|
| تأويل سورة البقرة | |
| | |
كاتب الموضوع | رسالة |
---|
هبة الله الادارة
نقاط : 13559
| موضوع: تأويل سورة البقرة الثلاثاء أبريل 21, 2009 1:06 pm | |
| تفسير سورة البقرة ************************ بسم الله ( القول في تفسير السورة التي يُذْكر فيها البقرة )
القول في تأويل قول الله جل ثناؤه: الم . قال أبو جعفر:
اختلفت تراجمة القرآن في تأويل قول الله تعالى ذكره « الم »
فقالَ بعضُهم: هو اسم من أسماء القرآن. وقال بعضُهم: هو فَواتحُ يفتح الله بها القرآن.
وقال آخرون: هو اسم للسورة.
وقال بعضهم: هو اسم الله الأعظم. . وقال بعضهم: هو قسمٌ أقسمَ الله به، وهو من أسمائه.
وقال بعضهم: هو حُرُوف مقطَّعةٌ من أسماء وأفعالٍ, كلُّ حرف من ذلك لمعنى غير معنى الحرف الآخر. وقال بعضهم هي حروفُ هجاءٍ موضوعٍ.
وقال بعضهم: هي حروف يشتمل كل حرفٍ منها على معان شتى مختلفة. . وقال بعضُهم: هي حُروف من حساب الجُمَّل - كرهنا ذكْر الذي حُكي ذلك عنه, إذْ كان الذي رواه ممن لا يُعتمد على روايته ونقله. . وقال بعضهم: لكل كتاب سرٌّ, وسرُّ القرآن فواتحه. ***************************************** قال الطبري رحمه الله"
وأمَّا أهل العربية، فإنهم اختلفوا في معنى ذلك.
فقال بعضهم: هي حروف من حُرُوف المعجم، استُغْنِيَ بذكر ما ذُكر منها في أوائل السور عن ذكر بَواقيها، التي هي تتمة الثمانية والعشرين حرفًا؛ كما استغنى المُخبرُ - عمن أخبرَ عنه أنه في حروف المعجم الثمانية والعشرين حرفًا - بذكر « أ ب ت ث » ، عن ذكر بواقي حروفها التي هي تتمة الثمانية والعشرين: قال. ولذلك رُفع ذَلِكَ الْكِتَابُ ، لأنّ معنى الكلام: الألف واللام والميم من الحروف المقطعة، ذَلِكَ الْكِتَابُ الذي أنـزلته إليك مجموعًا لا رَيْبَ فِيهِ . **************************** قال الطبري رحمه الله"
فإن قال قائل: فإن « أ ب ت ث » ، قد صارتْ كالاسم في حروف الهجاء، كما كان « الحمدُ » اسما لفاتحة الكتاب. قيل له: لما كان جائزًا أن يقول القائل: ابني في « ط ظ » , وكان معلومًا بقيله ذلك لو قاله أنَّه يريد الخبر عن ابنه أنَّه في الحروف المقطَّعة - عُلم بذلك أنّ « أ ب ت ث » ليس لها باسْم, وإن كان ذلك آثَرَ في الذكر من سائرها .
قال: وإنما خُولف بين ذكر حُرُوف المعجم في فواتح السور, فذُكِرت في أوائلها مختلفةً , وذِكْرِها إذا ذُكرت بأوائلها التي هي « أ ب ت ث » ، مؤتلفةً، ليفصل بين الخبر عنها إذا أريد - بذكر ما ذكر منها مختلفًا- الدلالةُ على الكلام المتصل؛ وإذا أريد - بذكر ما ذكر منها مؤتلفًا- الدلالةُ على الحروف المقطعة بأعيانها. واستشهدوا - لإجازة قول القائل: ابني في « ط ظ » وما أشبه ذلك، من الخبر عنه أنه في حرُوف المعجم, وأن ذلك من قيله في البيان يَقوم مقام قوله: ابني في « أ ب ت ث » - برجز بعض الرُّجّاز من بني أسد: لَمَّــا رَأيْــتُ أمرَهَـا فـي حُـطِّي وفَنَكَـــتْ فــي كَــذِب ولَــطِّ أَخــذْتُ منهــا بقُــرُونٍ شُــمْطٍ فلــم يَـزَلْ صَـوْبِي بهـا ومَعْطِـي حَتى علا الرأسَ دَمٌ يُغَطِّي فزعم أنه أراد بذلك الخبر عن المرأة أنها في « أبي جاد » , فأقام قوله: « لما رأيت أمرها في حُطِّي » مقامَ خبرِه عنها أنها في « أبي جاد » , إذْ كان ذاك من قوله، يدلّ سامعَه على ما يدلُّه عليه قوله: لما رأيت أمرَها في « أبي جاد » . | |
| | | هبة الله الادارة
نقاط : 13559
| موضوع: رد: تأويل سورة البقرة الثلاثاء أبريل 21, 2009 1:07 pm | |
| قال الطبري رحمه الله"
وقال آخرون: بل ابتدئت بذلك أوائل السُّور ليفتح لاستماعه أسماعَ المشركين - إذ تواصَوْا بالإعراض عن القرآن- حتى إذا استمعوا له، تُلي عليهم المؤلَّفُ منه. *************************** قال الطبري رحمه الله"
وقال بعضهم: الحروفُ التي هي فواتح السُّور حروفٌ يستفتحُ الله بها كلامه. فإن قيل: هل يكون من القرآن ما ليس له معنى؟ قيل : معنى هذا أنه افتتح بها ليُعْلم أن السورة التي قبلها قد انقضت, وأنه قد أخذ في أخرى, فجعل هذا علامةَ انقطاعِ ما بينهما, وذلك في كلام العرب، ينشد الرجل منهم الشعر فيقول: بل * وبلدةٍ مَا الإنسُ من آهَالِها ويقول: لا بَل * مَا هاج أحزانًا وشَجْوًا قد شَجَا و « بل » ليست من البيت ولا تعد في وزنه, ولكن يقطع بها كلامًا ويستأنفُ الآخر. قال أبو جعفر: ولكل قول من الأقوال التي قالها الذين وصفنا قولهم في ذلك، وجهٌ معروفٌ. ********************** قال الطبري رحمه الله"
فأما الذين قالوا: « الم » ، اسم من أسماء القرآن, فلقولهم ذلك وجهان: أحدهما: أن يكونوا أرادوا أن « الم » اسم للقرآن، كما الفُرقان اسم له. وإذا كان معنى قائل ذلك كذلك, كان تأويل قوله الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ ، على معنى القسم. كأنه قال: والقرآن، هذا الكتابُ لا ريب فيه. والآخر منهما: أن يكونوا أرادوا أنه اسمٌ من أسماء السورة التي تُعرف به، كما تُعرَف سائر الأشياء بأسمائها التي هي لها أمارات تعرف بها, فيَفهم السامع من القائل يقول:- قرأت اليوم المص و ن - ، أيُّ السُّوَر التي قرأها من سُوَر القرآن ، كما يفهم عنه - إذا قال: لقيتُ اليوم عمرًا وزيدًا, وهما بزيد وعمرو عارفان - مَن الذي لقي من الناس. وإن أشكل معنى ذلك على امرئ فقال: وكيف يجوز أن يكون ذلك كذلك، وَنظائر « الم الر في القرآن جماعةٌ من السُّور؟ وإنما تكون الأسماء أماراتٍ إذا كانت مميِّزة بين الأشخاص, فأما إذا كانت غير مميزة فليست أمارات. » قيل: إن الأسماء - وإن كانت قد صارت، لاشتراك كثير من الناس في الواحد منها، غيرَ مميِّزة إلا بمعانٍ أخرَ معها من ضَمِّ نسبة المسمَّى بها إليها أو نعته أو صفته، بما يفرِّق بينه وبين غيره من أشكالها - فإنها وُضعت ابتداءً للتمييز لا شَكَّ. ثم احتيج، عند الاشتراك، إلى المعاني المفرِّقة بين المسمَّيْن بها . فكذلك ذلك في أسماء السور. جُعل كلّ اسم - في قول قائل هذه المقالة - أمارةً للمسمى به من السُّور. فلما شارك المسمَّى به فيه غيرَه من سور القرآن، احتاج المخبر عن سورةٍ منها أن يضمّ إلى اسمها المسمَّى به من ذلك، ما يفرِّق به السامع بين الخبر عنها وعن غيرها، من نعتٍ وصفةٍ أو غير ذلك. فيقول المخبر عن نفسه إنه تلا سورة البقرة، إذا سماها باسمها الذي هو « الم » : قرأتُ « الم البقرة » , وفي آل عمران: قرأت « الم آل عمران » , و الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ ، و الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ . كما لو أراد الخبر عن رَجلين، اسم كل واحد منهما « عمرو » , غير أنّ أحدهما تميمي والآخر أزديَّ, للزمه أن يقول لمن أراد إخباره عنهما: لقيت عمرًا التميمي وعمرًا الأزديَّ, إذْ كان لا يفرُقُ بينهما وبين غيرهما ممن يُشاركهما في أسمائهما، إلا بنسبتهما كذلك. فكذلك ذلك في قول من تأوَّل في الحروف المقطعة أنها أسماءٌ للسُّور.
| |
| | | هبة الله الادارة
نقاط : 13559
| موضوع: رد: تأويل سورة البقرة الثلاثاء أبريل 21, 2009 1:08 pm | |
| قال الطبري رحمه الله"
وأما الذين قالوا: ذلك فواتحُ يفتتح الله عز وجل بها كلامه, فإنهم وجهوا ذلك إلى نحو المعنى الذي حكيناه عمَّن حكينا عنهُ من أهل العربية، أنه قال: ذلك أدِلَّةٌ على انقضاء سُورة وابتداءٍ في أخرى، وعلامةٌ لانقطاع ما بينهما, كما جعلت « بل » في ابتداء قصيدةٍ دلالةً على ابتداء فيها، وانقضاءِ أخرى قَبلها كما ذكرنا عن العرب إذا أرادوا الابتداءَ في إنشاد قصيدة, قالوا: بل * ما هاجَ أحْزَانًا وشجوًا قد شَجا و « بل » ليست من البيت ولا داخلةً في وزنه, ولكن ليَدُلَّ به على قطع كلام وابتداء آخر.
*************************** قال الطبري رحمه الله" وأما الذين قالوا: ذلك حروف مقطَّعة بعضها من أسماء الله عز وجل, وبعضُها من صفاته, ولكل حرف من ذلك معنى غيرُ معنى الحرف الآخر، فإنهم نَحَوْا بتأويلهم ذلك نحو قول الشاعر: قُلْنَـا لهـا: قِفِـي لنـا, قـالت: قافْ لا تَحْسَــبي أنَّــا نَسِـينا الإيجـاف يعني بقوله: « قالت قاف » ، قالت: قد وقفتُ. فدلت بإظهار القاف من « وقفت » ، على مرادها من تمام الكلمة التي هي « وقفت » . فصرفوا قوله: « الم » وما أشبه ذلك، إلى نحو هذا المعنى. فقال بعضهم: الألف ألف « أنا » , واللام لام « الله » , والميم ميم « أعلم » , وكلُّ حرف منها دال على كلمة تامة. قالوا: فجملة هذه الحروف المقطَّعة إذا ظهر مع كل حرفٍ منهن تَمام حروف الكلمة، « أنا » الله « أعلم » . قالوا: وكذلك سائر جميع ما في أوائل سُور القرآن من ذلك, فعلى هذا المعنى وبهذا التأويل.
********************************
قالوا: ومستفيضٌ ظاهرٌ في كلام العرب أن ينقُصَ المتكلم منهم من الكلمةِ الأحرفَ، إذا كان فيما بقي دلالة على ما حذف منها - ويزيدَ فيها ما ليس منها، إذا لم تكن الزيادة مُلبِّسةً معناها على سامعها - كحذفهم في النقص في الترخيم من « حارثٍ » الثاءَ، فيقولون: يا حارِ, ومن « مالك » الكافَ، فيقولون: يا مالِ, وأما أشبه ذلك، وكقول راجزهم: مَــا لِلظليــم عَـالَ? كَـيْفَ لا يَـا يَنْقَـــذُّ عنـــه جِــلْدُه إذا يَــا كأنه أراد أن يقول: إذا يَفعل كذا وكذا, فاكتفى بالياء من « يفعل » ، وكما قال آخر منهم: بالخيرِ خيراتٍ وإنْ شرًّا فَا يريد: فشرًّا. ولا أُرِيد الشرَّ إلا أن تَا يريد: إلا أن تَشاء، فاكتفى بالتاء والفاء في الكلمتين جَميعًا، من سائر حروفهما, وما أشبهَ ذلك من الشواهد التي يَطول الكتاب باستيعابه. * عن محمد, قال: لما مات يزيدُ بن معاوية قال لي عَبْدَة: إني لا أراها إلا كائنةً فتنةً، فافزع منْ ضَيْعَتِكَ والحقْ بأهلك. قلت: فما تأمرني؟ قال: أحَبُّ إليّ لك أنْ تا - قال أيوبُ وابن عون بِيده تحت خدِّه الأيمن، يصف الاضطجاع - حتى ترى أمرا تَعرفه . قال أبو جعفر: يعني بـ « تا » تضطجع, فَاجتزأ بالتاء من تضطجع. وكما قال الآخر في الزيادة في الكلام على النحو الذي وصفت: أقُــول إِذْ خَــرَّتْ عـلى الكَلكـالِ يَـا نـاقَتِي مـا جُـلْتِ مـن مَجَـالِ يريد: الكَلْكل، وكما قال الآخر: إنّ شَـــكْلِي وَإن شَــكْلَك شَــتَّى فَـالزْمي الخُـصَّ واخْفِضِي تَبْيضِضِّي فزاد ضادًا، وليست في الكلمة . قالوا: فكذلك ما نقصَ من تمام حُروف كل كلمة من هذه الكلمات التي ذَكرنا أنها تتمة حروف « الم » ونظائرها - نظيرُ ما نقص من الكلام الذي حكيناهُ عن العرب في أشعارها وكلامها. ************ قال الطبري رحمه الله" **************
وأما الذين قالوا: كل حرف من « الم » ونظائرها، دالُّ على معان شتى - نحو الذي ذكرنا عن الربيع بن أنس - فإنهم وَجَّهوا ذلك إلى مثل الذي وَجَّهه إليه من قال: هو بتأويل « أنا الله أعلم » ، في أنّ كلَّ حرف منه بعضُ حروفِ كلمةٍ تامة، استُغْنِيَ بدلالته عَلى تَمامه عن ذكر تمامه - وإن كانوا له مُخالفين في كلِّ حرف من ذلك: أهو من الكلمة التي ادَّعى أنه منها قائلو القول الأول، أم من غيرها؟ فقالوا: بل الألف من « الم » من كلمات شتى، هي دالةٌ على معاني جميع ذلك وعلى تمامه. قالوا: وإنما أفرِد كلُّ حرف من ذلك، وقصَّر به عن تمام حروف الكلمة، أن جميعَ حُروف الكلمة لو أظهِرت، لم تدلَّ الكلمة التي تُظهر - التي بعضُ هذه الحروف المقطعة بعضٌ لها - إلا على معنى واحد لا على معنيين وأكثر منهما. قالوا: وإذْ كان لا دلالة في ذلك، لو أظهر جميعها، إلا على معناها الذي هو معنى واحدٌ, وكان الله جل ثناؤه قد أراد الدلالة بكلّ حرف منها على معان كثيرة لشيء واحد - لم يَجُز إلا أن يُفرَد الحرفُ الدالُّ على تلك المعاني, ليعلمَ المخاطبون به أنّ الله عز وجل لم يقصد قصد مَعنًى واحدٍ ودلالةٍ على شيء واحد بما خاطبهم به, وأنه إنما قصد الدلالةَ به على أشياء كثيرة.
| |
| | | هبة الله الادارة
نقاط : 13559
| موضوع: رد: تأويل سورة البقرة الثلاثاء أبريل 21, 2009 1:10 pm | |
|
قالوا: فالألف من « الم » مقتضيةٌ معانيَ كثيرةً, منها تمامُ اسم الربّ الذي هو « الله » , وتمامُ اسم نعماء الله التي هي آلاء الله, والدلالةَ على أجَلِ قومٍ أنه سنة, إذا كانت الألف في حساب الجُمَّل واحدًا. واللام مقتضيةٌ تمامَ اسم الله الذي هو لطيف, وتمامَ اسم فَضْله الذي هو لُطفٌ, والدلالةَ على أجَلِ قوم أنه ثلاثون سنة. والميم مقتضيةٌ تمامَ اسم الله الذي هوَ مجيد, وتمامَ اسم عظمته التي هي مَجْد, والدلالةَ على أجَلِ قوم أنه أربعون سنة. فكان معنى الكلام - في تأويل قائل القول الأول- أن الله جل ثناؤه افتتح كلامه بوَصْف نفسه بأنه العالِمُ الذي لا يخفى عليه شيء , وَجعل ذلك لعباده مَنهجًا يسلكونه في مُفتتح خطبهم ورسائلهم ومُهِمِّ أمورهم, وابتلاءً منه لهم ليستوجبوا به عظيمَ الثواب في دار الجزاء, كما افتتح ب الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ , و الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ، [ سورة الأنعام: 1 ] وما أشبه ذلك من السُّور التي جعل مَفاتحها الحمدَ لنفسه، وكما جعل مفاتحَ بَعضها تعظيم نَفسه وإجلالها بالتسبيح، كما قال جل ثناؤه: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا [ سورة الإسراء: 1 ] ، وما أشبه ذلك من سائر سور القرآن، التي جعل مفاتحَ بعضها تحميدَ نفسه, ومفاتحَ بعضها تمجيدَها, ومفاتح بعضها تعظيمَها وتنـزيهها. فكذلك جَعل مفاتحَ السور الأخَر التي أوائلها بعضُ حروف المعجم، مدائحَ نفسه، أحيانًا بالعلم, وأحيانًا بالعدل والإنصاف, وأحيانًا بالإفضال والإحسان، بإيجاز واختصار, ثم اقتصاصَ الأمور بعدَ ذلك.
وعلى هذا التأويل يجبُ أن يكون الألف واللام والميم في أماكن الرفع، مرفوعًا بعضُها ببعض، دون قوله ذَلِكَ الْكِتَابُ ، ويكون ذَلِكَ الْكِتَابُ خبرا مبتدأ مُنقطِعًا عن مَعنى « الم » . وكذلك ذَلِكَ في تأويل قول قائل هذا القول الثاني، مرفوعٌ بعضه ببعض, وإن كان مخالفًا معناهُ معنى قول قائل القول الأول.
**************************** قال الطبري رحمه الله"
وأما الذين قالوا: هنّ حروف من حروف حساب الجُمَّل دون ما خالف ذلك من المعاني, فإنهم قالوا: لا نعرف للحروف المقطَّعة معنًى يُفهم سوى حساب الجُمَّل، وسوى تَهَجِّي قول القائل: « الم » . وقالوا: غيرُ جائز أن يخاطبَ الله جلّ ثناؤه عبادَه إلا بما يفهمونه ويعقلونه عنه. فلما كان ذلك كذلك - وكان قوله « الم » لا يُعقَل لها وجهٌ تُوجَّه إليه، إلا أحد الوجهين اللذين ذكرنا, فبطل أحدُ وَجهيه, وهو أن يكون مُرادًا بها تهجِّي « الم » - صحَّ وثبت أنه مرادٌ به الوجه الثاني، وهو حساب الجُمَّل؛ لأن قول القائل: « الم » لا يجوز أن يليَه من الكلام ذَلِكَ الْكِتَابُ ، لاستحالة معنى الكلام وخرُوجه عن المعقول، إنْ وَلي « الم » ذَلِكَ الْكِتَابُ . "واحتجوا لكلامهم بخبر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيه حساب الجمل" ************************** قال الطبري رحمه الله"
والصواب من القول عندي في تأويل مفاتِح السور، التي هي حروف المعجم: أنّ الله جلّ ثناؤه جعلَها حروفًا مقطَّعة ولم يصِل بعضَها ببعض - فيجعلها كسائر الكلام المتّصِل الحروف - لأنه عز ذكره أراد بلفظِه الدلالةَ بكل حرف منه على معان كثيرة، لا على معنى واحد, كما قال الربيعُ بن أنس. وإن كان الربيع قد اقتصَر به على معانٍ ثلاثةٍ، دون ما زاد عليها. والصوابُ في تأويل ذلك عندي: أنّ كلّ حرف منه يحوي ما قاله الربيع، وما قاله سائر المفسرين غيرُه فيه - سوى ما ذكرتُ من القول عَمَّن ذكرت عنه من أهل العربية: أنهّ كان يوجِّه تأويلَ ذلك إلى أنّه حروف هجاء، استُغني بذكر ما ذُكر منه في مفاتيح السور، عن ذكر تتمة الثمانية والعشرين حرفًا من حروف المعجم، بتأويل: أن هذه الحروف, ذَلِكَ الْكِتَابُ , مجموعة، لا رَيْبَ فِيهِ - فإنه قول خطأ فاسدٌ، لخروجه عن أقوال جميع الصحابة والتابعين وَمن بَعدَهم من الخالفين منْ أهل التفسير والتأويل . فكفى دلالة على خَطئة، شهادةُ الحجة عليه بالخطأ، مع إبطال قائل ذلك قولَه الذي حكيناه عنه - إذ صار إلى البيان عن رفع ذَلِكَ الْكِتَابُ - بقوله مرّة إنه مرفوعٌ كلّ واحد منهما بصاحبه، ومرة أخرى أنه مرفوعٌ بالرّاجع من ذكره في قوله لا رَيْبَ فِيهِ ومرة بقوله هُدًى لِلْمُتَّقِينَ . وذلك تركٌ منه لقوله: إن « الم » رافعةٌ ذَلِكَ الْكِتَابُ ، وخروجٌ من القول الذي ادّعاه في تأويل الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ ، وأنّ تأويل ذلك: هذه الحروف ذلك الكتاب. ***************************** قال الطبري رحمه الله"
فإن قال لنا قائل: وكيفَ يجوز أن يكون حرفٌ واحدٌ شاملا الدلالةَ على معانٍ كثيرة مختلفة؟ قيل: كما جاز أن تكون كلمة واحدةٌ تشتمل على معانٍ كثيرة مختلفةٍ، كقولهم للجماعة من الناس: أمَّة, وللحين من الزمان: أمَّة, وللرجل المتعبِّد المطيع لله: أمّة, وللدين والملة: أمّة. وكقولهم للجزاء والقصاص: دين, وللسلطان والطاعة: دين, وللتذلل: دين, وللحساب: دِينٌ، في أشباه لذلك كثيرةٍ يطول الكتاب بإحصائها - مما يكون من الكلام بلفظ واحد, وهو مشتمل على معان كثيرة. وكذلك قول الله جل ثناؤه: « الم » و الر , و المص وما أشبه ذلك من حروف المعجم التي هي فواتح أوائل السور, كل حرف منها دالّ على معانٍ شتى, شاملٌ جميعُها من أسماء الله عز وجل وصفاته ما قاله المفسِّرُون من الأقوال التي ذكرناها عنهم. وهنّ، مع ذلك، فواتح السور، كما قاله من قال ذلك. ****************************** قال الطبري رحمه الله"
وليسَ كونُ ذلك من حُروف أسماء الله جل ثناؤه وصفاته، بمانعها أنْ تكون للسُّور فواتح. لأن الله جلّ ثناؤه قد افتتح كثيرًا من سوَر القرآن بالحمد لنفسه والثناء عليها, وكثيرًا منها بتمجيدها وتعظيمها, فغيرُ مستحيل أن يبتدئ بعض ذلك بالقسم بها. فالتي ابتُدِئ أوائلُها بحُروف المعجم، أحدُ مَعاني أوائلها: أنهنّ فواتحُ ما افتتَح بهنّ من سُور القرآن. وهنّ مما أقسم بهن، لأن أحدَ معانيهن أنّهنّ من حروف أسماء الله تعالى ذكُره وصفاتِه، على ما قدَّمنا البيان عنها, ولا شك في صحة معنى القسَم بالله وأسمائه وصفاته. وهنّ من حروف حساب الجُمَّل. وهنّ للسُّور التي افتتحت بهنّ شعارٌ وأسماء. فذلك يحوى مَعانِيَ جميع ما وصفنا، مما بيَّنا، من وجوهه. لأن الله جلّ ثناؤه لو أراد بذلك، أو بشيء منه، الدلالةَ على معنًى واحد مما يحتمله ذلك ، دون سائر المعاني غيره, لأبان ذلك لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم إبانةً غيرَ مشكلةٍ. إذْ كان جلّ ثناؤه إنما أنـزل كتابه على رسوله صلى الله عليه و سلم ليُبيِّن لهم ما اختلفوا فيه. وفي تركه صلى الله عليه و سلم إبانةَ ذلك - أنه مرادٌ به من وُجوه تأويله البعضُ دون البعض- أوضحُ الدليل على أنه مُرادٌ به جميعُ وجوهه التي هو لها محتمل. إذ لم يكن مستحيلا في العقل وجهٌ منها أن يكون من تأويله ومعناه، كما كان غير مستحيل اجتماعُ المعاني الكثيرة للكلمة الواحدة، باللفظ الواحد، في كلام واحد.
| |
| | | هبة الله الادارة
نقاط : 13559
| موضوع: رد: تأويل سورة البقرة الثلاثاء أبريل 21, 2009 1:10 pm | |
| قال الطبري رحمه الله"
ومن أبىَ ما قلناه في ذلك، سُئِل الفرقَ بين ذلك، وبين سائر الحروف التي تأتي بلفظ واحد، مع اشتمالها على المعاني الكثيرة المختلفة، كالأمّة والدين وما أشبه ذلك من الأسماء والأفعال. فلن يقول في أحدٍ منْ ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله. وكذلك يُسأل كلّ من تأوّل شيئًا من ذلك - على وجهٍ دُون الأوجه الأخَر التي وصفنا- عن البرهان على دَعْواه، من الوَجه الذي يجبُ التسليم له. ثم يُعارَض بقول مُخالفه في ذلك, ويسأل الفرقَ بينه وبينه: من أصْل, أو مما يدل عليه أصْل. فلن يقولَ في أحدهما قولا إلا ألزم في الآخر مثله. *************************** قال الطبري رحمه الله"
وأما الذي زعم من النحويين: أنّ ذلك نظيرُ « بل » في قول المنشد شعرًا: بل * ما هَاج أحزانًا وشجوًا قد شَجَا وأنه لا معنى له, وإنما هو زيادة في الكلام معناه الطَّرْح - فإنه أخطأ من وُجُوه شَتَّى أحدها: أنه وَصفَ الله تعالى ذكره بأنه خاطب العرب بغير ما هوَ من لغتها، وغير ما هو في لغة أحد من الآدميين. إذْ كانت العرُب - وإن كانت قد كانتْ تفتتح أوائل إنشادها ما أنشدت من الشعر بـ « بل » - فإنه معلوم منها أنها لم تكن تبتدئُ شيئًا من الكلام بـ « الم » و الر و المص ، بمعنى ابتدائها ذلك بـ « بل » . وإذْ كان ذلك ليس من ابتدائها - وكان الله جل ثناؤه إنما خاطبهم بما خاطبهم من القرآن، بما يعرفون من لغاتهم، ويستعملون بينهم من منطقهم، في جميع آيه - فلا شك أن سبيل ما وصفنا من حروف المعجم، التي افتُتِحت بها أوائل السور، التي هن لها فواتح، سَبيلُ سائر القرآن، في أنه لم يعدلْ بها عن لغاتِهم التي كانوا بها عارفين، ولها بينهم في منطقهم مستعملين. لأن ذلك لو كان معدولا به عن سبيل لغاتِهم ومنطقهم، كان خارجًا عن معنى الإبانة التي وصف الله عزّ وجل بها القرآن, فقال تعالى ذكره: نَـزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ . وأنَّى يكون مُبينًا ما لا يعقله ولا يفقهه أحد من العالمين ، في قول قائل هذه المقالة, ولا يُعْرَف في منطق أحد من المخلوقين، في قوله؟ وفي إخبار الله جَلّ ثناؤه عنه أنه عربي مبين، ما يُكذِّب هذه المقالة, وينبئ عنه أنّ العربَ كانوا به عالمين، وهو لها مُستبينٌ. فذلك أحدُ أوجه خطئه.
والوجه الثاني من خطئه في ذلك: إضافته إلى الله جلّ ثناؤه أنه خاطب عباده بما لا فائدة لهم فيه ولا معنى له، من الكلام الذي سواءٌ الخطابُ فيه به وترك الخطاب به. وذلك إضافة العبث الذي هو منفيٌّ في قول جميع الموحِّدين عن الله - إلى الله تعالى ذكره. والوجهُ الثالث من خطئه: أن « بل » في كلام العرب مفهومٌ تأويلها ومعناها, وأنها تُدْخلها في كلامها رجوعًا عن كلامٍ لها قد تَقضَّى كقولهم: ما جاءني أخوك بل أبوك ; وما رأيتُ عمرًا بل عبد الله, وما أشبه ذلك من الكلام, كما قال أعشى بني ثعلبة: وَلأشْـــرَبَنَّ ثَمَانِيًـــا وثَمَانِيًـــا وثَــلاثَ عَشْـرَةَ واثْنَتَيـنِ وأَرْبَعَـا ومضى في كلمته حتى بلغ قوله: بالجُلَّسَـــانِ, وطَيِّـــبٌ أرْدَانُــهُ بِـالوَنِّ يَضْـرِبُ لِـي يَكُـرُّ الإصْبَعَا ثم قال: بَـلْ عَـدِّ هـذا, فِـي قَـريضٍ غَيْرِهِ وَاذكُـرْ فَتًـى سَـمْحَ الخَلِيقـةِ أَرْوَعَا فكأنه قال: دَعْ هذا وخذ في قريض غيره. فـ « بل » إنما يأتي في كلام العرب على هذا النحو من الكلام، فأما افتتاحًا لكلامها مُبتدأ بمعنى التطوّل والحذف ، من غير أن يدلّ على معنى, فذلك مما لا نعلم أحدًا ادعاه من أهل المعرفة بلسان العرب ومنطقها, سوى الذي ذكرتُ قوله, فيكون ذلك أصلا يشبَّه به حُرُوف المعجم التي هي فواتح سور القرآن التي افتتحت بها - لو كانت له مُشبهةً- فكيف وهي من الشبه به بعيدة؟
| |
| | | هبة الله الادارة
نقاط : 13559
| موضوع: رد: تأويل سورة البقرة الثلاثاء أبريل 21, 2009 1:25 pm | |
| قال أبو جعفر: القول في تأويل قوله جَل ثناؤه: ذَلِكَ الْكِتَابُ . قال عامّة المفسرين: تأويل قول الله تعالى ( ذلك الكتاب ) : هذا الكتاب. *********************************
قال أبو جعفر:
فإن قال قائل: وكيف يجوزُ أن يكون « ذلك » بمعنى « هذا » ؟ و « هذا » لا شكّ إشارة إلى حاضر مُعايَن, و « ذلك » إشارة إلى غائب غير حاضر ولا مُعايَن؟ قيل: جاز ذلك، لأن كل ما تَقضَّى، بقُرْبِ تَقضِّيه من الإخبار ، فهو - وإن صار بمعنى غير الحاضر- فكالحاضر عند المخاطب. وذلك كالرجل يحدِّث الرجلَ الحديثَ فيقول السامع: « إن ذلك والله لكما قلت » , و « هذا والله كما قلت » , و « هو والله كما ذكرت » ، فيخبرُ عنه مَرَّة بمعنى الغائب، إذْ كان قد تَقضَّى ومضى, ومرة بمعنى الحاضر، لقُرْب جوابه من كلام مخبره، كأنه غير مُنْقَضٍ. فكذلك « ذلك » في قوله ( ذلك الكتاب ) لأنه جلّ ذكره لما قدم قبلَ « ذلك الكتاب » الم ، التي ذكرنا تصرُّفَها في وجُوهها من المعاني على ما وصفنا، قال لنبيه صلى الله عليه و سلم: يا محمد، هذا الذي ذكرته وبيَّنته لك، الكتابُ. ولذلكَ حسن وضع « ذلك » في مكان « هذا » , لأنه أشير به إلى الخبر عما تضمَّنهُ قوله الم من المعاني، بعد تقضّي الخبر عنه بـ « الم » , فصار لقرب الخبر عنه من تقضِّيه، كالحاضر المشار إليه, فأخبر به بـ « ذلك » لانقضائه، ومصير الخبر عنه كالخبر عن الغائب، وترجمهُ المفسِّرون : أنه بمعنى « هذا » ، لقرب الخبر عنه من انقضائه, فكانَ كالمشاهَد المشار إليه بـ « هذا » ، نحو الذي وصفنا من الكلام الجاري بين الناس في محاوراتهم, وكما قال جل ذكره: وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الأَخْيَارِ * هَذَا ذِكْرٌ [ سورة ص: 48، 49 ] فهذا ما في « ذلك » إذا عنى بها « هذا » . ****************************** قال أبو جعفر:
وقد يحتمل قوله جل ذكره ( ذلك الكتاب ) أن يكون معنيًّا به السُّوَرُ التي نـزلت قبل سورة البقرة بمكة والمدينة, فكأنه قال جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد، اعلم أنّ ما تضمَّنتْه سُوّرُ الكتاب التي قد أنـزلتها إليك، هو الكتابُ الذي لا ريبَ فيه. ثم ترجمه المفسرون بأن معنى « ذلك » « هذا الكتاب » , إذْ كانت تلك السُّور التي نـزلت قبل سورة البقرة، من جملة جميع كتابنا هذا، الذي أنـزله الله عز وجل على نبينا محمد صلى الله عليه و سلم. وكان التأويل الأول أولى بما قاله المفسرون، لأنّ ذلك أظهرُ معاني قولهم الذي قالوه في « ذلك » . وقد وَجَّه معنى « ذلك » بعضُهم، إلى نظير معنى بيت خُفاف بن نُدبة السُّلميّ: فَـإن تَـكُ خَـيْلي قـد أُصِيبَ صَمِيمُها فَعَمْـدًا عـلى عَيْـنٍ تَيَمَّمْـتُ مَالِكَـا أقـولُ لـه, والـرُّمحُ يـأطِرُ مَتْنَـهُ: تــأمَّل خُفاَفًــا, إننــي أنـا ذلِكَـا كأنه أراد: تأملني أنا ذلك. فزعم أنّ « ذلك الكتاب » بمعنى « هذا » ، نظيرُه . أظهر خفافٌ من اسمه على وجه الخبر عن الغائب، وهو مخبر عن نفسه. فكذلك أظهر « ذلك » بمعنى الخبر عن الغائب ، والمعنى فيه الإشارة إلى الحاضر المشاهَد. والقول الأول أولى بتأويل الكتاب، لما ذكرنا من العلل.
| |
| | | هبة الله الادارة
نقاط : 13559
| موضوع: رد: تأويل سورة البقرة الثلاثاء أبريل 21, 2009 1:25 pm | |
| قال أبو جعفر: وقد قال بعضهم: ( ذلك الكتاب ) ، يعني به التوراة والإنجيل, وإذا وُجّه تأويل « ذلك » إلى هذا الوجه، فلا مؤونة فيه على متأوِّله كذلك، لأن « ذلك » يكون حينئذ إخبارًا عن غائب على صحة.
********************************* قال أبو جعفر:
القول في تأويل قوله : لا رَيْبَ فِيهِ . وتأويل قوله: « لا ريب فيه » « لا شك فيه » . وهو مصدر من قول القائل: رابني الشيء يَريبني رَيبًا. ومن ذلك قول ساعدة بن جُؤَيَّة الهذليّ: فقـالوا: تَرَكْنَـا الحَـيَّ قد حَصِرُوا به, فـلا رَيْـبَ أنْ قـد كـان ثَـمَّ لَحِـيمُ ويروى: « حَصَرُوا » و « حَصِرُوا » والفتحُ أكثر, والكسر جائز. يعني بقوله « حصروا به » : أطافوا به. ويعني بقوله « لا ريب » . لا شك فيه. وبقوله « أن قد كان ثَمَّ لَحِيم » ، يعني قتيلا يقال: قد لُحِم، إذا قُتل. والهاء التي في « فيه » عائدة على الكتاب, كأنه قال: لا شك في ذلك الكتاب أنه من عند الله هُدًى للمتقين. ******************************** قال أبو جعفر:
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: هُدًى حدثني أحمد بن حازم الغفاري, قال: حدثنا أبو نعيم, قال: حدثنا سفيان, عن بَيَان, عن الشعبي، « هُدًى » قال: هُدًى من الضلالة . حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط بن نصر, عن إسماعيل السُّدّي, في خبر ذكره عن أبي مالك, وعن أبي صالح , عن ابن عباس وعن مُرة الهَمْداني, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم، « هدى للمتقين » ، يقول: نور للمتقين . والهدى في هذا الموضع مصدرٌ من قولك: هديتُ فلانًا الطريق - إذا أرشدتَه إليه، ودللَته عليه, وبينتَه له- أهديه هُدًى وهداية.
*********************************** قال أبو جعفر:
فإن قال لنا قائل: أوَ ما كتابُ الله نورًا إلا للمتّقين، ولا رَشادًا إلا للمؤمنين؟ قيل: ذلك كما وصفه رّبنا عزّ وجل. ولو كان نورًا لغير المتقين, ورشادًا لغير المؤمنين، لم يخصُصِ الله عز وجل المتقين بأنه لهم هدًى, بل كان يعُمّ به جميع المنذَرين. ولكنه هدًى للمتقين, وشفاءٌ لما في صدور المؤمنين, وَوَقْرٌ في آذان المكذبين, وعمىً لأبصار الجاحدين، وحجةٌ لله بالغةٌ على الكافرين. فالمؤمن به مُهتدٍ, والكافر به محجوجٌ .
********************** قال أبو جعفر: وقوله « هدى » يحتمل أوجهًا من المعاني: أحدُها: أن يكون نصبًا، لمعنى القطع من الكتاب، لأنه نكرة والكتاب معرفة . فيكون التأويل حينئذ: الم ذلك الكتاب هاديًا للمتقين. و ذَلِكَ مرفوع بـ الم , و الم به, والكتابُ نعت لـ ذَلِكَ . وقد يحتمل أن يكون نصبًا، على القطع من رَاجع ذكر الكتاب الذي في فِيهِ , فيكونُ معنى ذلك حينئذ: الم الذي لا ريب فيه هاديًا.
*********************************** قال أبو جعفر: وقد يحتمل أن يكون أيضًا نصبًا على هذين الوجهين, أعني على وجه القطع من الهاء التي في فِيهِ , ومن الْكِتَابُ ، على أن الم كلام تام, كما قال ابن عباس إنّ معناه: أنا الله أعلم. ثم يكون ذَلِكَ الْكِتَابُ خبرًا مستأنفًا, فيرفع حينئذ الْكِتَابُ بـ ذَلِكَ ، و ذَلِكَ بـ الْكِتَابُ , ويكون « هُدًى » قطعًا من الْكِتَابُ , وعلى أن يرفع ذَلِكَ بالهاء العائدة عليه التي في فِيهِ , و الْكِتَابُ نعتٌ له؛ والهدى قطع من الهاء التي في فِيهِ . وإن جُعِل الهدى في موضع رفع، لم يجز أن يكون ذَلِكَ الْكِتَابُ إلا خبرًا مستأنفًا، و الم كلاما تامًّا مكتفيًا بنفسه، إلا من وجه واحد، وهو أن يُرفع حينئذ « هُدًى » بمعنى المدح، كما قال الله جل وعز: الم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ [ سورة لقمان: 1- 3 ] في قراءة من قرأ « رحمةٌ » . بالرفع، على المدح للآيات.
| |
| | | هبة الله الادارة
نقاط : 13559
| موضوع: رد: تأويل سورة البقرة الثلاثاء أبريل 21, 2009 1:25 pm | |
| قال أبو جعفر: والرفع في « هدى » حينئذ يجوز من ثلاثة أوجه: أحدُها ما ذكرنا من أنه مَدْحٌ مستأنفٌ. والآخر: على أن يُجعل مُرافعَ ذَلِكَ , و الْكِتَابُ نعتٌ « لذلك » . والثالث: أن يُجعل تابعًا لموضع لا رَيْبَ فِيهِ , ويكون ذَلِكَ الْكِتَابُ مرفوعًا بالعائد في فِيهِ . فيكون كما قال تعالى ذكره: وَهَذَا كِتَابٌ أَنْـزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ [ سورة الأنعام: 92 ] .
----------------------------------------------------- قال أبو جعفر: وقد زعم بعض المتقدمِّين في العلم بالعربية من الكوفيين، أنّ الم مرافعُ ذَلِكَ الْكِتَابُ بمعنى: هذه الحروف من حروف المعجم, ذلك الكتابُ الذي وعدتُك أن أوحَيه إليك . ثم نقض ذلك من قوله فأسرع نَقْضَه, وهَدمَ ما بنى فأسرع هَدْمَه, فزعم أن الرفع في « هُدًى » من وجهين، والنصبَ من وجهين. وأنّ أحد وَجهي الرفع: أن يكون الْكِتَابُ نعتًا لِـ ذَلِكَ و « الهدى » في موضع رفعٍ خبرٌ لِـ ذَلِكَ . كأنك قلت: ذلك هدًى لا شكّ فيه . قال: وإن جعلتَ لا رَيْبَ فِيهِ خبرَه، رفعتَ أيضًا « هدى » ، بجعله تابعًا لموضع لا رَيْبَ فِيهِ ، كما قال الله جل ثناؤه: وَهَذَا كِتَابٌ أَنْـزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ ، كأنه قال: وهذا كتابٌ هُدًى من صفته كذا وكذا. قال: وأما أحدُ وجهي النَّصْب فأن تَجعَل الكتاب خبرًا لـ ذَلِكَ ، وتنصبَ « هدى » على القطع، لأن « هدى » نكرة اتصلت بمعرفة، وقد تمّ خبرُها فنصبْتَها لأن النكرة لا تكون دليلا على معرفة. وإن شئت نصبت « هدى » على القطع من الهاء التي في فِيهِ كأنك قلت: لا شك فيه هاديًا .
*********************************** قال أبو جعفر:
فترك الأصل الذي أصَّله في الم وأنها مرفوعة بـ ذَلِكَ الْكِتَابُ ، ونبذه وراء ظهره. واللازم كان له على الأصل الذي أصَّله، أن لا يجيز الرَّفع في « هدى » بحالٍ إلا من وَجْه واحدٍ, وذلك من قِبَلِ الاستئناف، إذ كان مَدْحًا. فأما على وجه الخبر « لذلك » , أو على وجه الإتباع لموضع لا رَيْبَ فِيهِ , فكان اللازم له على قوله أن يكون خطأ. وذلك أن الم إذا رافعت ذَلِكَ الْكِتَابُ ، فلا شك أن « هدى » غيرُ جائز حينئذٍ أن يكون خبرًا « لذلك » ، بمعنى المرافع له, أو تابعًا لموضع لا رَيْبَ فِيهِ , لأن موضعه حينئذ نصبٌ، لتمام الخبر قبلَه، وانقطاعه - بمخالفته إيّاه- عنه. ************************************* يتبع | |
| | | هبة الله الادارة
نقاط : 13559
| موضوع: رد: تأويل سورة البقرة الثلاثاء أبريل 21, 2009 1:26 pm | |
| قال الطبري رحمه الله "
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: لِلْمُتَّقِينَ ( 2 )
وأولى التأويلات بقول الله جل ثناؤه ( هدى للمتقين ) ، تأويلُ من وصَف القومَ بأنهم الذين اتَّقوُا اللهَ تبارك وتعالى في ركوب ما نهاهم عن ركوبه, فتجنبوا معاصِيَه، واتَّقوْه فيما أمرهم به من فرائضِه، فأطاعوه بأدائها.
وذلك أنّ الله عزّ وجلّ وصَفهم بالتقوَى، فلم يحصُرْ تقواهم إياه على بعضِ ما هو أهلٌ له منهم دون بعض . فليس لأحد من الناس أن يحصُر معنى ذلك، على وَصْفهم بشيء من تَقوى الله عز وجل دون شيء، إلا بحجة يجبُ التسليمُ لها. لأن ذلك من صفة القوم - لو كان محصورًا على خاصّ من معاني التقوى دون العامّ منها- لم يدعِ الله جل ثناؤه بيانَ ذلك لعباده: إما في كتابه, وإما على لسان رسوله صلى الله عليه و سلم، إذْ لم يكن في العقل دليلٌ على استحالة وصفهم بعموم التقوى. ************************ قال الطبري رحمه الله "
فقد تبيّن إذًا بذلك فسادُ قول من زعم أن تأويل ذلك إنما هو: الذين اتَّقَوُا الشرك وبرئوا من النِّفاق. لأنه قد يكون كذلك، وهو فاسقٌ غيرُ مستَحِق أن يكون من المتقين، إلا أن يكون - عند قائل هذا القول- معنى النفاق: ركوبُ الفواحش التي حَرَّمها الله جل ثناؤه، وتضييعُ فرائضه التي فرضها عليه. فإن جماعةً من أهل العلم قد كانت تسمِّي من كان يفعل ذلك منافقًا. فيكون - وإن كان مخالفًا في تسميته من كان كذلك بهذا الاسم- مصيبًا تأويلَ قول الله عز وجل « للمتقين » .
| |
| | | هبة الله الادارة
نقاط : 13559
| موضوع: رد: تأويل سورة البقرة الثلاثاء أبريل 21, 2009 1:26 pm | |
| قال الطبري رحمه الله "
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ ومعنى الإيمان عند العرب: التصديق, فيُدْعَى المصدِّق بالشيء قولا مؤمنًا به, ويُدْعى المصدِّق قولَه بفِعْله، مؤمنًا. ومن ذلك قول الله جل ثناؤه: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ [ سورة يوسف: 17 ] ، يعني: وما أنت بمصدِّق لنا في قولنا. وقد تدخل الخشية لله في معنى الإيمان، الذي هو تصديق القولِ بالعمل. والإيمان كلمة جامعةٌ للإقرارَ بالله وكتُبه ورسلِه, وتصديقَ الإقرار بالفعل. وإذْ كان ذلك كذلك, فالذي هو أولى بتأويل الآيةِ، وأشبه بصفة القوم: أن يكونوا موصوفين بالتصديق بالغَيْبِ قولا واعتقادًا وعملا إذ كان جلّ ثناؤه لم يحصُرْهم من معنى الإيمان على معنى دون معنى, بل أجمل وصْفهم به، من غير خُصوصِ شيء من معانيه أخرجَهُ من صفتهم بخبرٍ ولا عقلٍ.
************************************
قال الطبري رحمه الله "
القول في تأويل قول الله جل ثناؤه: بِالْغَيْبِ وأصل الغيب: كُلّ ما غاب عنك من شيءٍ. وهو من قولك: غاب فُلان يغيبُ غيبًا. وقد اختلفَ أهلُ التأويل في أعيان القوم الذين أنـزل الله جل ثناؤه هاتين الآيتين من أول هذه السورة فيهم, وفي نَعْتهم وصِفَتهم التي وَصفَهم بها، من إيمانهم بالغيب, وسائر المعاني التي حوتها الآيتان من صفاتهم غيرَه. فقال بعضُهم: هم مؤمنو العربِ خاصة, دون غيرهم من مؤمني أهل الكتاب. واستدَلُّوا على صحّة قولهم ذلك وحقيقة تأويلهم، بالآية التي تتلو هاتين الآيتين, وهو قول الله عز وجل: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْـزِلَ مِنْ قَبْلِكَ . قالوا: فلم يكن للعرب كتابٌ قبل الكتاب الذي أنـزله الله عزّ وجلّ على محمد صلى الله عليه وسلم، تدينُ بتصديقِه والإقرار والعملِ به. وإنما كان الكتابُ لأهل الكتابين غيرِها. قالوا: فلما قصّ الله عز وجل نبأ الذين يؤمنون بما أنـزل إلى محمد وما أنـزل من قبله - بعد اقتصاصه نبأ المؤمنين بالغيب- علمنا أن كلَّ صِنفٍ منهم غيرُ الصنف الآخر , وأن المؤمنين بالغيب نوعٌ غيرُ النوع المصدِّق بالكتابين اللذين أحدهما مُنـزل على محمد صلى الله عليه وسلم, والآخرُ منهما على مَنْ قَبْلَ رسول الله .
قالوا: وإذْ كان ذلك كذلك، صحَّ ما قلنا من أن تأويل قول الله تعالى: ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) ، إنما هم الذين يؤمنون بما غاب عنهم من الجنة والنار، والثَّواب والعقاب والبعث, والتصديقِ بالله ومَلائكته وكُتُبه ورسله، وجميع ما كانت العرب لا تدينُ به في جاهليِّتها, مما أوجب الله جل ثناؤه على عِبَاده الدَّيْنُونة به - دون غيرهم.
| |
| | | هبة الله الادارة
نقاط : 13559
| موضوع: رد: تأويل سورة البقرة الثلاثاء أبريل 21, 2009 1:27 pm | |
| قال الطبري رحمه الله " أما الغيب فما غاب عن العباد من أمر الجنة والنار, وما ذكر الله في القرآن. لم يكن تصديقهم بذلك من قبل أصل كتاب أو علم كان عندهم. ( و الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ) هؤلاء المؤمنون من أهل الكتاب .
وقال بعضهم: بل نـزلت هذه الآيات الأربع في مؤمني أهل الكتاب خاصة, لإيمانهم بالقرآن عند إخبار الله جل ثناؤه إياهم فيه عن الغيوب التي كانوا يخفونها بينهم ويسرونها, فعلموا عند إظهار الله جل ثناؤه نبيه صلى الله عليه و سلم على ذلك منهم في تنـزيله، أنه من عند الله جل وعز, فآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وصدقوا بالقرآن وما فيه من الإخبار عن الغيوب التي لا علم لهم بها، لما استقر عندهم - بالحجة التي احتج الله تبارك وتعالى بها عليهم في كتابه, من الإخبار فيه عما كانوا يكتمونه من ضمائرهم - أن جميع ذلك من عند الله.
وقال بعضهم: بل الآيات الأربع من أول هذه السورة، أنـزلت على محمد صلى الله عليه و سلم بوصف جميع المؤمنين الذين ذلك صفتهم من العرب والعجم، وأهل الكتابين وسواهم . وإنما هذه صفة صنف من الناس, والمؤمن بما أنـزل الله على محمد صلى الله عليه و سلم، وما أنـزل من قبله، هو المؤمن بالغيب.
قالوا: وإنما وصفهم الله بالإيمان بما أنـزل إلى محمد وبما أنـزل إلى من قبله، بعد تقضي وصفه إياهم بالإيمان بالغيب، لأن وصفه إياهم بما وصفهم به من الإيمان بالغيب، كان معنيا به أنهم يؤمنون بالجنة والنار والبعث وسائر الأمور التي كلفهم الله جل ثناؤه الإيمان بها، مما لم يروه ولم يأت بعد مما هو آت, دون الإخبار عنهم أنهم يؤمنون بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ومن قبله من الرسل ومن الكتب.
قالوا: فلما كان معنى قوله تعالى ذكره: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْـزِلَ مِنْ قَبْلِكَ غير موجود في قوله ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) - كانت الحاجة من العباد إلى معرفة صفتهم بذلك ليعرفوهم، نظير حاجتهم إلى معرفتهم بالصفة التي وصفوا بها من إيمانهم بالغيب، ليعلموا ما يرضى الله من أفعال عباده ويحبه من صفاتهم, فيكونوا به - إن وفقهم له ربهم- [ مؤمنين ] . ************************************* قال الطبري رحمه الله "
وأولى القولين عندي بالصواب، وأشبههما بتأويل الكتاب, القولُ الأول, وهو: أنّ الذين وَصَفهم الله تعالى ذِكره بالإيمان بالغيب, وبما وصفهم به جَلَّ ثناؤه في الآيتين الأوَّلتَيْن ، غير الذين وصفهم بالإيمان بالذي أنـزِل على محمد والذي أنـزل على مَنْ قبله من الرسل، لما ذكرت من العلل قبلُ لمن قال ذلك.
ومما يدلّ أيضًا مع ذلك على صحّة هذا القول، أنه جنَّسَ - بعد وصف المؤمنين بالصِّفتين اللتين وَصَف, وبعد تصنيفه كلَّ صنف منهما على ما صنَّف الكفار - جنْسَيْن فجعل أحدهما مطبوعًا على قلبه، مختومًا عليه، مأيوسًا من إيابه والآخرَ منافقًا، يُرائي بإظهار الإيمان في الظاهر, ويستسرُّ النفاق في الباطن. فصيَّر الكفار جنسَيْن، كما صيَّر المؤمنين في أول السورة جِنْسين. ثم عرّف عباده نَعْتَ كلِّ صنف منهم وصِفَتَهم، وما أعدَّ لكلّ فريق منهم من ثواب أو عقاب, وَذمّ أهل الذَّم منهم، وشكرَ سَعْيَ أهل الطاعة منهم.
| |
| | | هبة الله الادارة
نقاط : 13559
| موضوع: رد: تأويل سورة البقرة الثلاثاء أبريل 21, 2009 1:27 pm | |
| قال الطبري رحمه الله "
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: وَيُقِيمُونَ وإقامتها: أداؤها - بحدودها وفروضها والواجب فيها- على ما فُرِضَتْ عليه. كما يقال: أقام القومُ سُوقَهم, إذا لم يُعَطِّلوها من البَيع والشراء فيها, وكما قال الشاعر: أَقَمْنَــا لأَهْـلِ الْعِـرَاقَيْنِ سُـوقَ الـ ـضِّــرَاب فَخَــامُوا وَوَلَّـوْا جَمِيعَـا # , عن ابن عباس، « ويقيمون الصلاة » ، قال: الذين يقيمون الصلاةَ بفرُوضها. # , عن ابن عباس، « ويقيمون الصلاة » قال: إقامة الصلاة تمامُ الرُّكوع والسُّجود، والتِّلاوةُ والخشوعُ، والإقبالُ عليها فيها .
********************************* قال الطبري رحمه الله "
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: الصَّلاةَ حدثني يحيى بن أبي طالب, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا جُوَيْبر، عن الضحاك في قوله: « الذين يقيمون الصلاة » : يعني الصلاة المفروضة . وأما الصلاةُ فإنها في كلام العرب الدُّعاءُ، كما قال الأعشى: لَهَـا حَـارِسٌ لا يَـبْرَحُ الدَّهْـرَ بَيْتَهَا وَإِنْ ذُبِحَـتْ صَـلَّى عَلَيْهَـا وَزَمْزَمَـا يعني بذلك: دعا لها, وكقول الأعشى أيضًا . وَقَابَلَهَـــا الــرِّيحَ فِــي دَنِّهَــا وصَــلَّى عَــلَى دَنِّهَــا وَارْتَسَـمْ وأرى أن الصلاة المفروضة سُمِّيت « صلاة » ، لأنّ المصلِّي متعرِّض لاستنجاح طَلِبتَه من ثواب الله بعمله، مع ما يسأل رَبَّه من حاجاته، تعرُّضَ الداعي بدعائه ربَّه استنجاحَ حاجاته وسؤلَهُ. *****************************
قال الطبري رحمه الله "
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ( 3 ) اختلف المفسرون في تأويل ذلك, فقال بعضهم
# عن ابن عباس، « ومما رزقناهم ينفقون » ، قال: يؤتون الزكاة احتسابًا بها. # عن ابن عباس، « ومما رزقناهم ينفقون » ، قال: زكاةَ أموالهم . # عن الضحاك، « ومما رزقناهم يُنفقون » ، قال: كانت النفقات قُرُبات يتقرَّبون بها إلى الله على قدر ميسورهم وجُهْدهم, حتى نَـزَلت فرائضُ الصدقات: سبعُ آيات في سورة براءَة, مما يذكر فيهنّ الصدقات, هنّ المُثْبَتات الناسخات .
وقال بعضهم بما يلي :- # عن ابن عباس - وعن مُرَّة الهَمْداني, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، « ومما رَزقناهم ينفقون » : هي َنفقَةُ الرّجل على أهله. وهذا قبل أن تنـزِل الزكاة . *****************************
قال الطبري رحمه الله " وأوْلى التأويلات بالآية وأحقُّها بصفة القوم: أن يكونوا كانوا لجميع اللازم لهم في أموالهم, مُؤدِّين، زكاةً كان ذلك أو نفَقةَ مَنْ لزمتْه نفقتُه، من أهل وعيال وغيرهم, ممن تجب عليهم نَفَقتُه بالقرابة والمِلك وغير ذلك. لأن الله جل ثناؤه عَمّ وصفهم إذْ وصَفهم بالإنفاق مما رزقهم, فمدحهم بذلك من صفتهم. فكان معلومًا أنه إذ لم يخصُصْ مدْحَهم ووصفَهم بنوع من النفقات المحمود عليها صاحبُها دونَ نوعٍ بخبر ولا غيره - أنهم موصوفون بجميع معاني النفقات المحمودِ عليها صاحبُها من طيِّب ما رزقهم رَبُّهم من أموالهم وأملاكهم, وذلك الحلالُ منه الذي لم يَشُبْهُ حرامٌ. ********************************** قال الطبري رحمه الله "
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ قد مضى البيان عن المنعوتين بهذا النعت, وأي أجناس الناس هم . غير أنَّا نذكر ما رُوي في ذلك عمن روي عنه في تأويله قولٌ: # عن ابن عباس، « والذين يؤمنون بما أنـزِل إليك وما أنـزل من قبلك » : أي يصدِّقونك بما جئت به من الله جلّ وعز وما جاء به مَنْ قبلك من المرسلين, لا يفرِّقون بينهم، ولا يجْحَدون ما جاءوهم به من عند ربهم . #عن ابن عباس - وعن مُرَّة الهَمْداني, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، « والذين يؤمنون بما أنـزل إليك وما أنـزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون » : هؤلاء المؤمنون من أهل الكتاب .
| |
| | | هبة الله الادارة
نقاط : 13559
| موضوع: رد: تأويل سورة البقرة الثلاثاء أبريل 21, 2009 1:28 pm | |
| قال الطبري رحمه الله "
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ( 4 ) قال أبو جعفر: أما الآخرةُ فإنها صفة للدار, كما قال جل ثناؤه وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [ سورة العنكبوت: 64 ] . وإنما وصفت بذلك لمصيرها آخِرةً لأولى كانت قبلها، كما تقول للرجل: « أنعمتُ عليك مرَّة بعد أخرى، فلم تشكر لي الأولى ولا الآخرة » ، وإنما صارت آخرة للأولى, لتقدُّم الأولى أمامها. فكذلك الدارُ الآخرة، سُمِّيت آخرةً لتقدُّم الدار الأولى أمامها, فصارت التاليةُ لها آخرةً. وقد يجوز أن تكون سُمِّيت آخرةً لتأخُّرها عن الخلق, كما سميت الدنيا « دنيا » لِدُنُوِّها من الخلق. *************************************8 قال الطبري رحمه الله "
وأما الذي وصف الله جل ثناؤه به المؤمنين - بما أنـزل إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وما أنـزل إلى من قبله من المرسلين - من إيقانهم به من أمر الآخرة, فهو إيقانهم بما كان المشركون به جاحدين: من البعث والنشور والثواب والعقاب والحساب والميزان, وغير ذلك مما أعد الله لخلقه يوم القيامة.# , عن ابن عباس، ( وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ) : أي بالبعث والقيامة والجنة والنار والحساب والميزان, أي، لا هؤلاء الذين يزعمون أنهم آمنوا بما كان قبلك، ويكفرون بما جاءك من ربك .
وهذا التأويل من ابن عباس قد صرح عن أن السورة من أولها - وإن كانت الآيات التي في أولها من نعت المؤمنين - تعريض من الله عز وجل بذم كفار أهل الكتاب، الذين زعموا أنهم - بما جاءت به رسل الله عز وجل الذين كانوا قبل محمد صلوات الله عليهم وعليه - مصدقون، وهم بمحمد صلى الله عليه مكذبون, ولما جاء به من التنـزيل جاحدون, ويدعون مع جحودهم ذلك أنهم مهتدون، وأنه لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى.
فأكذب الله جل ثناؤه ذلك من قيلهم بقوله: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْـزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ . وأخبر جل ثناؤه عباده: أن هذا الكتاب هدى لأهل الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، المصدقين بما أنـزل إليه وإلى من قبله من رسله من البينات والهدى - خاصة, دون من كذب بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به, وادعى أنه مصدق بمن قبل محمد عليه الصلاة والسلام من الرسل وبما جاء به من الكتب. ثم أكد جل ثناؤه أمر المؤمنين من العرب ومن أهل الكتاب المصدقين بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما أنـزل إليه وإلى من قبله من الرسل - بقوله: أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )فأخبر أنهم هم أهل الهدى والفلاح خاصة دون غيرهم, وأن غيرهم هم أهل الضلال والخسار. *********************************** قال الطبري رحمه الله "
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله جل ثناؤه بقوله: « أولئك على هدى من ربهم » : فقال بعضهم: عنى بذلك أهل الصفتين المتقدمتين, أعني: المؤمنين بالغيب من العرب، والمؤمنين بما أنـزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم وإلى من قبله من الرسل. وإياهم جميعا وصف بأنهم على هدى منه، وأنهم هم المفلحون.
وقال بعضهم: بل عنى بذلك المتقين الذين يؤمنون بالغيب، وهم الذين يؤمنون بما أنـزل إلى محمد, وبما أنـزل إلى من قبله من الرسل.
وقال آخرون: بل عنى بذلك الذين يؤمنون بما أنـزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم, وبما أنـزل إلى من قبله, وهم مؤمنو أهل الكتاب الذين صدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به, وكانوا مؤمنين من قبل بسائر الأنبياء والكتب.
| |
| | | هبة الله الادارة
نقاط : 13559
| موضوع: رد: تأويل سورة البقرة الثلاثاء أبريل 21, 2009 1:28 pm | |
| قال الطبري رحمه الله "
وعلى هذا التأويل الآخر يحتمل أن يكون وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكَ في محل خفض, ومحل رفع. فأما الرفع فيه فإنه يأتيها من وجهين: أحدهما: من قبل العطف على ما في يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ من ذكر الَّذِينَ ، والثاني: أن يكون خبر مبتدأ, أو يكون « أولئك على هدى من ربهم » ، مرافعها. وأما الخفض فعلى العطف على « المتقين » ، وإذا كانت معطوفة على الَّذِينَ اتجه لها وجهان من المعنى: أحدهما: أن تكون هي و الَّذِينَ الأولى، من صفة المتقين. وذلك على تأويل من رأى أن الآيات الأربع بعد الم ، نـزلت في صنف واحد من أصناف المؤمنين. والوجه الثاني: أن تكون « الَّذِينَ » الثانية معطوفة في الإعراب على « المتقين » بمعنى الخفض, وهم في المعنى صنف غير الصنف الأول. وذلك على مذهب من رأى أن الذين نـزلت فيهم الآيتان الأولتان من المؤمنين بعد قوله الم ، غير الذين نـزلت فيهم الآيتان الآخرتان اللتان تليان الأولتين. وقد يحتمل أن تكون « الَّذِينَ » الثانية مرفوعة في هذا الوجه بمعنى الائتناف ، إذ كانت مبتدأ بها بعد تمام آية وانقضاء قصة. وقد يجوز الرفع فيها أيضا بنية الائتناف، إذ كانت في مبتدأ آية، وإن كانت من صفة المتقين. فالرفع إذا يصح فيها من أربعة أوجه, والخفض من وجهين.
**************************************** قال الطبري رحمه الله "
وأولى التأويلات عندي بقوله ( أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ ) ما ذكرت من قول ابن مسعود وابن عباس, وأن تكون « أولئك » إشارة إلى الفريقين, أعني: المتقين، والذين يؤمنون بما أنـزل إليك, وتكون « أولئك » مرفوعة بالعائد من ذكرهم في قوله « على هدى من ربهم » ؛ وأن تكون « الذين » الثانية معطوفة على ما قبل من الكلام، على ما قد بيناه. وإنما رأينا أن ذلك أولى التأويلات بالآية, لأن الله جل ثناؤه نعت الفريقين بنعتهم المحمود، ثم أثنى عليهم. فلم يكن عز وجل ليخص أحد الفريقين بالثناء، مع تساويهما فيما استحقا به الثناء من الصفات. كما غير جائز في عدله أن يتساويا فيما يستحقان به الجزاء من الأعمال، فيخص أحدهما بالجزاء دون الآخر، ويحرم الآخر جزاء عمله. فكذلك سبيل الثناء بالأعمال، لأن الثناء أحد أقسام الجزاء.
*********************************** قال الطبري رحمه الله "
وأما معنى قوله ( أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ ) فإن معنى ذلك: أنهم على نور من ربهم وبرهان واستقامة وسداد، بتسديد الله إياهم، وتوفيقه لهم.
*عن ابن عباس، « أولئك على هدى من ربهم » : أي على نور من ربهم, واستقامة على ما جاءهم .
| |
| | | هبة الله الادارة
نقاط : 13559
| موضوع: رد: تأويل سورة البقرة الثلاثاء أبريل 21, 2009 1:29 pm | |
| قال الطبري رحمه الله "
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( 5 ) وتأويل قوله: « وأولئك هم المفلحون » أي أولئك هم المنجحون المدركون ما طلبوا عند الله تعالى ذكره بأعمالهم وإيمانهم بالله وكتبه ورسله, من الفوز بالثواب, والخلود في الجنان, والنجاة مما أعد الله تبارك وتعالى لأعدائه من العقاب. كما:- * عن ابن عباس: ( وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) أي الذين أدْركوا ما طلبوا، ونجَوْا من شرّ ما منه هَرَبُوا. ومن الدلالة على أن أحد معاني الفلاح، إدراكُ الطَّلِبة والظفر بالحاجة، قول لبيد بن ربيعة: اعْقِــلِي, إِنْ كُــنْتِ لَمَّــا تَعْقِـلِي, وَلَقَــدْ أَفْلَــحَ مَــنْ كَـانَ عَقَـلْ يعني ظَفِر بحاجته وأصابَ خيرًا، ومنه قول الراجز: عَــدِمتُ أُمــًّا ولَــدتْ رِياحــَا جَــاءَتْ بِــهِ مُفَرْكَحــًا فِرْكَاحَـا تَحْسِــبُ أَنْ قَــدْ وَلَـدَتْ نَجَاحَـا! أَشْـــهَدُ لا يَزِيدُهَـــا فَلاحَـــا يعني: خيرًا وقربًا من حاجتها. والفلاحُ مصدر من قولك: أفلح فلان يُفلح إفلاحًا وفلاحًا وفَلَحًا. والفلاح أيضًا: البقاءُ, ومنه قول لبيد: نَحُــلُّ بِــلادًا, كُلُّهَـا حُـلَّ قَبْلَنَـا وَنَرْجُـو الْفَـلاحَ بَعْـدَ عَـادٍ وَحِـمْيَرِ يريد البقاء، ومنه أيضًا قول عَبيد: أَفْلِحَ بِمَـا شِـئْتَ, فَقَـدْ يُدْرَكُ بِالضَّـ ـعْـفِ, وَقَــدْ يُخْــدَعُ الأَرِيــبُ يريد: عش وابقَ بما شئت، وكذلك قول نابغة بني ذبيان: وَكُــلُّ فَتًــى سَتَشْــعَبُهُ شَـعُوبٌ وَإِنْ أَثْــرَى, وَإِنْ لاقَــى فَلاحــًا أي نجاحًا بحاجته وبَقاءً.
****************************** يتبع
| |
| | | هبة الله الادارة
نقاط : 13559
| موضوع: رد: تأويل سورة البقرة الثلاثاء أبريل 21, 2009 1:29 pm | |
| بسم الله
قال أبو جعفر"
القول في تأويل قوله : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ( 6 ) اختلف أهل التأويل فيمن عُنِي بهذه الآية, وفيمن نـزلَتْ. فكان ابن عباس يقول, كما:- حدثنا به محمد بن حميد, قال حدثنا سلمة بن الفضل, عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: « إن الذين كفروا » ، أي بما أنـزِل إليك من ربِّك, وإن قالوا إنا قد آمنا بما قد جاءنا من قبلك . وكان ابن عباس يرى أنَّ هذه الآية نـزلتْ في اليهود الذين كانوا بنَواحي المدينةِ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، توبيخًا لهم في جُحودهم نبوَّةَ محمد صلى الله عليه وسلم وتكذيبِهم به, مع علمهم به ومعرفتِهم بأنّه رسولُ الله إليهم وإلى الناس كافّة. # عن ابن عباس: أن صَدر سورة البقرة إلى المائة منها، نـزل في رجال سَمَّاهم بأعيانهم وأنْسَابهم من أحبار يهود, من المنافقين من الأوس والخزرج. كرهنا تطويل الكتاب بذكر أسمائهم . وقد رُوِي عن ابن عباس في تأويل ذلك قول آخر, وهو ما:- # عن ابن عباس، قوله: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) ، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرِصُ أن يؤمن جميعُ الناس ويُتَابعوه على الهدى، فأخبره الله جل ثناؤه أنه لا يؤمنُ إلا من سبق له من الله السعادةُ في الذّكْر الأول, ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاءُ في الذكر الأول . وقال آخرون بما:- # , عن الربيع بن أنس, قال: آيتان في قادةِ الأحزاب: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ، قال: وهم الذين ذكرهم الله في هذه الآية: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ [ سورة إبراهيم: 28، 29 ] ، قال: فهم الذين قُتلوا يوم بدر . ********************************************* قال أبو جعفر"
وأولى هذه التأويلات بالآية تأويلُ ابن عباس الذي ذكره محمد بن أبي محمد, عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير عنه. وإنْ كان لكلِّ قول مما قاله الذين ذكرنا قولهم في ذلك مذهب. فأما مذهب من تأوَّل في ذلك ما قاله الربيع بن أنس, فهو أنّ الله تعالى ذكره لمّا أخبرَ عن قوم من أهل الكفر بأنهم لا يؤمنون, وأن الإنذارَ غيرُ نافعهم, ثم كانَ من الكُفّار من قد نَفَعه الله بإنذار النبي صلى الله عليه وسلم إيّاه، لإيمانه بالله وبالنبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله بعد نـزول هذه السورة - لم يَجُز أن تكون الآية نـزلت إلا في خاصٍّ من الكفار وإذ كان ذلك كذلك - وكانت قادةُ الأحزاب لا شك أنَّهم ممن لم ينفعه الله عز وجل بإنذار النبي صلى الله عليه وسلم إياه، حتى قتلهم الله تبارك وتعالى بأيدي المؤمنين يوم بدرٍ - عُلم أنهم مِمّن عنَى الله جل ثناؤه بهذه الآية.
**********************8 قال أبو جعفر"
وأمَّا عِلَّتُنا في اختيارنا ما اخترنا من التأويل في ذلك, فهي أنّ قول الله جل ثناؤه إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) ، عَقِيبَ خبر الله جل ثناؤه عن مؤمني أهل الكتاب, وعَقِيبَ نعتهم وصِفتهم وثنائه عليهم بإيمانهم به وبكتبه ورسله. فأوْلى الأمور بحكمة الله، أن يُتلِيَ ذلك الخبرَ عن كُفّارهم ونُعُوتهم، وذمِّ أسبابهم وأحوالهم ، وإظهارَ شَتْمهم والبراءةَ منهم. لأن مؤمنيهم ومشركيهم - وإن اختلفت أحوالهم باختلاف أديانهم- فإن الجنس يجمع جميعَهم بأنهم بنو إسرائيل. وإنما احتجّ الله جلّ ثناؤه بأوّل هذه السورة لنبيِّه صلى الله عليه وسلم على مشرِكي اليهود من أحبار بني إسرائيل، الذين كانوا مع علمهم بنبوّته مُنْكِرين نبوّته - بإظهار نبيِّه صلى الله عليه وسلم على ما كانت تُسِرُّه الأحبار منهم وتكتُمه، فيجهلُهُ عظْم اليهود وتعلمُه الأحبار منهم - ليعلموا أن الذي أطلعه على علم ذلك، هو الذي أنـزل الكتابَ على موسى. إذْ كان ذلك من الأمور التي لم يكنْ محمد صلى الله عليه وسلم ولا قومُه ولا عشيرتُه يعلمونه ولا يعرفونه من قبل نـزول الفرقان على محمد صلى الله عليه وسلم, فيمكنَهم ادّعاء اللَّبس في أمره عليه السلام أنه نبيٌّ, وأنّ ما جاء به فمن عند الله . وأنَّى يُمكنُ ادّعاء اللَّبس في صدق أمِّيٍّ نشأ بين أمِّيِّين لا يكتب ولا يقرأ, ولا يحسُب, فيقال قرأ الكتب فعَلِم، أو حَسَب فنجَّم؟ وانبعثَ على أحْبارٍ قُرَّاءٍ كَتَبَة - قد دَرَسوا الكتب ورَأسوا الأمم - يخْبرهم عن مستور عُيوبهم, ومَصُون علومهم, ومكتوم أخبارهم, وخفيّات أمورهم التي جهلها من هو دونهم من أحبارهم. إنّ أمرَ من كان كذلك لغَيرُ مُشْكِلٍ, وإنّ صدقَه لبَيِّن.
| |
| | | هبة الله الادارة
نقاط : 13559
| موضوع: رد: تأويل سورة البقرة الثلاثاء أبريل 21, 2009 1:30 pm | |
| قال أبو جعفر"
ومما ينبئ عن صحة ما قُلنا - من أنّ الذين عنى الله تعالى ذكره بقوله: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) هُم أحبارُ اليهود الذين قُتلوا على الكفرِ وماتوا عليه - اقتصاصُ الله تعالى ذكره نَبأهم، وتذكيرُه إياهم ما أخَذ عليهم من العهود والمواثيق في أمر محمدٍ عليه السلام، بَعْد اقتصاصه تعالى ذكرُه ما اقتصّ من أمر المنافقين، واعتراضِه بين ذلك بما اعترضَ به من الخبر عن إبليسَ وآدمَ - في قوله: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [ سورة البقرة: 40 وما بعدها ] ، واحتجاجُه لنبيِّه عليهم، بما احتجَّ به عليهم فيها بعد جُحُودهم نبوّته. فإذْ كان الخبر أوّلا عن مُؤمِني أهل الكتاب، وآخرًا عن مشركيهم, فأولى أن يكون وَسطًا:- عنهم. إذْ كان الكلامُ بعضُه لبعض تَبَعٌ, إلا أن تأتيهم دلالةٌ واضحةٌ بعُدول بعض ذلك عما ابتَدأ به من معانيه, فيكونَ معروفًا حينئذ انصرافه عنه. *************************************
قال أبو جعفر"
وأما معنى الكفر في قوله « إن الذين كفروا » فإنه الجُحُود. وذلك أن الأحبار من يَهودِ المدينة جحدوا نبوّةَ محمد صلى الله عليه وسلم وستَروه عن الناس وكتمُوا أمره, وهُمْ يعرفونه كما يعرفون أبناءهم. وأصْلُ الكفر عند العرب: تَغطيةُ الشيء, ولذلك سمَّوا الليل « كافرًا » ، لتغطية ظُلمته ما لبِستْه, كما قال الشاعر: فَتَذَكَّــرَا ثَقَــلا رًثِيـدًا, بَعْـدَ مَـا أَلْقَــتْ ذُكــاءُ يَمِينَهَـا فـي كـافِرِ وقال لبيدُ بن ربيعة: فِي لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومُ غَمَامُهَا يعني غَطَّاها. فكذلك الأحبار من اليهود غَطَّوا أمر محمد صلى الله عليه وسلم وكَتَمُوه الناسَ - مع علمهم بنبوّته، ووُجُودِهم صِفَتَه في كُتُبهم - فقال الله جل ثناؤه فيهم: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْـزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ [ سورة البقرة: 159 ] ، وهم الذين أنـزل الله عز وجل فيهم: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) . *****************************8 قال أبو جعفر"
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ( 6 ) وتأويل « سواءٌ » : معتدل. مأخوذ من التَّساوي, كقولك: « مُتَساوٍ هذان الأمران عندي » , و « هما عِندي سَواءٌ » ، أي هما متعادلان عندي، ومنه قول الله جل ثناؤه: فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ [ سورة الأنفال: 58 ] ، يعني: أعْلمهم وآذِنْهم بالحرب، حتى يَستوي علمُك وعلمُهم بما عليه كلُّ فريقٍ منهم للفريقِ الآخر. فكذلك قوله « سَواءٌ عليهم » : معتدلٌ عندهم أيّ الأمرين كان منك إليهم، الإنذار أم ترك الإنذار لأنهم لا يؤمنون ، وقد خَتمتُ على قلوبهم وسمعهم. ومن ذلك قول عبيد الله بن قيس الرُّقَيَّات: تُغِـذُّ بـيَ الشّـهبَاءُ نَحْـوَ ابـن جَعْفٍر سَــوَاءٌ عَلَيْهَــا لَيْلُهَــا ونَهَارُهَـا يعني بذلك: معتدلٌ عندها في السير الليلُ والنهارُ, لأنه لا فُتُورَ فيه. ومنه قول الآخر وَلَيْــلٍ يَقُـولُ المَـرْءُ مِـنْ ظُلُمَاتِـه سَـوَاءٌ صَحِيحَـاتُ العُيُـونِ وَعُورُهَا لأن الصحيح لا يبصر فيه إلا بصرًا ضعيفًا من ظُلْمته.
************************
قال أبو جعفر"
وأما قوله: ( أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) ، فإنه ظهرَ به الكلام ظهورَ الاستفهام وهو خبرٌ ; لأنه وَقع مَوقع « أيّ » كما تقول: « لا نُبالي أقمتَ أم قعدت » , وأنت مخبرٌ لا مستفهم، لوقوع ذلك موقع « أي » . وذلك أنّ معناه إذا قلتَ ذلك: ما نبالي أيّ هذين كان منك. فكذلك ذلك في قوله: « سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم » ، لمَّا كان معنى الكلام: سواءٌ عليهم أيُّ هذين كان منك إليهم - حسُن في موضعه مع سواءٌ: « أفعلتَ أم لم تفعل » .
**************************************** قال أبو جعفر"
وكان بعضُ نحوِيِّي البصرة يزعمُ أنّ حرفَ الاستفهام إنما دَخَل مع « سواء » ، وليس باستفهام, لأن المستفهِم إذا استفهَم غيرَه فقال: « أزيد عندك أم عمرو؟ » مستثبتٌ صاحبه أيُّهما عنده. فليس أحدُهما أحقَّ بالاستفهام من الآخر. فلما كان قوله: « سَواء عليهم أأنذرتهم أم لم تُنذرهم » بمعنى التسوية, أشبه ذلك الاستفهامَ، إذ أشبهه في التَّسوية. وقد بينّا الصَّواب في ذلك.
| |
| | | هبة الله الادارة
نقاط : 13559
| موضوع: رد: تأويل سورة البقرة الثلاثاء أبريل 21, 2009 1:30 pm | |
| قال أبو جعفر"
فتأويل الكلام إذًا: معتدلٌ يا محمد - على هؤلاء الذين جحدوا نبوَّتك من أحبار يهود المدينة بعد علمهم بها, وكتموا بيان أمرك للناس بأنك رسولي إلى خلقي, وقد أخذتُ عليهم العهدَ والميثاقَ أن لا يكتموا ذلك، وأن يبيِّنوه للناس، وُيخْبرُوهم أنهم يجدُون صِفَتَك في كتبهم - أأنذرتهم أم لم تنذرهم، فإنهم لا يؤمنون، ولا يرجعون إلى الحق، ولا يصدقونَ بك وبما جئتَهم به. #, عن ابن عباس: ( سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) ، أي أنهم قد كفروا بما عندهم من العِلْم من ذكرٍ، وجحدوا ما أخِذ عليهم من الميثاق لك، فقد كفروا بما جاءك، وبما عندهم مما جاءهم به غيرك, فكيف يسمعون منك إنذارًا وتحذيرًا، وقد كفروا بما عندهم من علمك؟ .
********************************* يتبع
| |
| | | هبة الله الادارة
نقاط : 13559
| موضوع: رد: تأويل سورة البقرة الثلاثاء أبريل 21, 2009 1:31 pm | |
| القول في تأويل قوله جل ثناؤه: وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ قال أبو جعفر رحمه الله:
وقوله ( وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ) خبرٌ مبتدأ بعد تمام الخبر عمَّا ختم الله جلَّ ثناؤه عليه من جوارح الكفّار الذين مضت قِصَصهم. وذلك أن « غِشاوةٌ » مرفوعة بقوله « وعلى أبصارهم » ، فذلك دليل على أنه خَبرٌ مبتدأ, وأن قوله خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ، قد تناهى عند قوله وَعَلَى سَمْعِهِمْ . وذلك هو القراءة الصحيحة عندنا لمعنيين: أحدهما: اتفاق الحجة من القُرَّاء والعلماء على الشهادة بتصحيحها, وانفرادُ المخالف لهم في ذلك، وشذوذه عمّا هم على تَخطئته مجمعون. وكفى بإجماع الحجة على تخطئة قراءته شاهدًا على خطئها. والثاني: أنّ الختمَ غيرُ موصوفةٍ به العيونُ في شيء من كتاب الله, ولا في خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولا موجودٍ في لغة أحد من العرب. وقد قال تبارك وتعالى في سورة أخرى: وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ ، ثم قال: وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً [ سورة الجاثية: 23 ] ، فلم يدخل البصرَ في معنى الختم. وذلك هو المعروف في كلام العرب، فلم يَجُزْ لنا، ولا لأحدٍ من الناس، القراءةُ بنصب الغِشاوة، لما وصفتُ من العلّتين اللتين ذكرت, وإن كان لنَصْبها مخرجٌ معروفٌ في العربية. ********************************** قال أبو جعفر رحمه الله:
فإن قال قائل: وما وجهُ مخرج النَّصْب فيها؟ قيل له: أن تنصبها بإضمار « جعل » ، كأنه قال: وجعل على أبصارهم غِشَاوةً، ثم أسقط « جعل » ، إذْ كان في أول الكلام ما يدُلّ عليه. وقد يحتمل نَصبُها على إتباعهِا موضعَ السمع، إذ كان موضعه نصبًا, وإن لم يكن حَسَنًا إعادةُ العامل فيه على « غشاوة » ، ولكن على إتباع الكلام بعضِه بعضًا, كما قال تعالى ذكره: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ ، ثم قال: وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ ، [ سورة الواقعة: 17- 22 ] ، فخفَضَ اللحمَ والحورَ على العطف به على الفاكهة، إتباعًا لآخر الكلام أوّلَه. ومعلومٌ أن اللحمَ لا يطاف به ولا بالحور العين, ولكن كما قال الشاعر يصف فرسه: عَلَفْتُهَـــا تِبْنًــا ومَــاء بــارِدًا حَــتَّى شَــتَتْ هَمَّالَــةً عَيْنَاهَــا ومعلومٌ أن الماء يُشرَب ولا يعلف به, ولكنه نَصب ذلك على ما وصفتُ قبلُ، وكما قال الآخر: ورأَيْــتُ زَوْجَــكِ فِــي الـوَغَى مُتَقَلِّــــدًا سَــــيْفًا ورُمْحَـــا وكان ابن جُريج يقول - في انتهاء الخبر عن الختم إلى قوله وَعَلَى سَمْعِهِمْ ، وابتداءِ الخبر بعده - بمثل الذي قلنا فيه, ويتأوّل فيه من كتاب الله فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ [ سورة الشورى: 24 ] . ****************************** قال أبو جعفر رحمه الله: والغشاوة في كلام العرب: الغطاءُ، ومنه قول الحارث بن خالد بن العاص: تَبِعْتُــكَ إذْ عَيْنــي عَلَيْهَـا غِشَـاوَةٌ فَلَمَّـا انْجَـلَتْ قَطعْـتُ نَفْسِـي أَلُومُهَا ومنه يقال: تغشَّاه الهم: إذا تجلَّله وركبه، ومنه قول نابغة بني ذبيان: هَـلا سَـأَلْتِ بَنِـي ذُبيَـان مَا حَسَبي إذَا الدُّخـانُ تَغَشَّـى الأشـمَط البَرَمَـا يعني بذلك: تجلّله وَخالطه. وإنما أخبر الله تعالى ذكره نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم عن الذين كفروا به من أحبار اليهود, أنه قد خَتَم على قلوبهم وطَبَع عليها - فلا يعقلون لله تبارك وتعالى موعظةً وعظهم بها، فيما آتاهم من علم ما عندهم من كُتبِه, وفيما حدَّد في كتابه الذي أوحاه وأنـزله إلى نبيّه محمد صلى الله عليه وسلم - وعلى سمعهم، فلا يسمَعُون من محمد صلى الله عليه وسلم نبيِّ الله تحذيرًا ولا تذكيرًا ولا حجةً أقامها عليهم بنبوَّته, فيتذكُروا ويحذروا عقاب الله عز وجلّ في تكذيبهم إياه, مع علمهم بصدقه وصحّة أمره. وأعلمه مع ذلك أنّ على أبصارهم غشاوةً عن أن يُبصروا سبيل الهُدَى، فيعلموا قُبْحَ ما هم عليه من الضلالة والرَّدَى.
وأما آخرون، فإنهم كانوا يتأولون أنّ الذين أخبر الله عنهم من الكفّار أنه فعل ذلك بهم، هم قادة الأحزاب الذين قتلوا يوم بدر. وقد دللنا فيما مضى على أوْلى هذين التأويلين بالصواب، فكرهنا إعادته. ----------------- يتبع
| |
| | | هبة الله الادارة
نقاط : 13559
| موضوع: رد: تأويل سورة البقرة الثلاثاء أبريل 21, 2009 1:32 pm | |
|
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ قال أبو جعفر رحمه الله : وأصلُ الختم: الطَّبْع. والخاتَم هو الطَّابع. يقال منه: ختمتُ الكتابَ, إذا طبَعْتَه. فإن قال لنا قائل: وكيف يختِمُ على القلوبِ, وإنما الختمُ طبعٌ على الأوعية والظروف والغلف ؟ قيل: فإن قلوبَ العباد أوعيةٌ لما أُودِعت من العلوم، وظروفٌ لما جُعل فيها من المعارف بالأمور . فمعنى الختم عليها وعلى الأسماع - التي بها تُدرَك المسموعات, ومن قِبَلها يوصَل إلى معرفة حقائق الأنباء عن المُغَيَّبات - نظيرُ معنى الختم على سائر الأوعية والظروف. فإن قال: فهل لذلك من صفةٍ تصفُها لنا فنفهمَها؟ أهي مثل الختم الذي يُعْرَف لما ظَهَر للأبصار, أم هي بخلاف ذلك؟ قيل: قد اختلف أهل التأويل في صفة ذلك, وسنخبر بصفته بعد ذكرنا قولهم: * عن الأعمش, قال: أرانا مُجاهدٌ بيَدِه فقال: كانوا يُرَوْنَ أنّ القلبَ في مثل هذا - يعني الكفَّ - فإذا أذنبَ العبد ذنبًا ضُمّ منه - وقال بإصبعِه الخنصر هكذا - فإذا أذنب ضُمَّ - وقال بإصبع أخرى - فإذا أذنب ضُمَّ - وقال بإصبع أخرى هكذا، حتى ضم أصابعَه كلَّها، قال: ثم يُطبع عليه بطابَعٍ. قال مُجاهد: وكانوا يُرَوْن أنّ ذلك: الرَّيْنُ . * , عن مجاهد, قال: القلبُ مثلُ الكفّ, فإذا أذنب ذنبًا قبض أصبعًا حتى يقبض أصابعه كلها - وكان أصحابنا يُرون أنه الرَّان . * قال مجاهد: نُبِّئت أنِّ الذنوبَ على القلب تحُفّ به من نواحيه حتى تلتقي عليه, فالتقاؤُها عليه الطَّبعُ, والطبعُ: الختم.
* قال ابن جريج: الختْم، الخَتْم على القلب والسَّمع . * عن مجاهد ": الرّانُ أيسَرُ من الطَّبْع, والطَّبع أيسر من الأقْفَال, والأقفال أشدُّ ذلك كله . * وقال بعضهم: إنما معنى قوله « ختم الله على قُلوبهم » إخبارٌ من الله جل ثناؤه عن تكبرهم، وإعراضهم عن الاستماع لِمَا دُعُوا إليه من الحق, كما يقال: « إنّ فلانًا لأصَمُّ عن هذا الكلام » , إذا امتنع من سَمَاعه، ورفع نفسه عن تفهُّمه تكبرًا. ***************************************
قال أبو جعفر:
والحق في ذلك عندي ما صَحَّ بنظيره الخبرُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما:- * قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ المؤمنَ إذا أذنب ذنبًا كانت نُكْتهٌ سوداءُ في قلبه, فإن تاب وَنـزع واستغفر، صَقَلت قلبه, فإن زاد زادت حتى تُغْلق قلبه، فذلك « الرَّانُ » الذي قال الله جل ثناؤه: كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [ سورة المطففين: 14 ] . فأخبر صلى الله عليه وسلم أنّ الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها, وإذا أغلفتها أتاها حينئذ الخَتْم من قبل الله عز وجلّ والطبع ، فلا يكون للإيمان إليها مَسْلك, ولا للكفر منها مَخْلَص، فذلك هو الطَّبع. والختم الذي ذكره الله تبارك وتعالى في قوله: ( خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ ) ، نظيرُ الطبع والختم على ما تدركه الأبصار من الأوعية والظروف، التي لا يوصَل إلى ما فيها إلا بفضِّ ذلك عنها ثم حلّها. فكذلك لا يصل الإيمان إلى قلوب من وَصَف الله أنه ختم على قلوبهم, إلا بعد فضِّه خَاتمَه وحلِّه رباطَه عنها. ويقال لقائلي القول الثاني، الزاعمين أنّ معنى قوله جل ثناؤه « ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم » ، هو وَصْفُهم بالاستكبار والإعراض عن الذي دُعوا إليه من الإقرار بالحق تكبُّرًا: أخبرونا عن استكبار الذين وَصَفهم الله جل ثناؤه بهذه الصفة، وإعراضِهم عن الإقرار بما دُعوا إليه من الإيمان وسائر المعاني اللَّواحق به - أفعلٌ منهم, أم فعلٌ من الله تعالى ذكرُه بهم؟
| |
| | | هبة الله الادارة
نقاط : 13559
| موضوع: رد: تأويل سورة البقرة الثلاثاء أبريل 21, 2009 1:32 pm | |
| قال أبو جعفر رحمه الله
فإن زعموا أنّ ذلك فعلٌ منهم - وذلك قولهم- قيل لهم: فإنّ الله تبارك وتعالى قد أخبر أنه هو الذي خَتم على قلوبهم وسمْعهم. وكيف يجوز أن يكون إعراضُ الكافرِ عن الإيمان، وتكبُّره عن الإقرار به - وهو فعله عندكم- خَتمًا من الله على قلبه وسمعه , وختمهُ على قَلبه وسَمْعه، فعلُ الله عز وجل دُون الكافر؟
***************************************** قال أبو جعفر رحمه الله
فإن زعموا أن ذلك جائز أن يكون كذلك - لأن تكبُّرَه وإعراضه كانا عن ختم الله على قلبه وسمعه, فلما كان الختمُ سببًا لذلك، جاز أن يسمى مُسَبِّبه به - تركوا قولَهم, وأوجبوا أنّ الختمَ من الله على قلوب الكفار وأسماعهم، معنًى غيرُ كفْرِ الكافِر، وغيرُ تكبره وإعراضه عن قبول الإيمان والإقرار به. وذلك دخولُ فيما أنكروه . وهذه الآية من أوْضحِ الدليل على فساد قول المنكرين تكليفَ ما لا يُطاق إلا بمعونة الله، لأن الله جل ثناؤه أخبرَ أنه ختم على قلوب صِنْف من كُفَّار عباده وأسماعهم, ثم لم يُسقط التكليف عنهم، ولم يَضَعْ عن أحدٍ منهم فرائضَه، ولم يعذِرْهُ في شيء مما كان منه من خلاف طاعته بسبب ما فعل به من الختم والطبع على قلبه وسمعه - بَلْ أخبر أن لجميعِهم منه عذابًا عظيما على تركِهم طاعتَه فيما أمرهم به ونهاهم عنه من حدوده وفرائضه، مع حَتْمه القضاءَ عليهم مع ذلك، بأنهم لا يؤمنون.
*************************************** يتبع | |
| | | هبة الله الادارة
نقاط : 13559
| موضوع: رد: تأويل سورة البقرة الثلاثاء أبريل 21, 2009 1:34 pm | |
| القول في تأويل جل ثناؤه: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا قال أبو جعفر رحمه الله :
وخداعُ المنافق ربَّه والمؤمنينَ، إظهارُه بلسانه من القول والتصديق، خلافَ الذي في قلبه من الشكّ والتكذيب، ليدْرَأ عن نفسه، بما أظهر بلسانه، حكمَ الله عز وجلّ - اللازمَ مَن كان بمثل حاله من التكذيب، لو لم يُظْهِرْ بلسانه ما أظهرَ من التصديق والإقرار - من القَتْل والسِّباء. فذلك خِداعُه ربَّه وأهلَ الإيمان بالله. فإن قال قائل: وكيف يكون المنافق لله وللمؤمنين مُخادِعًا، وهو لا يظهر بلسانه خلافَ ما هو له معتقدٌ إلا تَقِيَّةً؟ قيل: لا تمتنعُ العربُ من أنْ تُسمّي من أعطى بلسانه غيرَ الذي هو في ضميره تَقِيَّةً لينجو مما هو له خائف, فنجا بذلك مما خافه - مُخادِعًا لمن تخلص منه بالذي أظهر له من التَّقيّة. فكذلك المنافق، سمي مخادعًا لله وللمؤمنين، بإظهاره ما أظهر بلسانه تقيَّةً، مما تخلَّص به من القتل والسِّباء والعذاب العاجل, وهو لغير ما أظهر مستبطِنٌ. وذلك من فعلِه - وإن كان خِدَاعًا للمؤمنين في عاجل الدنيا - فهو لنفسه بذلك من فعله خادعٌ، لأنه يُظهر لها بفعله ذلك بها، أنه يُعطيها أمنيَّتها، وُيسقيها كأسَ سُرورها, وهو مُورِدُها به حِياض عَطَبها, ومجَرِّعها به كأس عَذابها, ومُزِيرُها من غَضب الله وأليم عقابه ما لا قبل لها به . فذلك خديعَتُه نفسه، ظَنًّا منه - مع إساءته إليها في أمر معادها - أنه إليها محسن, كما قال جل ثناؤه: وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ، إعلامًا منه عبادَه المؤمنين أنَّ المنافقين بإساءتهم إلى أنفُسهم في إسخاطهم رَّبهم بكُفْرهم وشكِّهم وتكذيبهم - غيرُ شاعرين ولا دارين, ولكنهم على عَمْيَاء من أمرِهم مُقيمون. ********************************** قال أبو جعفر رحمه الله : وهذه الآية من أوضح الدليل على تكذيب الله جلّ ثناؤه الزاعمين: أن الله لا يُعذِّب من عباده إلا من كَفَر به عنادًا, بعد علمه بوحدانيته, وبعد تقرُّر صحة ما عاندَ ربّه تبارك وتعالى عليه مِن تَوْحيده، والإقرار بكتبه ورُسله - عنده. لأن الله جلّ ثناؤه قد أخبرَ عن الذين وَصفهم بما وصفهم به من النفاق، وخِداعهم إياه والمؤمنين - أنهم لا يشعرون أنهم مُبْطلون فيما هم عليه من الباطل مُقِيمون, وأنَّهم بخداعهم - الذي يحسبون أنهم به يُخادعون ربهم وأهلَ الإيمان به - مخدوعون. ثم أخبر تعالى ذكره أنّ لهم عذابًا أليمًا بتكذيبهم بما كانوا يكذِّبون من نبوة نبيّه، واعتقاد الكفر به, وبما كانوا يَكذِبون في زعمهم أنهم مؤمنون, وهم على الكفر مُصِرُّون.
*********************************** قال أبو جعفر رحمه الله :
فإن قال لنا قائل: قد علمت أن « المُفاعلة » لا تكون إلا من فاعلَيْن, كقولك: ضاربتُ أخاك, وجالست أباك - إذا كان كل واحد مجالس صَاحبه ومضاربَه. فأما إذا كان الفعلُ من أحدهما، فإنما يقال: ضربتُ أخاك، وجلست إلى أبيك, فمَنْ خادع المنافق فجاز أن يُقال فيه: خادع الله والمؤمنين؟ قيل: قد قال بعضُ المنسوبين إلى العلم بلغات العرب : إنّ ذلك حرفٌ جاء بهذه الصورة أعني « يُخَادِع » بصورة « يُفَاعل » ، وهو بمعنى « يَفْعَل » ، في حروفٍ أمثالها شاذةٍ من منطقِ العرب, نظيرَ قولهم: قاتَلك الله, بمعنى قَتَلك الله. وليس القول في ذلك عندي كالذي قال, بل ذلك من « التفاعل » الذي لا يكون إلا من اثنين، كسائر ما يُعرف من معنى « يفاعل ومُفاعل » في كل كلام العرب. وذلك: أن المنافق يُخادع الله جل ثناؤه بكَذبه بلسانه - على ما قد تقدّم وصفه - والله تبارك اسمه خادِعُه، بخذلانه عن حسن البصيرة بما فيه نجاةُ نفسه في آجل مَعادِه, كالذي أخبر في قوله: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا [ سورة آل عمران: 178 ] ، وبالمعنى الذي أخبرَ أنه فاعلٌ به في الآخرة بقوله: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ [ سورة الحديد: 13 ] ، فذلك نظيرُ سائر ما يأتي من معاني الكلام بـ « يُفاعِل ومُفاعل » . وقد كان بعض أهل النحو من أهل البصرة يقول: لا تكون المفاعلة إلا من شيئين, ولكنه إنما قيل: « يُخادِعون الله » عند أنفسهم، بظنِّهم أن لا يعاقَبُوا, فقد علموا خلافَ ذلك في أنفسهم، بحجة الله تبارك اسمه الواقعة على خلقه بمعرفته، وما يخدعون إلا أنفسهم. قال: وقد قال بعضُهم: وَمَا يَخْدَعُونَ يقول: يخدَعُون أنفسهم بالتَّخْلية بها . وقد تكون المفاعلة من واحد في أشياء كثيرة.
| |
| | | هبة الله الادارة
نقاط : 13559
| موضوع: رد: تأويل سورة البقرة الثلاثاء أبريل 21, 2009 1:35 pm | |
| قال أبو جعفر رحمه الله : القول في تأويل قوله جل ثناؤه: وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ إن قال قائل: أو ليس المنافقون قد خدعُوا المؤمنين - بما أظهرُوا بألسنتهم من قيل الحق - عن أنفسهم وأموالِهم وذَرَاريهم حتى سلمت لهم دنياهم، وإن كانوا قد كانوا مخدوعين في أمر آخرتهم؟ قيل: خَطأٌ أن يقال إنهم خَدعوا المؤمنين. لأنَّا إذا قلنا ذلك، أوجبنا لهم حقيقةَ خدعةٍ جازت لهم على المؤمنين . كما أنَّا لو قلنا: قتل فلان فلانًا, أوجبنا له حقيقةَ قتلٍ كان منه لفلان. ولكنا نقول: خادَع المنافقون رَبَّهم والمؤمنين, ولم يَخْدَعوهم بَل خَدعوا أنفسهم, كما قال جل ثناؤه, دون غيرها, نظيرَ ما تقول في رجل قاتَل آخر، فقتَل نفسَه ولم يقتُل صاحبه: قاتَل فلان فلانًا فلم يقتل إلا نفسه, فتوجبُ له مقاتَلةَ صاحبه, وتنفي عنه قتلَه صاحبَه, وتوجب له قتل نفسه. فكذلك تقول: « خادَعَ المنافقُ ربَّه والمؤمنين فلم يخدعْ إلا نفسه » ، فتثبت منه مخادعةَ ربه والمؤمنين, وتنفي عنه أن يكونَ خَدع غير نَفسه، لأن الخادعَ هو الذي قد صحّت الخديعة له، وَوقع منه فعلُها. فالمنافقون لم يخدَعوا غيرَ أنفسهم, لأنّ ما كان لهم من مال وأهلٍ، فلم يكن المسلمون مَلَكوه عليهم - في حال خِداعهم إياهم عنه بنفاقهم وَلا قَبْلها - فيستنقِذُوه بخداعهم منهم, وإنما دافعوا عنه بكذبهم وإظهارهم بألسنتهم غيرَ الذي في ضمائرهم, ويحكُم الله لهم في أموالهم وأنفسهم وذراريهم في ظاهر أمورِهم بحُكْم ما انتسبوا إليه من الملّة, والله بما يُخْفون من أمورِهم عالم. وإنما الخادع من خَتَل غيرَهُ عن شيئِه, والمخدوعُ غير عالم بموضع خديعةِ خادعِهِ. فأما والمخادَع عارفٌ بخداعِ صاحبه إياه غير لاحقِه من خداعه إيّاه مكروهٌ, بل إنما يَتجافى للظَّانّ به أنه له مُخادع، استدراجًا، ليبلغ غايةً يتكامل له عليه الحُجَّةُ للعقوبة التي هو بها مُوقع عند بلوغه إياها ، والمُسْتَدرَج غيرُ عالم بحال نفسه عند مستدرِجِه, ولا عارف باطِّلاعه على ضميره, وأنّ إمهالَ مستدرِجِه إياه، تركه معاقبته على جرمه ليبلغ المخاتِل المخادِعُ - من استحقاقه عقوبةَ مستدرِجِه، بكثرة إساءته، وطولِ عِصيانه إياه، وكثرة صفح المستدرِج، وطول عفوه عنه أقصى غايةٍ فإنما هو خادع نفسه لا شك، دون من حدّثته نفسه أنه له مخادعٌ. ولذلك نَفى الله جل ثناؤه عن المنافق أن يكونَ خدَعَ غيرَ نفسه, إذ كانت الصِّفةُ التي وَصَفنا صفتَه.
***************************************** قال أبو جعفر رحمه الله فيما يتعلّق بقراءة يخدعون:
وإذ كان الأمر على ما وصفنا من خِدَاع المنافق ربَّه وأهلَ الإيمان به, وأنه غير صائر بخداعه ذلك إلى خديعةٍ صحيحة إلا لنفسه دون غيرها، لما يُوَرِّطها بفعله من الهلاك والعطب - فالواجب إذًا أن يكون الصحيح من القراءة: ( وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ ) دون ( وما يخادعون ) لأن لفظ « المخادع » غير مُوجب تثبيتَ خديعةٍ على صحَّة, ولفظ « خادع » موجب تثبيت خديعة على صحة. ولا شك أن المنافق قد أوْجبَ خديعة الله عز وجل لِنَفْسه بما رَكِبَ من خداعه ربَّه ورسولَه والمؤمنين - بنفاقه, فلذلك وجبَت الصِّحةُ لقراءة من قرأ: ( وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ ) . ومن الدلالة أيضًا على أن قراءة من قرأ: ( وَمَا يَخْدَعُونَ ) أولى بالصحة من قراءة من قرأ: ( وما يخادعون ) ، أن الله جل ثناؤه قد أخبر عنهم أنهم يُخادعون الله والمؤمنين في أول الآية, فمحال أن يَنفي عنهم ما قد أثبت أنهم قد فعلوه, لأن ذلك تضادٌّ في المعنى, وذلك غير جائزٍ من الله جلّ وعزّ.
| |
| | | هبة الله الادارة
نقاط : 13559
| موضوع: رد: تأويل سورة البقرة الثلاثاء أبريل 21, 2009 1:35 pm | |
| قال أبو جعفر رحمه الله :
القول في تأويل قول الله جل ثناؤه: وَمَا يَشْعُرُونَ ( 9 ) يعني بقوله جل ثناؤه « وما يَشعرون » ، وما يَدْرُون. يقال: ما شَعَرَ فلانٌ بهذا الأمر, وهو لا يشعر به - إذا لم يَدْرِ ولم يَعْلم- شِعرًا وشعورًا. وقال الشاعر: عَقَّـوْا بِسَـهمٍ وَلَـمْ يَشْـعُر بِـهِ أَحَـدٌ ثُـمَّ اسْـتَفَاءُوا وَقَـالُوا: حَـبَّذَا الوَضَحُ يعني بقوله: لم يَشعر به، لم يدر به أحد ولم يعلم. فأخبر الله تعالى ذكره عن المنافقين: أنهم لا يشعرون بأن الله خادِعُهم، بإملائه لهم واستدراجِه إياهم، الذي هو من الله جل ثناؤه إبلاغٌ إليهم في الحجة والمعذرة, ومنهم لأنفسهم خديعةٌ, ولها في الآجل مَضرة. **************************************** يتبع
| |
| | | هبة الله الادارة
نقاط : 13559
| موضوع: رد: تأويل سورة البقرة الثلاثاء أبريل 21, 2009 1:36 pm | |
| القول في تأويل قوله جل ثناؤه: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ قال أبو جعفررحمه الله
: وأصل المرَض: السَّقم, ثم يقال ذلك في الأجساد والأديان. فأخبر الله جلّ ثناؤه أن في قلوب المنافقين مَرَضًا، وإنما عنى تبارك وتعالى بخبره عن مرض قلوبهم، الخبرَ عن مرض ما في قلوبهم من الاعتقاد ولكن لمّا كان معلومًا بالخبَر عن مرض القلب، أنَّه معنىٌّ به مرضُ ما هم معتقدُوه من الاعتقاد - استغنى بالخبَر عن القلب بذلك والكفاية عن تصريح الخبَر عن ضمائرهم واعتقاداتهم كما قال عُمر بن لَجَأ: وَسَـــبَّحَتِ الْمَدِينَــةُ, لا تَلُمْهَــا, رَأَتْ قَمَـــرًا بِسُـــوقِهِمُ نَهَــارَا يريد: وسبَّح أهل المدينة، فاستغنى بمعرفة السامعين خَبَرَه بالخبَرِ عن المدينة، عن الخبر عن أهلها.
ومثله قول عنترة العبسي: هَـلا سَـأَلتِ الْخَـيْلَ يَـا ابْنَـةَ مَالِكٍ? إنْ كُــنْتِ جَاهِلَـةً بِمَـا لَـمْ تَعْلَمِـي يريد: هلا سألتِ أصحاب الخيل؟
ومنه قولهم: « يا خَيْلَ الله اركبي » , يراد: يا أصحاب خيل الله اركبوا. والشواهد على ذلك أكثر من أن يُحصيها كتاب, وفيما ذكرنا كفاية لمن وُفِّق لفهمه.
فكذلك معنى قول الله جل ثناؤه: ( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) إنما يعني: في اعتقاد قلوبهم الذي يعتقدونه في الدين، والتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم, وبما جاء به من عند الله - مَرَض وسُقْم. فاجتزأ بدلالة الخبَر عن قلوبهم على معناه، عن تصريح الخبر عن اعتقادهم. ********************************************** قال أبو جعفررحمه الله
والمرضُ الذي ذكر الله جل ثناؤه أنّه في اعتقاد قلوبهم الذي وصفناه: هو شكُّهم في أمر محمد وما جاء به من عند الله، وتحيُّرُهم فيه, فلا هم به موقنون إيقان إيمان, ولا هم له منكرون إنكارَ إشراك، ولكنهم، كما وصفهم الله عز وجل، مُذَبْذَبُونَ بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء كما يقال: فلانٌ يمَرِّضُ في هذا الأمر, أي يُضَعِّف العزمَ ولا يصحِّح الروِيَّة فيه.
*******************************************
قال أبو جعفررحمه الله القول في تأويل قوله جل ثناؤه: فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا قد دللنا آنفًا على أن تأويل المرض الذي وصَف الله جل ثناؤه أنه في قلوب المنافقين، هو الشكُّ في اعتقادات قلوبهم وأديانهم، وما هم عليه - في أمر محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر نبوته وما جاء به - مقيمون. فالمرض الذي أخبرَ الله جل ثناؤه عنهم أنَّه زادهم على مرضهم، نظيرُ ما كان في قلوبهم من الشَّكِّ والحيْرة قبل الزيادة, فزادهم الله بما أحدث من حدوده وفرائضِه - التي لم يكن فرضَها قبلَ الزيادة التي زادها المنافقين - من الشك والحيرة، إذْ شكُّوا وارتَابوا في الذي أحدَث لهم من ذلك - إلى المرض والشك الذي كان في قلوبهم في السَّالف، من حدوده وفرائضه التي كان فَرَضها قبل ذلك. كما زاد المؤمنين به إلى إيمانهم الذي كانوا عليه قبل ذلك، بالذي أحدث لهم من الفرائض والحدود إذْ آمنوا به، إلى إيمانهم بالسالف من حُدُوده وفرائضه - إيمانًا.
كالذي قال جل ثناؤه في تنـزيله: وَإِذَا مَا أُنْـزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ [ سورة التوبة: 124، 125 ] . فالزيادة التي زِيدَها المنافقون من الرَّجاسة إلى رَجاستهم، هو ما وصفنا. والتي زِيدَها المؤمنون إلى إيمانهم، هو ما بيَّنا. وذلك هو التأويل المجمَعُ عليه.
******************************************* قال أبو جعفررحمه الله
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قال أبو جعفر: والأليم: هو المُوجعُ. ومعناه: ولهم عذاب مؤلم. بصرفِ « مؤلم » إلى « أليم » ، كما يقال: ضَرْبٌ وجيعُ بمعنى مُوجع, والله بَديع السموات والأرض، بمعنى مُبْدِع. ومنه قول عمرو بن معد يكرب الزبيدي: أَمِــنْ رَيْحَانَــةَ الــدَّاعي السَّـمِيعُ يُـــؤَرِّقنُي وأَصْحَــابِي هُجُــوعُ بمعنى المُسْمِع. ومنه قول ذي الرمة: وَتَــرْفَعُ مِــنْ صُـدُورِ شَـمَرْدَلاتٍ يَصُــدُّ وُجُوهَهَــا وَهَــجُ أَلِيــمُ ويروى « يَصُكُّ » , وإنما الأليم صفةٌ للعذاب, كأنه قال: ولهم عذاب مؤلم. وهو مأخوذ من الألم, والألم: الوَجَعُ. وكل شيء في القرآن من الأليم فهو الموجع . ***************************************** قال أبو جعفررحمه الله القول في تأويل قوله جل ثناؤه: بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ( 10 ) اختلفت القَرَأة في قراءة ذلك فقرأه بعضهم: ( بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ) مُخَفَّفة الذَّال مفتوحة الياء, وهي قراءة عُظْم أهل الكوفة. وقرأه آخرون: « يُكَذِّبُونَ » بضم الياء وتشديد الذال, وهي قراءة عُظْم أهل المدينة والحجاز والبصرة . وكأنّ الذين قرءوا ذلك، بتشديد الذال وضم الياء، رأوا أن الله جل ثناؤه إنما أوجب للمنافقين العذابَ الأليم بتكذيبهم نبيَّه صلى الله عليه وسلم وبما جاء به, وأن الكذِبَ لولا التكذيبُ لا يُوجب لأحدٍ اليَسير من العذاب, فكيف بالأليم منه؟ وليس الأمر في ذلك عندي كالذي قالوا. وذلك: أنّ الله عز وجل أنبأ عن المنافقين في أول النبأ عنهم في هذه السورة، بأنهم يَكذِبون بدَعْواهم الإيمانَ، وإظهارهم ذلك بألسنتهم، خِداعًا لله عز وجلّ ولرسوله وللمؤمنين, فقال: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا بذلك من قيلهم، مع استسرارهم الشكَّ والريبة, وَمَا يَخْدَعُونَ بصنيعهم ذلك إِلا أَنْفُسَهُمْ دون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين؛ وَمَا يَشْعُرُونَ بموضع خديعتهم أنفسَهم، واستدراج الله عز وجل إيّاهم بإملائه لهم، فِي قُلُوبِهِمْ شك النفاق وريبَتُه والله زائدهم شكًّا وريبة بما كانوا يَكذِبون الله ورسوله والمؤمنين بقَوْلهم بألسنتهم آمنَّا بالله وباليوم الآخر، وهم في قيلهم ذلك كَذَبة، لاستسرارهم الشَّكَّ والمرض في اعتقادات قلوبهم في أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم. فأولى في حكمة الله جل جلاله، أن يكون الوعيد منه لهم على ما افتتح به الخبَر عنهم من قبيح أفعالهم وذميم أخلاقهم, دون ما لم يَجْرِ له ذكر من أفعالهم. إذْ كان سائرُ آيات تنـزيله بذلك نـزل، وهو: أن يَفتتِح ذكر محاسن أفعالِ قومٍ، ثم يختم ذلك بالوعيد على ما افتتح به ذِكره من أفعالهم, ويفتتح ذِكْر مساوي أفعالِ آخرين، ثم يختم ذلك بالوعيدِ على ما ابتدأ به ذكرَه من أفعالهم.
| |
| | | | تأويل سورة البقرة | |
|
مواضيع مماثلة | |
|
| صلاحيات هذا المنتدى: | لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
| |
| |
| |
|