع بقدر كبير من الحيوية والرقة والسلاسة، ويتوهج من حين إلى آخر بتدفق عاطفي يكشف عما في قلبه من دفء وحرارة ويثبت للذين ارجعوا ضعف شعره إلى شيخوخته أن قلب الشاعر لا يشيخ.
ويتفق النقاد على أن أساليب حسان بن ثابت بعد إسلامه قد سلمت من الحوشية والأخيلة البدوية، لكن خالطها لين الحضارة، ولم تخل في بعض الأغراض من جزالة اللفظ وفخامة المعنى والعبارة كما في الفخر والحماسة والدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم ورسالته ومعارضته المشركين وهجومهم.
يقول الدكتور محمد مصطفى سلام: لقد غلبت على أساليب حسان الشعرية الصبغة الإسلامية كتوليد المعاني من عقائد الدين الجديد وأحداثه والاستعانة بصيغ القرآن وتشبيهاته ولطيف كناياته، وضرب أمثاله، واقتباس الألفاظ الإسلامية من الكتاب والسنة وشعائر الدين، كما غلبت عليها الرقة واللين والدماثة واللطف وسهولة المأخذ وواقعية الصورة وقرب الخيال، واكثر ما نرى ذلك في شعر الدعوة إلى توحيد الله وتنزيهه، وتهجين عبادة الأوثان، ووصف الشعائر الإسلامية وذكر مآثرها وبيان ثواب المؤمنين وعقاب المشركين وبعض ما مدح به الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه أو رثاهم به.
نماذج من إبداعاته
لا يتسع المجال هنا لتقديم نماذج عديدة من شعر حسان، ولذلك فإننا نكتفي باختيار بضعة أمثلة قد لا تحدد بشكل حاسم القيمة الفنية لشعره الإسلامي، ولكنها على الأقل تومئ إلى مستوى الآفاق التي حلق فيها.
يقول عن الرسول مشيرا إلى مكانة قومه واعتزازه بتأييده عليه الصلاة والسلام والوقوف إلى جانبه في مواجهة المشركين:
نصرناه لما حل وسط رحالنا
بأسيافنا من كل باغ وظالم
جعلنا بنينا دونه وبناتنا
وطبنا له نفسا بفيء المغانم
أما مدائح حسان في الرسول صلى الله عليه وسلم فتكشف عن عمق إيمانه به وعن مدى حبه وإجلاله له عليه الصلاة والسلام من ذلك قوله:
وأحسن منك لم تر قط عيني
وأجمل منك لم تلد النساء
خلقت مبرأ من كل عيب
كأنك قد خلقت كما تشاء
فإذا انتقلنا من المدح إلى الرثاء وجدنا حسان يرثي الرسول بمجموعة من القصائد التي تنم عن شعور صادق بالحزن والتي تنصهر فيها المعاني في بوتقة داكنة قاتمة، وتكاد الكلمات تتحول فيها إلى دموع، ومن ذلك قوله:
فابكي رسول الله يا عين عبرة
ولا أعرفنك الدهر دمعك يجمد
وجودي عليه بالدموع وأعولي
لفقد الذي لا مثله الدهر يوجد
فما فقد الماضون مثل محمد
ولا مثله حتى القيامة يفقد