ويفضح السبب الخفي لهذا الموقف الشائن الذي وقفوه ; بعد أن يقرر خسارة الصفقة التي اختاروها:
(بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله , بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده . فباؤوا بغضب على غضب , وللكافرين عذاب مهين). .
بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا . . . لكأن هذا الكفر هو الثمن المقابل لأنفسهم ! والإنسان يعادل نفسه بثمن ما , يكثر أو يقل . أما أن يعادلها بالكفر فتلك أبأس الصفقات وأخسرها ولكن هذا هو الواقع . وإن بدا تمثيلا وتصويرا . لقد خسروا أنفسهم في الدنيا فلم ينضموا إلى الموكب الكريم العزيز ولقد خسروا أنفسهم في الآخرة بما ينتظرهم من العذاب المهين . وبماذا خرجوا في النهاية ? خرجوا بالكفر , هو وحده الذي كسبوه وأخذوه !
وكان الذي حملهم على هذا كله هو حسدهم لرسول الله [ ص ] أن يختاره الله للرسالة التي انتظروها فيهم , وحقدهم لأن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده . وكان هذا بغيا منهم وظلما فعادوا من هذا الظلم بغضب على غضب ; وهناك ينتظرهم عذاب مهين , جزاء الاستكبار والحسد والبغي الذميم .
وهذه الطبيعة التي تبدو هنا في يهود هي الطبيعة الكنود , طبيعة الأثرة الضيقة التي تحيا في نطاق من التعصب شديد ; وتحس أن كل خير يصيب سواها كأنما هو مقتطع منها ; ولا تشعر بالوشيجة الإنسانية الكبرى , التي تربط البشرية جميعا . . وهكذا عاش اليهود في عزلة , يحسون أنهم فرع مقطوع من شجرة الحياة ; ويتربصون بالبشرية الدوائر ; ويكنون للناس البغضاء , ويعانون عذاب الأحقاد والضغائن , ويذيقون البشرية رجع هذه الأحقاد فتنا يوقدونها بين بعض الشعوب وبعض , وحروبا يثيرونها ليجروا من ورائها المغانم , ويروون بها أحقادهم التي لا تنطفىء , وهلاكا يسلطونه على الناس , ويسلطه عليهم الناس . . وهذا الشر كله إنما نشأ من تلك الأثرة البغيضة: (بغيا . . أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده). .
(وإذا قيل لهم:آمنوا بما أنزل الله قالوا:نؤمن بما أنزل علينا , ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم). .
وكان هذا هو الذي يقولونه إذا دعوا إلى الإيمان بالقرآن وبالإسلام . كانوا يقولون (نؤمن بما أنزل علينا).
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (91) وَلَقَدْ جَاءكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ (93)